6 دقائق قراءة

رغم انهيار الليرة وغلاء الأسعار .. الأسد يحول مؤسسات الدولة إلى “تاجر شاطر”

ما أغفله الأسد، حقيقة تواصل انهيار العملة الوطنية منذ ما قبل بدء الوباء العالمي، وما نتج عن ذلك من تضخم متصاعد تجسد خصوصاً في ارتفاع أسعار المواد التموينية الأساسية والخضروات بشكل جنوبي، إضافة إلى نقص حاد في الخبز والمحروقات.


12 مايو 2020

عمّان – متجاهلاً الأزمة التي كشف عنها ابن خاله رامي مخلوف وتداعيات ذلك، ظهر بشار الأسد مؤخراً، ملتقياً “المجموعة الحكومية المعنية بمواجهة جائحة كورونا وتداعياتها”، وليتحدث لمدة 37 دقيقة عن “كوفيد-19″، وكأنه في مجلس دمى؛ إذ يسأل ويجيب ويطرح حلولاً فيما لا يحرك أي من الحاضرين ساكناً.

في اللقاء ذاته، قال الأسد إنه مذ كان في المرحلة الإعدادية وهو يسمع عن شكوى الناس من كون “الأسعار عالية والتموين لا يقوم بضبط المخالفين”، وهو ما يعني، بحسب رأيه، أن المشكلة في التجار والأجهزة الرقابية التي تتابع حركة الأسواق. وليحمل حديثه تهماً واسعة للتجار والمتنفذين بالتلاعب بالأسعار. فيما يتوجب لوقف ذلك منح المؤسسة السورية للتجارة مزيداً من الصلاحيات والامتيازات. 

لكن ما أغفله الأسد، حقيقة تواصل انهيار العملة الوطنية منذ ما قبل بدء الوباء العالمي، وما نتج عن ذلك من تضخم متصاعد تجسد خصوصاً في ارتفاع أسعار المواد التموينية الأساسية والخضروات بشكل جنوبي، إضافة إلى نقص حاد في الخبز والمحروقات.

وفي أول إجراء اتخذه الأسد بعد أيام من لقائه مع “المجموعة الحكومية المعنية بمواجهة جائحة كورونا وتداعياتها”، أصدر مرسومين رئاسيين، أمس الإثنين، أنهى فيهما مهام وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عاطف النداف، وعين محافظ حمص السابق طلال البرازي بديلاً عنه.

الليرة تنهار

تمثل الاختلالات الهيكلية في بنية الاقتصاد السوري سبباً رئيساً في انهيار الليرة، والتي تضافرت معها لاحقاً تداعيات الحرب التي بدأها النظام ضد الشعب السوري المطالب بالتغيير منذ العام 2011، وما تخلل ذلك من عقوبات اقتصادية دولية وقرارات حكومية تقوم على محاباة رجال الأعمال المحسوبين على دائرته الضيقة، وصولاً إلى تفجر الأزمة المالية في لبنان الذي يمثل رئة دمشق المالية، وأخيراً تفجر الخلاف بين بشار الأسد ورامي مخلوف المهيمن على الاقتصاد السوري منذ عقود.

في الأسابيع الأخيرة التي سبقت إعلان دمشق عن أول إصابة بفيروس كورونا في 22 آذار/مارس الماضي، تأرجح سعر صرف الدولار الأميركي في السوق السوداء عند حدود 1090 ليرة (مقارنة بالسعر الرسمي المحدد بـ438 ليرة). لكن منذ ذلك الحين تشهد الليرة انخفاضاً مستمراً بلغ حدوده الدنيا هذا الأسبوع، مسجلاً أرقاماً غير مسبوقة في تاريخ البلاد، بحدود 1570 ليرة للدولار، وفقاً لموقع الليرة اليوم.

ويشير الخلاف بين مخلوف والأسد الذي لم ينته إلى حل حتى الآن، إلى مزيد من انهيارات الليرة، بما ينعكس سلباً على عامة السوريين المسحوقين نتيجة سنوات الحرب الطويلة، لاسيما في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي ككل من تراجع قد يصل حد كساد غير مسبوق نتيجة جائحة كورونا.

مع ذلك، فإنه “لم تتم المباشرة حتى تاريخه”، كما قال مدير عام المكتب المركزي للإحصاء في الحكومة السورية، إحسان عامر، لصحيفة “الوطن” الموالية، “بأي مسح خاص متعلق بتأثر الاقتصاد والأنشطة الاقتصادية، بتداعيات فيروس كورونا المستجد، وإجراءات التصدي له” في سوريا.

في المقابل، لجأت الحكومة السورية، منذ شباط/فبراير الماضي، إلى توسيع استخدام “البطاقة الذكية” في تقنين السلع المدعومة لتشمل بعض المواد الغذائية الأساسية إضافة إلى المازوت والغاز.

