9 دقائق قراءة

عملية إعادة إعمار سوريا تكرار لسيناريو بيروت ما بعد الحرب

في الشوارع المحيطة بوسط بيروت، ظهيرة أحد أيام نهاية الأسبوع، يتصيّد الندُل الزبائن خارج المقاهي شبه الفارغة والتي تبيع الشاي وسندويشات الشاورما. العديد من المحلات التجارية المحيطة إما فارغة أو مغلقة ومعروضة للإيجار. في حين يراقب الجنود اللبنانيون حواجز التفتيش التي تطوق المكان وعلامات الملل بادية عليهم.


14 فبراير 2019

في الشوارع المحيطة بوسط بيروت، ظهيرة أحد أيام نهاية الأسبوع، يتصيّد الندُل الزبائن خارج المقاهي شبه الفارغة والتي تبيع الشاي وسندويشات الشاورما. العديد من المحلات التجارية المحيطة إما فارغة أو مغلقة ومعروضة للإيجار. في حين يراقب الجنود اللبنانيون حواجز التفتيش التي تطوق المكان وعلامات الملل بادية عليهم.

وبحلول نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في عام ١٩٩٠، كانت هذه الشوارع أشبه بمدينة أشباح، ولكن عادت الحياة إلى المنطقة المحظورة المعروفة باسم “الخط الأخضر”، وهو الخط الذي فصل بين شرق بيروت وغربها أثناء الحرب الأهلية، في إحدى أطول النزاعات وأكثرها تأثيراً في الشرق الأوسط.

وقال روني شطاح، مؤسس Walkbeirut للجولات السياحية، الذي عاش فترة ما بعد الحرب أوائل التسعينات “لم يكن بإمكانك الوقوف وسط المدينة آنذاك”.

وأضاف في حديثه لسوريا على طول “كانت هناك حواجز في المدينة، وأماكن لا يمكن الذهاب إليها بسبب الألغام الأرضية.. كان هناك العديد من المشاكل”.

ومع اتفاقيات الطائف لعام ١٩٨٩ التي وضعت حدّاً لحرب لبنان التي دامت ١٥ عاماً، دخل المجتمع اللبناني مرحلة جديدة ورثت العديد من ملامح فترة الحرب: انقسامات طائفية واجتماعية عميقة، وبنية تحتية متهالكة، وأصبح قادة الميليشيات سياسيين في الأحزاب، وبدأت عملية إعادة إعمار بتدمير ما كان في السابق قلب بيروت، حيث تم هدم المباني واحداً تلو الآخر وتسويتها على الأرض.

وأوكلت مسؤولية إعادة بناء أنقاض وسط المدينة إلى شركة  Solidere، وهي شركة مساهمة برئاسة رئيس الوزراء رفيق الحريري، بدعم من السعودية والبنوك اللبنانية ورأس المال الأجنبي، وتمّ إعطاء السكان المحليين وأصحاب الأملاك في المنطقة التجارية التي كانت تسكنها في الغالب الطبقة العاملة في بيروت، عرضاً بنقل ملكيتها إلى Solidere مقابل أسهم في الشركة، وكان من المفترض أن يتم استبدالها في نهاية المطاف بالبنوك والفنادق والمتاجر.

“يسقط حكم الأزعر”، الكتابة على الجدران في وسط بيروت، ٢ شباط. تصوير توم رولنز/ لسوريا على طول.

إن تحويل هذه المنطقة العقارية من منطقة حضرية إلى منطقة تسوق عامة وخاصة للطبقة البرجوازية في بيروت ليس بالأمر الجديد، بقدر ما هو جزء من تقاليد ما بعد الحرب في لبنان، كالمناطق القديمة المتعبة حول النوادي الليلية وجزر الليبرالية المعزولة، ولكن في الشوارع والمحلات شبه الفارغة وسط بيروت، هناك بعض المؤشرات على ما يمكن أن يخبئه المجتمع الحضري عبر الحدود – في سوريا المجاورة – حيث يواصل بشار الأسد ورجال الأعمال المرتبطين بالحكومة خطط إعادة الإعمار الخاصة بهم.

تستخدم السلطات السورية نظام أسهم مماثل لنظام Solidere، بينما تستعد في الوقت نفسه لإعادة تطوير وتجريف أحياء بأكملها، والتي نزح منها عدد لا يحصى من السوريين.

وفي الوقت ذاته، يقول المحللون أن عملية إعادة الإعمار في سوريا ستكون أكثر عنفاً، وأكثر ضرراً على المدى الطويل، أكثر مما حدث في لبنان.

