8 دقائق قراءة

عذاب الغياب: زوجات المعتقلين المختفين ما بين إعدام الأمل أو العيش في سجن الانتظار

لأكثر من أربعة أعوام وأم ملاك في حوار طويل مع […]


10 أكتوبر 2017

لأكثر من أربعة أعوام وأم ملاك في حوار طويل مع الأمل الذي يهمس لها أن زوجها حسين لا يزال على قيد الحياة، قابعاً في عتمة زنزانة ما في سورية.

حسين، وكان آنذاك في الثانية والثلاثين من العمر، موظف في سوبر ماركت، اعتقله النظام السوري على حاجز في دمشق في يوم صيفي عام2013، وكان حسين يزود معارضي بشار الأسد في الحجر الأسود بالطعام والمؤونة، بحسب ما قالت زوجته.

وفي ذلك اليوم الصيفي الذي اعتقل به، غادر حسين منزله في بلدة عقربا، جنوب شرق العاصمة السورية، وهو المأوى الذي كان يسكنه وزوجته وبناتهم الثلاثة منذ عدة أسابيع بعد أن هربوا من قصف النظام لحي الحجر الأسود، الواقع تحت سيطرة الثوار في جنوب دمشق.

وكان حسين متجهاً إلى منزل العائلة في الحجر الأسود، إذ أنه كان يحتفظ  ببعض طيور الحمام على السطح هناك، وكان يرتاد البيت ما بين الفينة والأخرى ليطعمهم ويسقيهم، وفي ذلك اليوم،  نوى أن يطلق سراحهم  وفق ما قالت زوجته، خوفاً عليهم أن يموتوا إن تعذر عليه دخول الحي، فلم يعد واثقاً إن كان سيتمكن من العودة ثانيةً للعناية بهم لا سيما مع ازدياد القصف وتدهور الوضع الأمني في العاصمة وماحولها.

وما تعلمه أم ملاك عما حدث بعدها، بحسب ما أخبرها صبي بعمر الخامسة عشرة من الجيران والذي شهد اعتقاله، أن رجلاً ملثماً أشار إلى زوجها لقوات أمن النظام على الحاجز الذي يفضي إلى الحجر الأسود، فسارعوا إلى وضع حسين بالسيارة ومضوا به إلى موقع مجهول.

ومذ علمت أم ملاك، 36عاماً، باعتقال زوجها لم تصلها عنه أي أخبار بعدها.

“حدسي يقول لي أنه لا يزال حياً”، تقول لسوريا على طول من شقة في عمان، تتولى جمعية خيرية دفع إيجارها، و تسكن فيها مع بناتها الثلاثة ومعها لاجئة سورية أخرى أرملة.

وتسرد أم ملاك “بحثت وبحثت كثيراً عنه، ولكن لم أخرج بشيء”، بعض الناس ممن هم في وضعها يدفعون للمحامين ومسؤولي النظام ليتبينوا ويتحققوا فيما إذا كان من يحبونهم لا يزالون أحياءً أم أنهم ماتوا، ولكنها لم تفعل ذلك.

وأوضحت ” أنّ الأمر يتطلب الكثير من النقود، وليس هناك ما يضمن أن الجواب الذي يمكن أن أحصل عليه سيكون موثوقاً”.

يكثر الحديث عن أم ملاك بلسان أصدقائها ومعارفها ويتهامسون أنه و بعد أربعة أعوام على غيابه في المعتقل ودون أخبار عنه، فمن المستبعد أن يكون ما يزال حياً. ولكن وبغياب دليل يثبت ذلك، فهي مما تزال تتعلق و تتعلل بالأمل.

لافتة يحملها المتظاهرون في جنوب دمشق في تشرين الأول عام 2016 كتب عليها: الحرية للمعتقلين. حقوق نشر الصورة لـ الذاكرة الإبداعية للثورة السورية.