الأسعار تواكب الدولار 

صباح الأحد الماضي، اشترى أبو محمود، كما روى لـ”سوريا على طول”، “علبة عصير” صغيرة من بقالة في الحي الذي يقطنه بمحافظة درعا جنوب سوريا، بـ100 ليرة (0.067$ بحسب سعر الصرف البالغ حوالي 1500 ليرة للدولار). في مساء اليوم ذاته، عاد لشراء نفس العلبة، ليكتشف أن سعرها صار 125 ليرة (0.083$)، نتيجة ارتفاع سعر الدولار خلال الساعات السابقة. وفيما قد لا يبدو الفارق كبيراً، فإن الزيادة التي تطال أغلب إن لم يكن جميع السلع الأساسية، تشكل بالنسبة لملايين السوريين ضربة جديدة لمساعهم تدبير حياتهم. خصوصاً مع توقف الحوالات الخارجية التي كانت تمكن أبو محمود، على سبيل المثال، من إعالة زوجته وأطفاله الثلاثة بعد تراجع دخله من صالون الحلاقة الذي يعمل فيه. وبحيث يخشى الآن عدم تمكنه من شراء ثياب العيد لأطفاله؛ فـ”الأطفال لا يعرفون صعوبة ظروف الحياة”، كما قال.

وقد فرض ارتفاع الأسعار  على كثير من السوريين تغيير نمط معيشتهم، بحيث صارت عائلة أبو وسيم، من مدينة درعا، تعتمد على الأكلات التي تحوي الخضار، مثل “البطاطا والكوسا والباذنجان، والبرغل”، كما قال لـ”سوريا على طول”، و”الابتعاد عن اللحوم والفواكه”. 

الأمر ذاته تعانيه عائلة الصحافية أمل المقيمة في العاصمة دمشق، والتي صارت تتناول اللحوم “مرة شهرياً، وأحياناً مرة كل شهرين، بحسب المصاريف في المنزل”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، فيما صارت “الفواكه كماليات وبذخ من الماضي”. متسائلة “من كان يعتقد أننا سنصل إلى مرحلة التوفير في السكر والشاي والقهوة” أيضاً.

هل أراد الأسد خفض الأسعار أم رفعها؟

حمل حديث الأسد خلال لقائه الفريق الحكومية المعني بمواجهة جائحة كورونا عنوانين رئيسين: الأول، فيروس كورونا وتداعياته الاقتصادية واستراتيجية الحكومة المقبلة في هذا الشأن. أما الثاني، فهو معالجة مشكلة ارتفاع الأسعار في سوريا، ومنح صلاحيات واسعة لـ”المؤسسة السورية للتجارة”.

وفيما كرس الأسد جزءاً كبيراً من كلامه لإلقاء اللوم على التجار والمحتكرين والمهربين وحلقات التجار المتعددة بين مراكز الإنتاج وأسواق الاستهلاك، فقد تعهد باتخاذ إجراءات “شديدة” لوقف ذلك، من خلال مراجعة العقوبات الحالية بشأن المخالفين وتشديدها.

لكن بخلاف النتيجة المأمولة والمفترضة، بدأت أسعار صرف الليرة، وبعد ساعات فقط من تصريحات الأسد، بالانحدار على امتداد الأسبوع اللاحق، مسجلة خسائر غير مسبوقة في قيمتها، وبالتالي ارتفاع أسعار المواد الأساسية بشكل جنوبي.

والحقيقة أنه منذ أواخر آذار/مارس الماضي، وتحت ضغط أزمة كورونا، وسعت حكومة دمشق صلاحيات رجال الأعمال والتجار لاستيراد السلع التي أصبحت الحكومة عاجزة عن استيرادها نتيجة أيضاً للعقوبات الدولية وعدم توافر القطع الأجنبي بشكل كافٍ. وقد اعتمد قسم كبير من هؤلاء التجار على “تهريب السلع والبضائع إلى داخل سوريا” كحل للتغلب على العقوبات الدولية وإغلاق الحدود، بحسب الباحث الاقتصادي السوري يونس الكريم.

وقد أدى “اعتماد الحكومة على الطرق غير الرسمية للاستيراد”، كما أوضح الكريم لـ”سوريا على طول”، إلى “جعل أسعار السلع مرتفعة، لاسيما وأن النظام يسمح بالاستيراد من دون تحديد آلية التسعير، ومن دون أن يساعد في تمويل السلع”. يضاف إلى ذلك “تسخير النظام السوري كل موارد الدولة للآلة العسكرية لأجل التجهيز لمعركة إدلب”.

وبحسب الكريم، فإن “قيمة الليرة الآن والقدرة الشرائية في أسوأ حالاتهما؛ تضخم وعدم توفر السلع، الأمر الذي يثير سخط المواطنين”.

