سنوات من الإهمال “المتعمد” للخدمات في أحياء حلب الشرقية (صور)
تعاني أحياء حلب الشرقية، التي سيطر عليها النظام قبل نحو سبع سنوات، من سوء الخدمات الأساسية (الكهرباء، تراكم النفايات، تلوث المياه)، حتى بات سكانها يشعرون بأن الإهمال "متعمد"
10 يوليو 2024
حلب- منذ سبع سنوات، ينتظر محمد نعمة، 45 عاماً، وفاء المسؤولين في مدينة حلب بوعودهم في إعادة الخدمات إلى أحياء حلب الشرقية، لكن لا بوادر بتحسين الواقع الخدمي في هذه الأحياء حتى الآن.
في آذار/ مارس 2017، عاد نعمة إلى منزله في حي صلاح الدين بحلب، وهو واحد من أحياء حلب الشرقية، التي استعاد النظام السوري سيطرته عليها في أواخر 2016، بعد حملة عسكرية ضد فصائل المعارضة، انتهت بأكبر عملية تهجير قسري في سوريا.
تضم أحياء حلب الشرقية كلاً من: حي صلاح الدين، السكري، العامرية، الشيخ سعيد، المشهد، الأنصاري الشرقي، الفردوس، الصالحين، المرجة، باب النيرب، الميسّر، الجزماتي، الصاخور، الهلك، بستان الباشا، الشيخ فارس، طريق الباب، الشعار، بستان القصر، الكلاسة، الحيدرية ومساكن هنانو، إضافة إلى أجزاء من حلب القديمة.
منذ سيطرة النظام عليها، تعاني هذه الأحياء من سوء الخدمات الأساسية، كغياب الكهرباء، وتراكم النفايات، وشح المياه أو انعدامها في بعض المناطق، ويزيد الوضع سوءاً بعدم ترحيل أنقاض المنازل المدمرة وتأهيل الشوارع وتعبيدها، حتى بات سكانها يشعرون بأن إهمال الخدمات “متعمد” نظراً لأن “هذه الأحياء كانت حاضنة شعبية لمسلحي المعارضة”، كما قال علي بركات، 30 عاماً، لـ”سوريا على طول”، وهو من سكان حي كرم خصيم بحلب.
في عام 2013، خرجت الأحياء الشرقية عن سيطرة النظام، وتمركزت قوات المعارضة فيها إلى أن تم إجلاؤهم بموجب اتفاق بين المعارضة وروسيا برعاية تركية، في أواخر 2016، بعد حملة عسكرية تسببت بدمار واسع في البنى التحتية والخدمية، تمكنت خلالها قوات النظام والميليشيات الإيرانية من السيطرة على معظم تلك الأحياء وانتهت بـ”التهجير”.
شهدت مدينة حلب أكبر نسبة دمار في سوريا، لا سيما القسم الشرقي، الذي كان له النصيب الأكبر من الدمار، بحسب تقرير صادر عن معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR)، عام 2019، يبين مدى الدمار الذي لحق بالمحافظات والمدن السورية.
أحياء بلا كهرباء
تغيب الكهرباء النظامية (الحكومية) بشكل كلّي عن أحياء حلب الشرقية، بينما تصل إلى الأحياء الغربية بنحو ساعتين يومياً، وترتفع خلال أيام العطل (الجمعة والسبت) إلى ساعتين كل 12 ساعة، بحسب معلومات متقاطعة من مصادر تحدثت لـ”سوريا على طول”.
وعليه، يعتمد سكان حلب، لا سيما في الأحياء الشرقية، اعتماداً كلياً على “كهرباء الأمبيرات”، التي يتم توليدها عبر مولدات خاصة تعتمد في تشغيلها على المحروقات، ويتفاوت ساعات عملها وتكاليف الاشتراك فيها من حي إلى آخر ومن صاحب مولدة إلى أخرى “دون وجود رقابة حكومية عليها”، كما قال محمد نعمة لـ”سوريا على طول”.
تعمل في مدينة حلب نحو 1300 مولدة مرخصة من الحكومة السورية، منها 120 مولدة تغذي الأحياء الشرقية لحلب، بحسب أرقام شاركها مكتب التراخيص القانونية في مجلس مدينة حلب مع “سوريا على طول”.
يدفع نعمة أسبوعياً 65 ألف ليرة سورية (4.5 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء البالغ 14,700 ليرة للدولار الواحد)، مقابل اشتراكه بأمبير واحد من مولدة كهربائية في الحل، وتصل تغذيتها إلى ست ساعات يومياً، من السادسة مساء حتى الثانية عشر ليلاً، ناهيك عن التكاليف الإضافية “إذا حدثت أعطال في القاطع الكهربائي أو الكابل الواصل من المولدة إلى البيت”، على حد قوله.