إعادة بناء “المناطق الحضرية غير المنظمة”

فرضت الحكومة السورية وحلفاؤها الآن سيطرتها على جزء كبير من البلاد – رغم أن فصائل المعارضة المدعومة من تركيا والفصائل المتشددة يسيطرون على مساحات شاسعة من الريف الشمالي الغربي، بينما تسيطر قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية على المناطق الموجودة شرق نهر الفرات.

ومع ذلك، أعلنت الحكومة السورية بالفعل خططاً لإعادة تطوير ضواحي دمشق التي تقطنها الطبقة العاملة والتي خرجت ضد الأسد بعد عام ٢٠١١. ويجري الآن مشروع إعادة إعمار كبير في منطقة سكنية عشوائية واحدة، تحت اسم مدينة ماروتا، ويقال أن التسمية جاءت من كلمة آرامية تعني السيادة.

ويتوقع المحللون وجماعات حقوق الإنسان أن تحل ناطحات السحاب ومراكز التسوق محل منطقة الطبقة العاملة والمجتمعات الموالية للمعارضة في ماروتا.

وبالفعل وقّعت شركة دمشق الشام القابضة، وهي شركة قابضة تأسست في أواخر عام ٢٠١٦ لتمويل المشروع، عدة عقود بملايين الدولارات مع الشركات الرائدة ورجال الأعمال السوريين، وفرضت على العديد منهم عقوبات من قبل الاتحاد الأوروبي في أواخر الشهر الماضي.

وسط بيروت في شباط. تصوير: توم رولنز/ لسوريا على طول.

وكانت بساتين الرازي كما عرفت سابقاً، وهي منطقة زراعية بنيت فيها مساكن عشوائية على مقربة من قلب العاصمة دمشق، منطقة عقارية تم إدراجها في المخطط الرئيسي لدمشق الذي تم وضعه حوالي عام ٢٠٠٠.

وبعد المظاهرات المناهضة للحكومة والاشتباكات المتفرقة في بساتين الرازي بين عامي ٢٠١١ و ٢٠١٢، أصدرت الحكومة السورية في وقت لاحق المرسوم ٦٦ لعام ٢٠١٢، ظاهرياً بهدف “إعادة إعمار مناطق العشوائيات [الأحياء الفقيرة]”، على أن يتم منح السكان المحليين تعويضات مادية أو أسهم في المشاريع المستقبلية، قبل أن تتحرك الجرافات لتدمير منازلهم.

وأصبح المرسوم ٦٦ مخططاً لمشروع قانون آخر، صدر في عام ٢٠١٨، يُنظر إليه على أنه قانون إعادة الإعمار الرئيسي في سوريا، ويضم القانون ١٠ لعام ٢٠١٨ المبادئ الأساسية ذاتها الواردة في المرسوم ٦٦، ولكن يمكن تنفيذه في أي مكان تراه الحكومة السورية مناسباً.

وبموجب القانون رقم ١٠، إلى جانب ترسانة من التشريعات المتعلقة بحقوق السكن والأرض والممتلكات التي تم إقرارها أثناء النزاع، فإن الحكومة السورية ستبدأ في تدمير وإعادة بناء الضواحي الشرقية لدمشق: القابون وبرزة وجوبر هذا الصيف.

ووفقاً للمراقبين، قد تشهد مناطق أخرى في دمشق وربما حلب، أكبر مدن سوريا والقوة الصناعية السابقة فيها، تنفيذ خطط مماثلة في المستقبل.

وأشاد مسؤولو الحكومة ومؤيديهم بالخطط باعتبارها تجديداً، وسوف تسمح هذه القوانين للحكومة في النهاية بمعالجة قضية المساكن العشوائية التي كانت، بحلول عام ٢٠٠٠، موطناً لملايين السوريين في جميع أنحاء البلاد. وقد أشاد عمر إبراهيم الغلاونجي، الوزير السابق للإدارة المحلية في سوريا عام ٢٠١٢، بالمرسوم ٦٦ باعتباره “خطوة أولى في إعادة بناء المناطق السكنية غير القانونية، لا سيما تلك التي تستهدفها الجماعات الإرهابية المسلحة”.

ووفقاً لعمار وقاف، مدير مؤسسة جونسس المؤيدة للحكومة، فإن “إعادة تخطيط منطقة بأكملها، تأثرت بشدة بسبب الحرب … هي أكثر تكلفة وأكثر فعالية من الناحية البشرية من إعادة ترميمها أو إعادة بنائها كما كانت في ذلك الوقت”.

وسط بيروت في شباط. تصوير: توم رولنز/ سوريا على طول.

وقال لسوريا على طول إن “الكثير من البناء الذي حدث في العقود القليلة الماضية أنتج مناطق حضرية غير منظمة. سيكون من الخطأ إعادة فعل ذلك بالطريقة نفسها”.