وفي نظر الأهالي والأصدقاء فإن المعتقلين المغيبين هم قناديل معلقة في فضاء مابين الحياة والموت، لا هم يطولونها ولا هي تفارق وجدانهم. ويترك الغياب المطول الذي لايُعرف له نهاية ذويهم أمام خيارات صعبة، فهل يفترضون أنهم ماتوا ويستمرون في الحياة كيفما استطاعوا، أو ينتظرون، ربما لسنوات، وربما للأبد في سرداب الأمل الذي يغويهم بأنهم ما يزالون أحياء في مكان ما؟

بالنسبة لزوجات المعتقلين والمختفين ، فالخيار مفزع ومحفوف بكمائن وهواجس المجهول. فأن تطلّق شريكاً غائباً، حتى ولو أنه ميت افتراضاً، وتتزوج من جديد يوقعها في شرك اتهامات الهجر والخيانة، وأن تبقى وحيدة وتنتظر ربما يظهر إخلاصاً،  ولكنه يفتح بازدياد عيون المجتمع المراقبة التي تقيّم تصرفاتها و تتصيد تحركاتها كأنثى بمفردها و معيلة وربة أسرة.

ويصل عدد المعتقلين الذين تحتجزهم قوات الحكومة السورية حتى هذا العام إلى نحو 92 ألف معتقل، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، ومقره بريطانيا، ومن بينهم أكثر من 76 ألف شخص من ضحايا الاختفاء القسري، وفق تقرير للمرصد بتاريخ آب 2017.  

ويعرّف الاختفاء القسري، وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بأنه “اعتقال أو احتجاز أو اختطاف أشخاص  تقوم به دولة أو منظمة سياسية أو بتشريع أو دعم أو موافقة ضمنية منها، وترفض بعد ذلك الاعتراف بحرمانهم من الحرية من الحرية أو الإدلاء بمعلومات عن أماكن وجود هؤلاء الأشخاص.

وبما أن سوريا ليست دولة عضو في نظام روما الأساسي، فإن البلد ليس ضمن نطاق قضاء المحكمة الجنائية الدولية.

وما يعنيه الاختفاء القسري في سوريا هو أن أكثر من 76 ألف شخص بآمالهم وحياتهم وأحلام وحياة من يحبون المعلقة بهم  اعتُقلت في المظاهرات و على الحواجز و من الشوارع أو من عقر ديارهم وغدت طيف دخان.

ولربما تأتي الأخبار الأولى بعد الاختفاء بمكالمة هاتفية من مسؤول في السجن يبلغهم أن من يحبون قد مات، ويطلب منهم أن يأتوا لاستلام أوراقه الثبوتية.

وربما يعثر آخرون في نهاية المطاف على من يبحثون عنهم على الانترنت، بين آلاف الصور المتجهمة الكالحة لأجساد المعتقلين التي ماتت جوعاً وتعذيباً والتي تم تهريبها من سوريا في عام 2014 على يد عسكري منشق لقب بـ “القيصر”، وبعضهم يتأمل ملياً في 28 ألف صورة قاتمة من العذاب ومن ثم يخرج مع ذلك خاوي اليدين، وإن كان بنوع من المتنفس المرير، وبأمل معلق لم تظهر شهادة موته.

وفي كثير من الأحيان، يخرج المعتقلين بأنباء إلى أحباء معتقل عرفوه وذويه أخاً كان أو أخت أو أم ليقولوا لهم أن غائبهم قد مات.

ولكن ما يزال آلاف الآخرين لا يحيطون علماً بما يجري.

ووفقاً لتقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان في أب 2016 فإن”العذاب اليومي المستمر” لأفراد العائلة هؤلاء هو أعمق تأثيراً وأشد وطأة على “الزوجات والأمهات والأطفال الذين يحملون العبء الأكبر من منظور اقتصادي واجتماعي”.

فمن منظور اقتصادي، قد يكون أولئك المختفون هم المعيلون الوحيدون للعائلة، ومن ناحية اجتماعية، فإن القرار الذي تتخذه زوجة شخص مفقود بالانتظار، كحال أم ملاك، أو الطلاق والزواج بآخر هو ليست مسألة شخصية بقدر ما هو مسألة عامة ولها تداعياتها الاجتماعية.

تقول أم ملاك “إنني أعيش معاناة كبيرة ومأساة ولوم لا ينتهي من المجتمع”.