“بالأمبير الواحد يمكن إنارة المنزل وشحن الهواتف المحمولة”، لكن لا يمكن تشغيل الأجهزة الكهربائية كالثلاجات والمكيفات، بحسب نعمة، الذي لا تسعفه قدرته المالية على زيادة عدد الأمبيرات، لأن دخله الأسبوعي من بيع الخضار “قد يصل إلى 400 ألف ليرة في أحسن الأحوال”، أي ما يعادل 27 دولاراً.
في المقابل، يدفع فاضل أحمدي، 50 عاماً، صاحب مشغل خياطة في حي الصالحين بحلب، نحو مليون ليرة أسبوعياً (68 دولاراً)، لقاء اشتراكه بأحد عشر أمبيراً، بمعدل عشر ساعات يومياً عدا يوم الجمعة، كما قال لـ”سوريا على طول”، أي أن رسوم اشتراك الأمبير الواحد أعلى بنحو 40 بالمئة من اشتراك نعمة.
اعتماد المنشآت الصناعية والتجارية على كهرباء المولدات “ترفع من تكلفة الإنتاج، ما يؤدي إلى زيادة أسعار البضائع”، بحسب أحمدي، وهذا ينعكس سلباً على عمله “لأن التجار يفضلون شراء بضائعهم من الورش التي تعتمد على الكهرباء الحكومية، كون أسعارها أرخص”. تعد المدينة الصناعية في الشيخ نجار الأحسن حظاً بالنسبة للكهرباء، حيث تصلها الكهرباء الحكومية على مدار 24 ساعة.
تعمل المولدات الكهربائية في حلب الشرقية بتوقيتين، الأول: من التاسعة صباحاً حتى السابعة مساءً، وتغذّي المنشآت الصناعية الصغيرة والمحلات التجارية المتواجدة في الأحياء، فيما تغذي مولدات أخرى المنازل بين الساعة السادسة مساء حتى الثانية عشرة ليلاً.
بعد منتصف الليل، تتوقف مولدات الأمبيرات، لتدخل أحياء حلب الشرقية في ظلام دامس، إلا من بعض أضواء الشموع أو مصابيح البطاريات، التي تنبعث أنوارها من داخل المنازل، وهذا “يضعف من الحالة الأمنية ويسمح في حدوث سرقات ليلاً”، وفقاً لأحمدي.
وفي هذا السياق، قال مدير كهرباء حلب، باسل قواص، في تصريح لوكالة “شام إف إم” الموالية، في حزيران/ يونيو الماضي، أن ثلث مدينة حلب من دون كهرباء، معترفاً بأن الأحياء الشرقية الأكثر تضرراً و”لم تأخذ حقها بشكل كامل”.
نفى أحمد الويس (اسم مستعار)، وهو موظف في الشركة العامة للكهرباء بحلب، أن يكون حرمان أحياء الشرقية من الكهرباء متعمداً، مشيراً إلى أن هذه الأحياء “تحتاج إلى إعادة بناء المنظومة الكهربائية بالكامل، بما تحتاجه من كابلات أرضية ومواد ومعدات، وهذا يتطلب إلى سنوات من العمل”، لا سيما مع “نقص الإمكانيات والأيدي العاملة”.
وقال الويس لـ”سوريا على طول”: “عملت الشركة خلال السنوات الماضية على تغذية المناطق الصناعية بما يتوافق مع ميزانيتها”، ويعود ذلك إلى ضرورة “استمرار المنشآت الصناعية بعملها وقدرتها على دفع تكاليف التشغيل على مدار 24 ساعة”، لافتاً إلى أن سعر الكيلو واط الساعي، يبلغ 1900 ليرة (12 سنتاً)، وهي “قيمة كبيرة بالنسبة للتغذية المنزلية”.
مياه شرب ملوثة
لا يبدو واقع المياه في الأحياء الشرقية أفضل حالاً من الكهرباء، إذ تعاني هذه الأحياء بالإضافة إلى الأحياء الشمالية من عدم توفر مياه الشرب الحكومية، وهذا يدفع الأهالي إلى استخدام مياه الآبار، بغض النظر عن كونها صالحة للشرب أم لا، وبتكلفة تصل إلى 40 ألف ليرة أسبوعياً (2.75 دولاراً)، وهي تكاليف تعبئة خزان مياه سعة 1600 لتراً، كما قالت عدة مصادر مدنية من حلب لـ”سوريا على طول”.
حتى بعض الأحياء التي تغذيها شبكات “مؤسسة مياه حلب” تكون “المياه غير صالحة للشرب أحياناً”، كما اشتكت نهى أسود، 40 عاماً، وهي من سكان حي الميسر بحلب، مشيرة إلى أنها تترك “صنبور المياه مفتوحاً لفترة من الوقت حتى يعود لون المياه إلى طبيعتها وتخفّ الرواسب فيها”، ومع ذلك تشعر أن “للمياه رائحة”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
ذكرت عدة مصادر من حلب الشرقية لـ”سوريا على طول” أن أحياء القاطرجي، الميسر، الجزماتي، وكرم التراب، تعاني من تلوث المياه الواصلة عبر شبكات مؤسسة مياه حلب إلى منازل المدنيين.
