10 دقائق قراءة

سكان “حي الخليج” في داريا: تلاشي أمل العودة وخوف متزايد على الأملاك


1 يونيو 2023

إدلب- بعد ثلاثة أعوام من سيطرة النظام السوري على مدينة داريا بريف دمشق، في آب/ أغسطس 2016، قرر مالك محمد (اسم مستعار)، مغادرة البلاد فاقداً أمل العودة إلى منزله في حي الخليج، المحاذي لمطار المزة العسكري، لعدم سماح قوات النظام للأهالي بالعودة إلى الحي، الذي تحول إلى خط دفاع أول عن المطار، منذ عام 2012.

ترك محمد، 29 عاماً، منزله في أواخر عام 2012، بعد حملة عسكرية شنها النظام على المدينة، وسكن في مناطق سيطرة النظام بدمشق حتى لحظة مغادرته البلاد، عام 2019، قاصداً تركيا مروراً بمناطق المعارضة في شمال غرب سوريا.

خلال السنوات التي تلت الحملة العسكرية حتى خروج مقاتلي المعارضة في عام 2016، تحول حي الخليج -الذي يمثل الجزء الشمالي الشرقي للمدينة وتمتد أطرافه إلى مطار المزة العسكري- إلى ساحة قتال بين المعارضة وقوات النظام، ليقوم الأخير بتفجير منازل الحي وإقامة ساتر ترابي حوله، كما ذكرت عدة مصادر عسكرية معارضة شهدت المعارك آنذاك لـ”سوريا على طول”.

صورتان جويتان لحي الخليج في مدينة داريا بريف دمشق الغربي توضح الصورة المأخوذة في شباط/ فبراير 2022 حجم الدمار وانعدام الغطاء الأخضر في الحي مقارنة بما كان عليه في أيار/ مايو 2011. مصدر الصور (جوجل إيرث)

مضى على خروج مقاتلي المعارضة نحو سبع سنوات، ومع ذلك ما يزال الحي عبارة عن “منازل مدمرة خالية من السكان”،  كما قال أحد سكان مدينة داريا، طالباً من “سوريا على طول” عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية. في آب/ أغسطس 2016، سيطر النظام السوري على الأجزاء الواقعة تحت سيطرة المعارضة في داريا، بموجب اتفاق مع مقاتلي داريا يقضي بخروجهم مع عشرات المدنيين إلى شمال غرب سوريا، بعد سنوات من الحصار والقصف بالبراميل المتفجرة.

وأضاف المصدر، الذي زار حي الخليج، أن “النظام يسمح للأهالي بالدخول إلى الحي لغرض الزيارة فقط، والتجول فيه سيراً على الأقدام، لأن الحي لم يشهد عمليات إزالة للركام أو إعادة الخدمات، كما لم يدخل ضمن خطة البلدية، باعتبارها المسؤولة عن عودة الخدمات”، على حد قوله.

قانونياً، ما زالت ملكية منزل مالك محمد تعود له في السجلات الرسمية للدولة، كما أخبره محامٍ في دمشق، لكن بعد أن يأس من العودة إلى منزله وإعادة ترميمه، وصل به الحال إلى “بيعه مقابل ألف دولار في حال وجدت زبوناً، بينما تبلغ قيمته قبل دماره حوالي عشرين ألف دولار”.

صورتان جويتان للجزء الجنوبي من حي الخليج في مدينة داريا بريف دمشق الغربي. تكشف الصورة المأخوذة في شباط/ فبراير 2022 تدمير كامل الأبنية في الحي مقارنة مع ما كان عليه في أيار/ مايو 2011. مصدر الصور (جوجل إيرث)
ملكية مؤجلة

مع سماح النظام بعودة الأهالي إلى مدينة داريا، بعد منتصف عام 2018، “عادت حركة إعادة الترميم، ونشطت، إلى حد ما، عمليات بيع وشراء العقارات، لكن بأسعار أقل من القيمة الحقيقية”، كما قال صاحب مكتب عقاري في داريا لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن هويته أو اسم مكتبه لدواع أمنية.

ونظراً لغياب معظم المالكين الأصليين، تتم غالبية عمليات البيع والشراء في داريا عبر عقود بيع، من دون إجراءات نقل الملكية في الدوائر الرسمية، وفقاً لصاحب المكتب العقاري، لافتاً إلى أن نقل الملكية في دائرة الكاتب بالعدل أو المحاكم “هو إجراء معقد”، خاصة إذا كان أحد الطرفين مطلوباً، “وهو ما يجعل  من نقل الملكية معاملة مؤجلة إلى أجل غير مسمى، ولعب هذا الواقع دور في انخفاض أسعار العقارات في داريا”.

وتباع العقارات في داريا بأسعار وصفات تتباين وفقاً لوضعها، بحسب صاحب المكتب، مشيراً إلى عدة صفات للعقارات، منها: “أرض بور، منزل بركامِه، منزل تم تنظيفه من الركام والأنقاض، شقة على العظم [من دون إكساء]، شقة أو دار معفشة”، و”المعفشة” هي الشقة التي سلبت تمديداتها وكسوتها من أسلاك كهربائية وبلاط ورخام وأبواب ونوافذ، ولكنها ما زالت قائمة لم تتعرض للدمار.

