4 دقائق قراءة

صناعة صابون الغار: تراث حلبي يحتضر

إن أربع سنوات من استعادة الجيش السوري السيطرة على كامل المدينة "لم تكن كافية للنهوض ثانية بصناعة الصابون في حلب". بحسب عابد، أحد مصنعي الصابون في مدينة حلب، واصفاً حالها بأنها "متعثرة بشكل كبير".


21 ديسمبر 2020

عمان- أسفل التلة التي تنتصب عليها قلعة حلب، تمتد في قلب المدينة طريق ضيقة مرصوفة بالحجارة، فتقودك الرائحة المميزة إلى أحد المصابن (معمل صابون) المختبئة بين الحواري العتيقة.

إذ تتميز حلب بصناعة صابون الغار الذي يعد أحد أقدم أنواع الصابون في العالم كما أشهرها بفضل المواد الطبيعية المستخدمة في صناعته ورائحته المميزة. وقد احتكرت عائلات حلبية هذه المهنة لعقود طويلة.

تتوزع أغلب المصابن في حواري حلب القديمة المحيطة بالقلعة. وحافظ أغلب أصحابها على الطريقة التقليدية في صناعة الصابون؛ إذ تعتمد في جميع مراحل إنتاجها على العمل اليدوي.

و”يعود أصل تسمية صابون الغار الحلبي إلى زيت الغار المأخوذ من شجرة الغار؛ المكون الرئيس في تصنيع الصابون”، بحسب عابد، 50 عاماً، أحد مصنعي الصابون في مدينة حلب والذي ورث المهنة عن أجداده منذ أكثر من مئتي عام. وأن “أفضل أنواع الصابون هو ما تزيد نسبة زيت الغار فيه عن 25%، بالإضافة لزيت المطراف (العصرة الثانية من الزيتون)، ومادة الصودا الكاوية [هيدروكسيد الصوديوم]”، كما أضاف لـ”سوريا على طول”.

وللصابون طباخ، كما حال أحمد، 60 عاماً، والذي ورث المهنة أيضاً عن جده. وقد جاءت التسمية “من مراحل عملية التصبين وتشابهها بمراحل طبخ الطعام”، كما قال. إذ إن “الالتزام بالمقادير هو سر نجاحها، كما مدة بقائها في القدر الذي توضع فيه المواد الخام، وطريقة تحريكها ومدة غليانها”. 

“تبدأ المرحلة الأولى من صناعة الصابون شتاء”، كما شرح أحمد لـ”سوريا على طول”. إذ “توضع المواد داخل قدر كبير وتمزج على حرارة عالية مع التحريك المستمر. فيوضع أولاً الكوستيك [الصودا الكاوية]، ثم يضاف زيت المطراف، وأخيراً زيت الغار الطبيعي الذي يكسب الصابون قيمته ورائحته المميزة”. لاحقاً “يترك الخليط عدة أيام حتى اكتمال التصبن، ليتم اخراجه بعد ذلك ومده على مباسط. وبعد تبريده يتم تقطيعه يدوياً”.

قدرٌ تمزجُ فيه المكونات التي تدخل في صناعة صابون الغار، شباط/ فبراير 2019، (سوريا على طول)

انتكاسة الحرب

“مع دخول فصائل المعارضة المسلحة والجيش السوري مناطق حلب القديمة واستمرار المعارك فيها، توقفت أغلب المصابن عن العمل”، كما ذكر عابد، و”تكبد أصحابها خسائر فادحة، خاصة أن شهر آب [الذي تلا مباشرة اندلاع المعارك في حلب العام 2012] هو الفترة التي تتم فيها عملية جفاف الصابون الغار وبيعه”.

لاحقاً، وبسبب استحالة وصوله للمعمل، قرر عابد في شتاء 2013 نقل عمله لمدينة غازي عنتاب التركية، لاسيما وأن ذلك يضمن أيضاً “القرب من أماكن توريد زيت الغار، كون أفضل أنواعه موجودة في بلدة سيلفكا التركية”، إضافة إلى “تشابه الطقس بين عنتاب وحلب”. ذلك أن “الطقس البارد والجاف شتاء والحار والجاف صيفاً هو الأمثل لهذه الصناعة”، كما أوضح، لأنه “يساعد في سرعة جفاف الصابون الذي يحتاج بين ستة إلى تسعة أشهر ليصبح قابلاً للاستعمال”. 