المنظمة السورية لضحايا الحرب تعرض صور “القيصر” التي توثق التعذيب في زنازين النظام. حقوق نشر الصورة لـ .Philippe Desmazes/AFP

وتعكس تجارب امرأتين اختارتا طريقين مختلفين بعضاً من هذه التداعيات.سواء كانت أم ملاك المرأة التي قررت العيش بمفردها مع أطفالها الثلاثة. أو نائلة فايز،30 عاماً،التي حصلت على الطلاق بعد سماعها بأخبار عن موت زوجها في السجن وتزوجت من جديد.

وتصور قصتيهما المصاعب التي تواجهها زوجات المعتقلين المختفين أياً كانت الطريق التي سيخطونها: الانتظار على مدارج الأمل، أو الطلاق والزواج بآخر.

“من حقي متابعة حياتي

نائلة تقول أنها تعلم أن زوجها علي مات، وإن كانت لم تلمح لا هي ولا أي فرد من عائلته جثته، أو أي أثر يعود له، منذ اعتقاله في عام 2012 على حاجز للنظام في ببيلا جنوب دمشق.

كان علي يعمل في البناء وكان في طريقه إلى عمله حين اعتقل ذات صباح واختفى ، وفق ما قالت نائلة. وكان يشارك في المظاهرات المحلية ضد حكم بشار الأسد.

وبعد أن فُقد زوجها والمعيل الوحيد لأسرتها، انتقلت نائلة وابنيها مع أقاربه إلى محافظة درعا، جنوبي سوريا. وفي عام 2014، ومع ازدياد العنف وتدهور الظروف المعيشية في سوريا، لجأت مع ابنيها إلى الأردن.

في عام 2015، تلقت عائلة علي اتصالاً هاتفياً من أمن الدولة، فرع الخطيب بدمشق، أخبرهم صوتاً بأن يذهبوا إلى الفرع لاستلام الأوراق الثبوتية لعلي، وفهمت العائلة من هذه التوجيهات أنه قتل تحت التعذيب، ولم يتجرأ أي شخص من العائلة للمخاطرة والذهاب لاستلام الثبوتيات، خوفاً من أن يقعوا في فخ نُصب لهم.

وتعتقد نائلة أن زوجها ميت، ولكن عائلته لا تزال ترفض موته بغياب الجثة، ودون دليل أو خاتمة يطوون بها صفحات الأمل، ولا تزال القصص والشائعات عن معتقلين كان يُعتقد أنهم ماتوا وعادوا بعد سنوات تعبث في تفكيرهم.

وبعد مضي عام على تلك المكالمة الهاتفية المصيرية، وأربعة أعوام على اختفائه، ذهبت نائلة التي تبلغ الآن ثلاثين عاماً إلى شيخ في الأردن، وأفتى لها بالزواج من آخر، وتزوجت من ابن عمها.

وذكرت “أنا في النهاية إنسانة ومن حقي متابعة حياتي ولن أبقى في شرك الإنتظار”.

ووفقاً للشرع الإسلامي، والذي يحكم زواج المسلمين السنة، فإن الزوجة تمنح الطلاق إذا فُقد زوجها أو اعتُبر ميتاً افتراضاً بعد غيابه ما بين عامين إلى أربعة وذلك يختلف باختلاف المذهب الفقهي.

والسؤال كيف ومتى يمكن للزوجة أن تُطلق غائباً أو زوجاً ميتاً افتراضاً لتتزوج من جديد، ربما يزداد إلحاحاً وأهمية  ولا سيما وأن الحرب تستمر ومصير أولئك المفقودين لا يزال مجهولاً.

حقوق نشر الصورة لـ الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

في أيلول 2017، أصدر المجلس الإسلامي السوري، ومقره تركيا،  فتوى تحدد أحكام الزوجة التي غاب عنها زوجها لفترات طويلة.

وأوضحت الفتوى أن المرأة يمكنها أن تطلب من المحكمة الشرعية الحكم بوفاة زوجها المفقود أو التفريق في حال طالت غيبته ويمكنها الزواج بعدها، وفي حال ظهر الزوج، فالزواج بغيابه يعتبر لاغياً ويحق له أن يطالب بعودة زوجته إليه .