على عكس الأحياء الأخرى، لم يشهد حي الخليج حركة بيع وشراء رغم وجود العديد من العقارات المعروضة للبيع وأسعار مغرية، ويعود ذلك إلى أن “من يشتري عقاراً في الخليج كمن يشتري سمكاً في الماء”، وفقاً لصاحب المكتب العقاري، لأن “البيع على الورق، وقد لا يتمكن المشتري من استلام منزله مدى الحياة”، في ظل منع النظام لسكان الحي بالعودة.

رداً على ذلك، قال المهندس مظهر الشربجي، خبير حوكمة ورئيس مجلس مدينة داريا منذ عام 2003 إلى عام 2005، “هناك حركة بيع وشراء في منطقة الخليج عبر وسطاء مرتبطين بجهات أمنية”، لافتاً في حديثه لـ”سوريا على طول” من مكان إقامته في تركيا إلى أن “المشترين هم ضباط ومسؤولون لدى النظام، كونهم يعلمون مصير المنطقة”.

وأضاف الشربجي، الذي تملك عائلته عقارات في الحي: “تتعرض المنطقة لغزو من قبل الغرباء”، الذين يستغلون “حاجة أهالي حي الخليج للمال، وفقدانهم الأمل باسترجاع منازلهم في تلك المنطقة”.

متغيرات تنظيمية

إدارياً، تقع مسؤولية ترميم المدينة وإعادة الخدمات الأساسية على عاتق مجلس مدينة داريا باعتبارها “الجهة التنفيذية”، لكن في الواقع “لا حول لها ولا قوة، كما أنها لا تملك سلطة على حي الخليج نهائياً، الذي أصبح تحت حماية أمن مطار المزة العسكري”، بحسب المهندس مظهر الشربجي.

تقع مدينة داريا أمام “ثلاث متغيرات ستؤثر على إعادة تنظيمها”، بحسب الشربجي، إذ تأثرت المنطقة الشرقية منها بالمرسوم التشريعي رقم 66 لعام 2012، الخاص بإحداث منطقتين تنظيميتين في نطاق محافظة دمشق “لتطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائي”، وضمت المنطقة الأولى المعروفة حاليا باسم “باسيليا سيتي” أراضٍ تابعة لمدينة داريا، وبالتالي “أصبحت الأراضي الداخلة في المنطقة التنظيمية تابعة إدارياً لدمشق”، وفقاً للشربجي.

أما المنطقة الثانية، وهي حي الخليج المحاذي لمطار المزة، لا يتوقع الشربجي أن يسمح النظام للأهالي بإعادة البناء فيها، فيما تقع المنطقة الثالثة في محيط مقام سكينة، وهي منطقة تحولت إلى مزار ديني شيعي، وتقع حالياً “تحت السيطرة الشيعية”، وفقاً للشربجي.

صورتان جويتان للجزء الشمالي من حي الخليج في مدينة داريا بريف دمشق الغربي. توضحان الفارق بين أيار/ مايو 2011 وشباط/ فبراير 2022. مصدر الصور (جوجل إيرث)

وفي هذا السياق، قال المحامي منهل الخالد، الخبير في قضايا حقوق الإسكان والملكية العقارية أن “منطقة الخليج مصنفة بأنها سكن عشوائي، ونسبة الأضرار العمرانية فيها عالية، وأنها مدرجة ضمن المخطط التنظيمي الصادر عن وزارة الأشغال العامة والإسكان السورية في 24 نيسان/ أبريل 2018″، وبموجب ذلك فهي بحسب المخطط “منطقة خالية من دون سكن، أو ما تعرف بـ: صفحة بيضاء، أي أن النظام لا يعترف بوجود سكن عليها”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.

يعزز هذا التصنيف لحي الخليج مخاوف من أن يطاله القانون رقم 10، وبالتالي “إعلانه منطقة تنظيمية جديدة، بذريعة معالجة مشكلة العشوائيات، ومن ثم مسح المنطقة بأكملها، وتحويل الملكية العقارية المترية إلى ملكية عقارية سهمية فقط من دون أي حق بالتعويض لمن ضاعت وثائق ملكيته الخاصة”، بحسب المحامي الخالد.

على النقيض من داريا، تكشف الصورة الجوية، المأخوذة في شباط/ فبراير 2022، للحارة الشرقية في مدينة المعضمية بريف دمشق الغربي تزايد أعداد المباني على الرغم من مجاورتها أيضًا لمطار المزة العسكري، مقارنة بما كانت عليه في الصورة المأخوذة في أيار/ مايو 2011. مصدر الصورة (جوجل إيرث)

تزيد هذه المخاوف مع حقيقة أن “غالبية سكان تلك المنطقة لاجئين ونازحين خارج منطقة السيطرة الحكومية”، أي لا يمكنهم الاعتراض على أي قرارات أو مخططات تنظيمية تستهدف منطقتهم، لأن الاعتراض يجب أن يكون بالحضور الشخصي أو الوكيل رسمي، بحسب الخالد. 