زيادة صلاحيات “السورية للتجارة”

“لماذا هناك فرق كبير بين سعر الأرض أو المزارع وسعر السوق؟”، تساءل الأسد في ظهوره الأخير. وعقب إجابته هو نفسه عن السؤال، قال إنه وحكومته منحا “السورية للتجارة” صلاحيات أوسع لتلعب “دور التاجر”، بحسب تعبيره. مضيفاً: “يمكن أن تقوم الشركة بضمان الأرض [شراء المحصول من المزارعين قبل قطافه مقابل مبلغ معين يتم الاتفاق عليه] من الفلاحين كما يفعل التجار، ويمكنها أيضاً أن تطلب زراعة محاصيل خاصة بها بعد تعاقدها مع الفلاحين، وأن تتدخل في السوق بشكل أكبر، فهي بالمرسوم [التشريعي المنشئ للمؤسسة في العام 2017] تاجر”.  مضيفاً أنه يريد منها “أن تتدخل في الزمن والكمية، أي تستطيع أن تلعب نفس دور التجار؛ تتحكم بالسوق وتقطع الطريق على المحتكرين (..) ويجب أن تصبح التاجر الأكبر والمحدد للأسعار”.

وعلى الرغم من الصلاحيات الواسعة التي منحت لـ”السورية للتجارة” التي نشأت عن دمج المؤسسة العامة الاستهلاكية والمؤسسة العامة للخزن والتسويق والمؤسسة العامة لتوزيع المنتجات النسيجية، تبدو المشكلة في علاقتها بالتجار والمستوردين والمنتجين. وبحسب صحيفة قاسيون التابعة لـ”حزب الإرادة الشعبية” الذي يرأسه نائب رئيس الوزراء الأسبق للشؤون الاقتصادية والمقيم حالياً في روسيا، قدري جميل، فإن “غالبية المواد والسلع التي تتعامل بها المؤسسة تقوم بتأمينها عن طريق الشراء المباشر من التجار والمنتجين والمستوردين (عام وخاص)، وبعضها الآخر يتم عرضه وبيعه في صالاتها من خلال أسلوب البيع بالأمانة لمصلحة التجار، وهذه وتلك من البضائع والسلع بالمحصلة يُضاف إليها هامش الربح الخاص بالمؤسسة، طبعاً بعد أن يكون التاجر قد ضمن ربحه منها”. وبالتالي، فإن “الدور التنافسي غائب لمصلحة التجار”، وفقاً للصحيفة، “ما يعني أن المستفيد من وجود المؤسسة وتوسع انتشارها هم شريحة التجار المتعاملين معها باختلاف توصيفاتهم”.

المؤسسة السورية للإهانة!

“لم استفد منها بشيء فيما يتعلق بالمواد الغذائية”، وصف أبو وسيم تجربته في استخدام البطاقة الذكية. موضحاً أنه “حينما بدأ العمل بها لأول مرة، ذهبت إلى احد فروع [المؤسسة السورية للتجارة] في مدينة درعا للحصول على مخصصات عائلتي، لكن المشكلة أنها دائماً مزدحمة وغالبية السلع غير متوفرة، وحتى المخصصات الأساسية غير متوفرة بشكل دائم”.

وتبلغ حصة المواطن الشهرية من السلع المدعومة بموجب البطاقة الذكية كيلو غرام واحد من الرز والسكر، ولتر واحد من زيت عباد الشمس أو الذرة، و200 غرام من الشاي. وهي “لا تكفي العائلة، في حال توفرها، لمدة أسبوع واحد” بحسب أبو محمود الذي يتواجد أقرب فرع له للمؤسسة السورية للتجارة في مدينة الصنمين على بعد عشرة كيلومترات من مكان سكنه، ولم يتمكن منذ ثلاثة أشهر من الحصول على مخصصاته من الزيت والشاي.

وبالتالي، فإن الفارق بين السعر المدعوم وسعر السوق (الحر)، كما ذكر أبو وسيم، “قد تضطر إلى دفع أجور مواصلات ومحروقات لسيارتك لأجل الوصول إلى فروع المؤسسة والبحث عن القليل من السكر والشاي والإهانة”.

وهو ما شكت منه أيضاً الصحافية أمل. فبعد تجربتها الأولى في أحد فروع “السورية للتجارة” في دمشق، عزفت عن الذهاب إليها مرة أخرى، نتيجة “الازدحام ونقص المواد ورداءتها، وسوء المعاملة”، إلى حد وصفها الوضع هناك بأنه “مهين لكرامة السوريين”.

في الوقت ذاته، أكد ثلاثة من مصادر “سوريا على طول” أن غالبية أسعار المواد التموينية والأساسية في المؤسسة، إما مشابهة لأسعار السوق (غير المدعومة)، أو أعلى منها في بعض الأحيان.

في هذا السياق يبرز اتخاذ المؤسسة صفة “التاجر الشاطر” وفقاً لتوصية الأسد، عبر توسعها بالتجارة بالمواد التموينية خارج البطاقة الذكية، بحيث يحوي فرعها في دمشق “خضراوات ولحوماً ومواد أخرى يمكن شراؤها خارج البطاقة، لكن فرع المؤسسة في الصنمين لا يوجد فيه حتى المواد الأساسية المخصصة للبطاقة [الذكية]”. الأمر الذي يفسر شح المواد المدعومة، ووجود “تمييز بين المحافظات والمناطق”، وفقاً لأبو محمود.

شارك هذا المقال