لذلك، تستخدم أسود المياه الحكومية لأغراض التنظيف وأعمال المنزل، بينما تعتمد في مياه الشرب على “مياه بئر محفور خلال تواجد مسلحي المعارضة في المنطقة”، كما أوضحت. كانت مياه الآبار مصدر المياه الوحيد في فترة حكم المعارضة، بعد أن قطع النظام المياه عن الأحياء الشرقية.
وتدفع أسود شهرياً أربعة آلاف ليرة (27 سنتاً) لمؤسسة مياه حلب، بموجب وصل، نظراً لعدم وجود عداد احتساب الكميات المستخدمة، حسب قولها. عندما تفرض المؤسسة على المواطنين في هذه المنطقة تركيب العدادات، يتعين عليها دفع 22,425 ليرة (1.5 دولاراً) كرسوم تركيب العداد، إضافة إلى دفع الفواتير بناء على كمية استهلاكها.
تعليقاً على تلوث المياه، قال فؤاد الحسين، من سكان حي الميسر وعضو في لجنة الإشراف على خدمات الحي، أن مياه الشرب الرسمية “تختلط بمياه الصرف الصحي في عقدة عند نهاية جسر الشعار، نتيجة تحطم خطوط الشبكة في هذه المنطقة، لافتاً إلى أن حوالي 700 ألف نسمة من سكان الأحياء الشرقية والمحيطة بها يستفيدون من هذه الخطوط المتضررة، التي تمتد إلى الأحياء الجنوبية من المدينة.
أزمة نفايات
وفي مشكلة خدمية لعلّها الأسوأ، لما يترتب عليها من تداعيات صحية، يعاني سكان الأحياء الشرقية في حلب من تراكم النفايات في الشوارع وحول حاويات القمامة لأيام طويلة، وهو ما تسبب بانتشار أمراض جلدية بين السكان، لا سيما اللشمانيا، ناهيك عن انتشار الجرذان والأفاعي بين أنقاض الأبنية المدمرة، كما اشتكى عدد من السكان لـ”سوريا على طول”.
فوق ذلك، يعاني السكان من انتشار أنقاض المنازل المدمرة، نتيجة حملة القصف التي شهدتها المنطقة في الأشهر الأخيرة من سيطرة المعارضة، إضافة إلى تأثر بعض المباني بزلزال السادس من شباط/ فبراير 2023.
يعد قطاع الأنصاري في مدينة حلب “من أسوأ المناطق فيما يتعلق بترحيل القمامة”، كما قال عبد العزيز حمدو، 40 عاماً، وهو من سكان حي المشهد بحلب، رغم أن الأحياء في هذا القطاع “من أكثرها اكتظاظاً بالسكان، وتتطلب ترحيل القمامة بشكل يومي”، لكن في الواقع “يتم ترحيل القمامة مرة أو مرتين في الأسبوع ما يؤدي إلى تراكمها في الشوارع”.
وأضاف حمدو لـ”سوريا على طول”: “يقتصر عمل آليات ترحيل النفايات على إفراغ الحاويات المتواجدة في الشوارع الرئيسية”.
تقدم حمدو بالعديد من الطلبات والشكاوى إلى مديرية القطاع من أجل ترحيل القمامة “لكن دون جدوى”، لافتاً إلى أن الجواب الذي يتلقاه دائما هو أن “القطاع الخدمي يعاني من نقص عدد العمال والآليات وعدم توفر الوقود”.
تعليقاً على ذلك، قال ممدوح خراط (اسم مستعار)، الموظف في مجلس مدينة حلب، أن سبب تراكم النفايات إلى قلة الأيدي العاملة وعدم توفر الوقود لتشغيل الآليات وترحيل القمامة يومياً، ناهيك عن أن الآليات “منتهية الصلاحية فعلياً، لأن عمرها أكثر من 40 عاماً”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
نتيجة انتشار القمامة، تتفشى الأمراض الجلدية، خاصة بين الأطفال في أحياء حلب الشرقية، الذين يتواجدون بالشوارع بقصد اللعب، وتتركز غالبية الإصابات في الرأس والوجه واليدين، كما رصدت كاميرا “سوريا على طول”.
ومنذ مطلع آذار/ مارس 2024 حتى الآن، سجل أحد مستوصفات حلب الشرقية إصابة 375 طفل بمرض اللشمانيا، بحسب مروة الحسامي، ممرضة في المستوصف، مشيرة إلى أنهم يستقبلون يومياً بين 10 و15 إصابة بهذا المرض الجلدي.
وفي أحد شوارع بحي كرم خصيم بحلب، تدفع كل عائلة نحو 50 ألف ليرة سورية لقاء عمل أحد الأشخاص على نظافة الشارع وترحيل القمامة في الصباح والمساء وهو “أمر مكلف للعائلات من أصحاب الدخل المحدود لكن تصرفات الحكومة لم تدع لهم خيار أفضل”، كما قال علي بركات من سكان الحي.