“أقاربي غادروا الآن …”

قيل الشيء ذاته مرة عن بيروت.

يتذكر شطاح قائلاً “كان من المألوف جداً في أوائل التسعينات الحديث عن ولادة لبنان من جديد، وأن بيروت ستولد من جديد وأن تعود البلاد إلى مكانها الصحيح، القطاع المصرفي، العقارات، السياحة، وكل ذلك”.

وتحدثت التقارير الصحفية،في ذلك الوقت، عن بيروت كمدينة “تقوم من تحت الرماد”، وقال أحد السفراء الغربيين لصحيفة نيويورك تايمز في عام ١٩٩٥ أن “الفشل في الحقيقة ليس في الأوراق، والسؤال الوحيد هو ما إذا كان ذلك سيكون نجاح فعلي أو نجاح باهظ ومكلف”.

لكن الولادة الجديدة مكلفة، كان وسط بيروت موطناً لسوق حجري قديم يذهب إليه الأهالي لشراء الفواكه والخضروات والملابس المستعملة والمجوهرات وغيرها من السلع، وأغلق العديد من أصحاب المتاجر أبوابهم وفروا من اللحظة التي اندلع فيها القتال في منتصف السبعينيات.

وبعد ما يقارب عقدين من الزمن، ومع انتهاء الحرب ومجيء Solidere، تخلى هؤلاء السكان الأصليون وأصحاب الأملاك عن حقوقهم العقارية مقابل أسهم في المشروع، وهي أسهم قال المالكون السابقون وممثليهم القانونيين أنها أقل بكثير من قيمتها الحقيقية.

وأقر المحامي اللبناني بهيج طبارة، والمستشار القانوني للحريري خلال سنوات Solidere، فيما بعد بالهدف من وراء تلك الخطوة وهو “إجبار المستأجرين ومالكي الأراضي على تشكيل شركة مساهمة مقابل قيمة حصصهم”، موضحاً “إنها مصادرة للملكية ولكن في نفس الوقت ليست مصادرة حقيقية “.

إن فكرة التعويضات أو الأسهم العقارية الرائدة من قبل Solidere في بيروت يتم تكرارها من خلال تشريعات إعادة الإعمار في سوريا، حيث قال أحد العاملين في المنظمات غير الحكومية ممازحاً في أحد مقاهي بيروت الأسبوع الماضي”[السوريون] أخذوا الفكرة من مكان ما”.

وسط بيروت في شباط. تصوير: توم رولنز/ لسوريا على طول.

وفقاً لـ”دين شارب”، باحث ما بعد الدكتوراه في برنامج الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والمحرر المشارك لكتاب عن العمران منذ ثورات الربيع العربي عام 2011 ، فإن ما يحدث في سوريا هو “تكرار مباشر”،  لأفكار Solidere الرائدة.

[اقرأ المقابلة الكاملة لسوريا على طول مع دين شارب هنا].

وقال شارب “في سوريا، يستخدمون نموذج الشركة المساهمة هذه، إلى حد ما، وهو ما حدث في Solidere، فمقابل حقوق الملكية الخاصة بهم، تم منح [أصحاب العقارات وسط بيروت] أسهماً في الشركة التي كانت تجردهم من حقوق الملكية”.

وأضاف شارب لكن في سوريا اليوم “يتم تجريد الناس أيضاً من حقوق الملكية الخاصة بهم بالكامل، ولا يتم إعطائهم أي نوع من التعويضات، سواء أسهم أو غير ذلك، في الشركة “.

وكما هو الحال وسط مدينة بيروت، فإن العديد من سكان بساتين الرازي الأصليين لم يروا فائدة تذكر من التطورات حتى الآن، على الرغم من العروض المقدمة من السلطات للتعويض أو منح أسهم في مشروع ماروتا، على الورق على الأقل.

وقال أبو خطاب، وهو في الأصل من بساتين الرازي، إن أسرته تركت منازلها دون أي دعم في المقابل من الحكومة.

وأضاف لسوريا على طول “كانت التعويضات فقط للمقيمين الذين كانوا ما يزالون موجودين في منازلهم [في الوقت الذي تم فيه إعلان المرسوم ٦٦]”. وتابع قائلاً “أما بالنسبة للعائلات التي غادرت سوريا بالفعل، حتى لو كان لديها منازل وإثبات ملكية، كان من الصعب للغاية إثبات الملكية من خلال محام وكيل”.

“أقاربي غادروا الآن.. غادروا إلى منطقة أخرى في المدينة”.

وسط بيروت في شباط. تصوير: توم رولنز/ لسوريا على طول.

وفي نهاية المطاف، لا يتوقع أبو خطاب الذي نزح إلى شمال غرب سوريا، أن يعود إلى دياره.