وذكر أبو بكر، قاضي شرعي بالهيئة الإسلامية، في مناطق المعارضة بسوريا “في حال كان الزوج مفقوداً ولا تعرف أخباره أو مكانه كالمعتقل، ولا يمكن تحديد ما إذا كان حياً أو ميتاً وغلب على الظن هلاكه، فإنها تنتظر أربع سنوات ثم تعتد عدة المتوفى 4 أشهر و10 أيام ثم تتزوج من شاءت ولا تحتاج إذن القضاء”.

وذكرت صحيفة “الوطن” الموالية للنظام في كانون الثاني الماضي أنه تم تسجيل نحو 4000 طلب تفريق أو طلاق في محكمة الشريعة من زوجات المعتقلين المفقودين في عام 2016.

ولكن وعلى الرغم من أن زواج نائلة الثاني أحله الشرع وقبله القانون، إلا أن عائلة زوجها السابق اتهموها بأنها لم تكن وفيةً له.

وقالت نائلة ” هاجموني واتهموني بالخيانة، ورفضوا زواجي رفضاً قاطعاً”.

وأثار صدامها المطوّل مع أقارب زوجها السابق بشأن زواجها الجديد ومصير الأطفال ـ الذين يشرّع الحكم الإسلامي بقائهم معها ـ مشاكل مع زوجها الجديد، وفي نهاية المطاف، رفض تربية أطفالها.

واضطرت نائلة بالنهاية أن ترسل أطفالها للعيش مع عائلة والدهم في درعا، وبعد فترة وجيزة انتقلت إلى مصر مع زوجها الجديد.

وقالت “أحس بحرقة لمفارقة أبنائي”.

“مهما طال غيابه”

وقالت أم ملاك أنها سوف تنتظر عودة زوجها أياً كان الانتظار، إن كان حسين لا يزال على قيد الحياة فهو الآن في 36 من العمر.

وقالت”سأنتظر زوجي مهما طالت فترة غيابه ولن أقبل أن أربي بناتي مع رجل آخر غير زوجي، ولن أقدم على إنهاء هذا الزواج،  وأكون جلادةً أخرى له فهو يذوق الأمرين تحت التعذيب” .

ولكن وعلى الرغم من أن أم ملاك لم تقبل الزواج من آخر، فما تزال سهام المجتمع تصوب نحوها وما تزال بمرماه.

بصفتها امرأة تعيش بمفردها، تقول أم ملاك أنها ترقد تحت مجهر المجتمع، حيث أفراده يتفحصون ويحللون كل الذي تفعله. وعلى اعتبارها زوجة معتقل مفقود  فلها مكانتها العالية، وأي تغيير بسيط يطرأ على حياتها تلوح “في عيونهم نظرات الشك والتخوين”.

وقالت أم ملاك “ينظرون لي على أنني إنسانةً مكسورة الجناح، ومن السهل استغلالي من الرجال خصوصاً”.

وشدد فضل عبد الغني، مؤسس و مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان على الضغوطات الاجتماعية التي تثقل كاهل أولئك الذين تُركوا بغياب المختفين قسرياً  في تقرير للشبكة بعنوان “أين هم؟” بـ آب 2017.

“إن عشرات آلاف حالات الاختفاء القسري المسجلة لدينا، وما تخلفه من اضرابات نفسية وجسدية وعاطفية على الضحايا وذويهم، يجعل الجريمة تُشكل صيغة من أشكال العقوبات الجماعية للمجتمع، وإن كان المجتمع الدولي عاجزاً عن إنقاذ الضحايا بعد سبع سنوات، فلا أقل من أن نتجه للسؤال عنهم ومساعدة ذويهم”.

ومع مرور السنين، تستمر الحياة. فهاهي نائلة وزوجها في مصر. وفي الأردن أم ملاك تربي بناتها تحت أنياب العيون المفترسة التي تحدق بها وتحكم عليها.

في الختام،  يبقى غياب حسين صمت يصم، وقصة لم تنته لبلد وقع في شباك النار ورجل غادر منزله ليطلق سراح الحمام وغاب هو في غمام الضباب والعذاب.

وزوجة “أعيش في سجن الانتظار”.

ترجمة: فاطمة عاشور

شارك هذا المقال