صورة تظهر عملية تنشيف صابون الغار، التي تستغرق من ستة إلى تسعة أشهر، شباط/ فبراير 2019، (سوريا على طول)

يضاف إلى ما سبق من أسباب، ضمان استمرار التصدير، “لارتباطي بعقود مع أفراد بدول الاتحاد الأوروبي”، كما قال. 

اليوم، وبعد قرابة سبع سنوات، يعتبر عابد أنه لم يكن مخطئاً بالقرار. إذ إن “أربع سنوات من استعادة الجيش السوري السيطرة على كامل المدينة لم تكن كافية للنهوض ثانية بصناعة الصابون  في حلب”. واصفاً حالها بأنها “متعثرة بشكل كبير”.

إذ فيما كان حجم إنتاج مصبنة أبو زاهر، أحد كبار مصنعي الصابون الحلبي، وحدها قبل العام 2012 “ما يقارب 250 طناً من صابون الغار” سنوياً، من أصل ما يقدّره بحوالي “30 ألف طن من الصابون على مستوى محافظة حلب” آنذاك، كما قال لـ”سوريا على طول”، فإن إنتاج حلب تراجع في العام 2019 إلى “ما يقارب 20 طناً فقط”.

وبحسب مصطفى القصيري، العضو في غرفة تجارة مدينة انطاكية التركية ومصدِّر سابق لمادة زيت الغار لمحافظة حلب، فإنه إلى “ما قبل العام 2012 كان يتم سنوياً تصدير ما بين 40 إلى 60 طناً من مادة زيت الغار لمحافظة حلب فقط. فيما بلغ إجمالي توريد هذه المادة لسوريا ككل حوالي 80 طناً سنوياً”. لكن “منذ العام 2013 انخفض الرقم إلى صفر طن للداخل السوري الخاضع لسيطرة الحكومة السورية” كما أضاف لـ”سوريا على طول”، “ما عدا بعض الكميات القليلة جداً التي يتم تهريبها عبر معبر باب الهوى ومن ثم إلى سرمدا ليصل المصنعين”.

مرحلة وضع العلامة التجارية على ألواح الصابون، (سوريا على طول)

وفيما كانت مدينة حلب ومحيطها تضم “حوالى مئة ورشة لصناعة صابون الغار”، وفق لجنة صناعة صابون الغار التي تأسست العام 2018 من خلال عدد من مصنعي الصابون  في المدينة، تقدر مصادر عودة خمس مصابن فقط للعمل منذ سيطرة القوات الحكومية على كامل مدينة حلب في العام 2016. كما إنها عادت بطاقة إنتاجية منخفضة، نتيجة صعوبة تأمين المواد الأولية، بالأخص زيت الغار، وبحيث اضطر بعض المنتجين الحلبيين للاستعاضة عنه بالبديل المحلي الأقل جودة من بلدة كسب التابعة لمحافظة اللاذقية .

لكن أبو زاهر الذي أعاد فتح معمله في العام 2017 اعتبر أن “المنتج المحلي من زيت الغار لا يضاهي المنتج التركي، ما انعكس بشكل سلبي على كمية الإنتاج والجودة التي عرف بها سابقاً الصابون الحلبي”. 

مضيفاً إلى ذلك معاناة الصناعة “نتيجة هجرة أغلب اليد العاملة المتمرسة، وخاصة معلم طبخ الصابون. لينعكس هذا على جودة المنتج. وكذلك انتشار الغش والتقليد، إذ تلجأ بعض الورش إلى إنتاج الصابون بجودة منخفضة وتزوير أختام منتجين مشهورين بجودة منتجهم مما أفقدنا ثقة المستهلك”، محذراً من اندثار صناعة صابون الغار في حلب، والذي يعدّ أحد رموزها التراثية.

شارك هذا المقال