وبحسب ما ورد، تلقّت عائلات أخرى إما تعويضاً أو أسهماً، ولكنه لا يكفي للعيش في مدينة تعاني من ارتفاع الإيجارات والأسعار.

وفي الوقت ذاته، يرى المحللون أن التطورات المستقبلية في المناطق التي أعيد إعمارها لم يتم تصميمها على أساس أخذ سكانها الأصليين بعين الاعتبار، مما يعني أن التعويضات والأسهم ليست كافية للحفاظ على حقوق الملكية.

إعادة الإعمار “العنيف”

تصور الخطط العمرانية لماروتا مدينة مشرقة في موقع ما، بين بيروت ما بعد الحرب والصورة العمرانية المستقبلية للخليج الليبرالي الجديد.

وأفادت التقارير بأن سامر فوز، وهو رجل أعمال سوري وأحد المستثمرين الرئيسيين في “ماروتا”، استثمر 19 مليون دولار لبناء عدة ناطحات سحاب سكنية في الموقع.

وفرض الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي عقوبات على شركة فوز، التي طالما اعتبرت نجماً صاعداً في دوائر الأعمال والمشاريع التابعة للحكومة، بالإضافة إلى العديد من الشخصيات والكيانات التجارية في القطاع الخاص ظاهرياً بسبب “دعم نظام الأسد والاستفادة منه، بما في ذلك من خلال استخدام الممتلكات المصادرة”، إلا أن فوز ينفي تلك الاتهامات.

كما تقوم قناة “لنا” المملوكة من قبل فوز بعرض إعلانات للمشروع بشكل مستمر في الفواصل أثناء إعادة بث المسلسلات السورية القديمة، مشيرة إلى أنه “علامة فارقة” جديدة للعاصمة السورية.

لكن يبدو أنه تم إيقاف بث الإعلان منذ عقوبات الاتحاد الأوروبي. 

 

وإن الشراكات بين القطاعين العام والخاص، والتي من المرجح أن تكون مصحوبة باستثمارات القطاع الخاص الأجنبي، تستعد لمحو مناطق كاملة في المدن السورية، ونمط الحياة فيها فيما مضى.

في غضون ذلك، أشار المحللون وجماعات حقوق الإنسان إلى أن الخطط ستغير بشكل جذري طبيعة المدن السورية – من يعيش فيها، ولأجل من يتم بناؤها- عن طريق تجريد عدد لا يحصى من السوريين الذين يعتبرون مؤيدين للمعارضة، أو غير موالين بشكل كاف، من حقوق الملكية، من قبل الحكومة وشبكتها الأمنية مترامية الأطراف.

وتشير المقترحات إلى كيفية استخدام التخطيط الحضري والبنية التحتية في سوريا خلال سبع سنوات من الحرب كسلاح، مما يثير المخاوف من أن تكون خطط إعادة الإعمار بالقدر ذاته من العنف في الحرب. 

ووفقاً لباحث معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا شارب، فإن استخدام المساحات الحضرية كعقاب ليس واضحاً، لكنه “بنفس القدر من العنف، ويمكن أن يتسبب بالموت والعوز، تماماً كانفجار ضخم في مبنى”.

وكما هو الحال في مشاريع الهدم وإعادة الإعمار التي أعقبت الحرب في بيروت، فإن الحكومة السورية “تستهدف شريحة معينة من السكان بطريقة ما… لا لتعزيز التماسك الاجتماعي أو لتضميد جروح الحرب، ولكن من أجل التسبب بالمزيد من التشريد والتحكم في بعض المسارات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية للسلطة”.

وفي وقت ما في المستقبل، قد يتشابك المصير العمراني في المدينتين مرة أخرى.

وتشجع السلطات اللبنانية بالفعل اللاجئين السوريين على العودة من لبنان، على الرغم من احتجاجات المفوضية بأن العودة ليست آمنة.

وبدأ تعزيز التقارب اللبناني مع دمشق بالفعل في بلد يديره – بعد تشكيل الحكومة الأولى منذ تسعة أشهر، الأسبوع الماضي- العديد من الوزراء الموالين لدمشق، بالإضافة إلى وزير تربطه علاقات مباشرة مع الرئيس الأسد وعائلته.

وقال شطاح “أعتقد أن الوضع الذي تعيشه سوريا، سواء للأفضل أو الأسوأ، سيعكس إلى حد كبير ما حدث للبنان”.

“كان النظام السوري جزءاً من مرحلة ما بعد الحرب في لبنان، وقد يصبح اللبنانيون جزءاً من هذه القصة أيضاً”.

 

ترجمة: سما محمد

 

شارك هذا المقال