قدّر المهندس الشربجي نسبة سكان داريا الذين عادوا إلى مدينتهم منذ سيطرة النظام عليها، عام 2016، بنحو 15% فقط، فيما لا توجد إحصاءات رسمية عن أعداد العائدين إليها. يذكر أن عدد سكانها، وفق الإحصاء الرسمي في عام 2007، بلغ نحو 255 ألف نسمة، لينخفض العدد إلى نحو سبعة آلاف مدني ومقاتل في الأيام الأخيرة قبل تهجير 2016.

ومن الانتهاكات بحق المواطنين في المناطق الخاضعة لمراسيم وقرارات التنظيم “حجب حق التقاضي عن المواطنين المتضررين بشكلٍ مخالف لنص وروح الدستور”، بحسب المحامي الخالد، مشيراً إلى أنه “لم يُتح لهم سوى الاعتراض الإداري خلال مدد قصيرة تحددها المراسيم الناظمة، كما تم إخراج القضاء من دائرة النظر والرقابة في الدعاوى التي تُرفع بهذا الخصوص”.

وبما أن أغلب سكان المناطق التي تشملها المخططات التنظيمية الجديدة، بما فيها حي الخليج، هم في عداد المطلوبين أمنياً، هذا يعني “أنهم لن يتمكنوا بطريقة أو بأخرى للقدوم والاعتراض على المخطط خلال المدد الزمنية المحددة، ومن شبه المستحيل تنظيم وكالات لأقاربهم، كون تلك الوكالات تحتاج إلى موافقات أمنية، وعلى الأغلب لن تصدر، أو قد تصدر بعد مدة طويلة، بحيث يفوت الأوان على الاعتراض”، وفقاً للخالد.

مسرحٌ للتزوير

بعد استعادة النظام سيطرته على عدد من المناطق كانت بيد المعارضة، نشرت وسائل إعلام سورية عن وقوع انتهاكات بحق الملكية العقارية، تمثل بعضها في تزوير وثائق المهجرين.

وفي نيسان/ أبريل 2023، نشرت وحدة التحقيقات الاستقصائية (سراج) تحقيقاً يكشف عن قيام شبكات أمنية سورية بعمليات تزوير في السجل العقاري لملكيات بيوت يعيش أصحابها خارج سوريا “في واحدة من أكبر عمليات سرقة العقارات”.

وفي داريا، تنبه الأهالي خلال الأشهر الأخيرة إلى ارتفاع عدد الانتهاكات بحق الملكيات العقارية، حيث “يتعامل السماسرة مع مزورين لتسيير عمليات بيع وشراء وهمية، خاصة للعقارات التي هُجّر أصحابها من المدينة”، كما قال محامٍ من مدينة داريا لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية.

ورفض المحامي قبول أي قضية بيع عقاري أحد أطرافها خارج المنطقة، خشية تعريض حقوق أحد الطرفين للخطر، أو أن المعاملة “بحاجة إلى موافقة أمنية، وهذا يدفع الكثير من المحامين إلى رفض مثل هذه القضايا”، على حد قوله.

أمام هذه الانتهاكات، تبقى كل الحلول المتاحة أمام الأشخاص التي وقعوا ضحيتها “محصورة باللجوء إلى القضاء الوطني”، وهذا غير ممكن حالياً، لذلك فيما لو تهيأت البيئة التشريعية المناسبة “يمكن التداعي من أجل إلغاء كافة القوانين لعدم دستوريتها، من قبيل القانون رقم 10 وغيره، والترافع بشأن الحقوق العينية الأصلية المتفرع منها حق الملكية، وجرائم الاعتداء على الأموال التي ينص عليها قانون العقوبات السوري، وطلب الجبر والتعويض عن الأضرار الناجمة عن ضياع تلك الممتلكات”، كما قال المحامي حسام السرحان، عضو لجنة الإدارة في تجمع المحامين السوريين الأحرار (المعارض).

حالة الفوضى القانونية، التي فاقمها “حرق وإتلاف الكثير من السجلات العقارية ودوائر الأحوال المدنية”، خلال سنوات الثورة، “ووضع شروط وعقبات أمام أصحاب الحقوق العقارية”، أدى إلى “إيقاف تسجيل واقعات البيوع في السجلات العقارية في بعض المناطق، والاكتفاء بعقود بيع خارجية غير موثقة وبأسعار بعيدة عن الأسعار الحقيقية”، بحسب السرحان.

وفيما يبحث مالك محمد عن زبون يشتري منزله المدمر بأقل الأسعار. تعليقاً على ذلك، قال المحامي منهل الخالد إن القاعدة القانونية تقول “المفرط بحقه أولى بالضرر، والضرر هنا يصيب كل من البائع والمشتري”، مشدداً على “ضرورة زيادة الوعي القانوني للمواطنين حول القضايا المتعلقة بالسكن والأرض والملكية”، ودعا أصحاب الملكيات العقارية إلى “الاحتفاظ بسندات الملكية، للاستعانة بها في حال وجود تسويات سياسية تتضمن حلولاً لحقوق المالكين، بما فيهم النازحين واللاجئين”.

شارك هذا المقال