7 دقائق قراءة

فلسطينيو مخيم اليرموك يعيشون النزوح مرتين بعد إجلائهم من دمشق

في مخيم اليرموك بالعاصمة دمشق، بدأ إبراهيم الخليلي ببناء حياته […]


في مخيم اليرموك بالعاصمة دمشق، بدأ إبراهيم الخليلي ببناء حياته من الصفر، بحقيبة واحدة من الملابس وخيمة، بعد فراره من فلسطين عام ١٩٦٧، واستطاع تكوين أسرة وعملاً تجاريا في المخيم الذي نما ببطء متحولاً من مخيم للاجئين إلى حي من أحياء العاصمة السورية.

لكن هذا الشهر، بعد أكثر من خمسين عاماً على وصوله إلى سوريا، هُجّر الخليلي من جديد وتم إجلاؤه إلى الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة، تاركاً وراءه كل شيء عمل بجد من أجله.

يقول الخليلي لمراسلة سوريا على طول، بهيرة الزرير، من جرابلس “شاهدت بعيني كيف دمرت الحرب تعب آلاف الناس.. وأولادنا يعيشون الآن ما عشناه في المخيمات وسيورثوه لأطفالهم”.

ويشكل مخيم اليرموك، الذي حكمه تنظيم الدولة على مدى السنوات الثلاث الماضية، جزءاً من قسم أكبر من جنوب دمشق حاصرته قوات الحكومة السورية في عام ٢٠١٣.

وفي نيسان، شنت القوات الحكومية حملة عسكرية مكثفة لاستعادة المخيم، ونتيجة لذلك فر الآلاف من المدنيين إلى بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم المجاورة التي تسيطر عليها المعارضة، بحسب ما أوردته وكالة الأنباء IRIN في ذلك الوقت.

وبحلول نهاية الشهر، قدرت الأمم المتحدة أن ٦٢٠٠ فلسطينياً فقط ما زالوا في المخيم المحاصر، الذي كان في السابق موطناً لـ ١٥٠ ألف شخص.

وفي بداية شهر أيار، استسلمت فصائل المعارضة المسيطرة على هذه البلدات الثلاث وبدأت بمغادرة المنطقة بموجب اتفاقية تسوية مع الحكومة السورية برعاية روسيا، حيث اختار الآلاف من المقاتلين والمدنيين مغادرة جنوب دمشق لدى عودته لسيطرة الحكومة.

وكان الخليلي وأبو حسين، مدني آخر من مخيم اليرموك فرّا من مخيم يلدا في نيسان، من بين الذين تم إجلاؤهم، وعاشا تجربة أخرى للنزوح بعد عقود من فرارهم من فلسطين.

ويقول أبو حسين، لمراسل سوريا على طول، أمجد الحوامدة “لا فرق عندي بين ترك بيتي في فلسطين وترك بيتي في مخيم اليرموك…كان من الصعب أن أترك وطني مرتين”.

قافلة من الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من جنوب دمشق في شمال حلب في ١١ أيار. تصوير جورج أورفليان/ وكالة فرانس برس.

 

إبراهيم الخليلي، ٦٧ عاماً، في الأصل من مدينة الخليل، كان يمتلك متجراً لبيع الملابس في اليرموك لكنه غادر إلى يلدا المجاورة في نيسان، ثم تم إجلاؤه مع أبنائه إلى جرابلس الخاضعة لسيطرة المعارضة في محافظة حلب، وطلب استخدام اسماً مستعاراً خوفاً على أفراد عائلته الذين ما زالوا في يلدا.

 

حدثنا عن نزوحك من فلسطين إلى سوريا، وكيف بدأت بتأسيس حياتك في سوريا؟

كان عمري حينها ١٦ عاماً أو أكثر قليلاً عندما نزحنا إلى دمشق في بداية عام ١٩٦٧،  كان والدي حينها خائف علينا وقال لنا: دعونا نغادر إلى دمشق لعدة أيام ثم نعود، وأخذنا معنا حقيبة واحدة فقط فيها ملابسنا.

في البداية، عشنا بخيمة في مخيم اليرموك، وبعدها بفترة أصبح بيتناً من الصفيح، لم يكن هناك نظام صرف صحي أو  شبكة مياه، وكان علينا أن ننقل الماء من الآبار إلى منازلنا.

كنا كل يوم نفكر بالعودة إلى فلسطين.

وافتتح والدي متجراً صغيراً وعملنا فيه أنا ووالدي وإخوتي، مرت الأيام والسنين، بحلوها ومرها، ومات والدي بعد أن عاش ١٠ سنوات في المخيم ودفن في دمشق.

ومع مضي الوقت، تحسنت أوضاع الناس جميعاً، وتأقلمنا مع الوطن الجديد، بنت الناس بيوتاً واشترت محلات وامتلأ المخيم بالمباني، كان لنا الحق بالتملك والحصول على هويات سورية، استمرت الحياة، تزوجنا أصبح لدينا أطفال وربينا أطفالنا في سوريا.

أسسنا لحياتنا في سوريا لكن كنا دائما نفكر بالعودة إلى فلسطين، ونتذكر حياتنا هناك، ثم جاءت الحرب التي دمرت كل شيء بنيناه ودمرت أملنا بالاستقرار والأمان.

كرجل مسن تجاوزت سن الخدمة الإلزامية، ماهي أسباب خروجك من يلدا إلى جرابلس؟

خرجت لأني كبير بالسن، توفيت زوجتي باليرموك – كانت تعاني من فشل كلوي – وتوفيت لأنه لم يكن هناك رعاية طبية في المخيم.

تحطم قلبي، بقيت في اليرموك ولم أغادر حتى آخر رصاصة، كي لا أعيش حياة النزوح مرة أخرى. ولكن هذه إرادة الله.

غادر أولادي جميعهم إلى جرابلس وأصروا أن أخرج معهم، لم يقبلوا أن أبقى في يلدا.

خرجت من اليرموك بعد ما شاهدت دمار البيوت التي تعبنا وشقينا حتى بنيناها، شاهدت بعيني كيف دمرت الحرب تعب آلاف الناس، لنعود لنفس المعاناة. شو ذنبنا نحنا؟

ربما قدرنا كفلسطينيين أن نبقى بلا مأوى، مشردين دون مستقبل.

كيف تقارن نزوحك الحالي من مخيم اليرموك إلى جرابلس بنزوحك من فلسطين عام ١٩٦٧؟

في كلا المرتين تركنا بيوتنا وخسرنا كل شيء أسسناه وتهجرنا إلى المخيمات، الحياة بالمخيمات نفسها أيضاً: الأولاد يعيشون في الخيام وفي البراري، والتشابه بالمنظمات التي توزع مساعدات لأننا نازحين، كما أننا نواجه صعوبة بالحصول على كل شي، أولادنا يعيشون الآن ما عشناه في المخيمات وسيورثوه لأطفالهم.

التشابه أيضاً بأن الجميع هنا لديهم أمل بالعودة، جميع الناس تتكلم عن عدد الأيام التي سنمضيها قبل أن يغادر بشار الأسد ونعود نحن.

والتشابه بأن العالم أجمع يشاهد كيف نتهجر ويبقى صامتا، تماما كما حدث معنا بفلسطين.

وما هي بعض الاختلافات بين تجربتي النزوح اللتين عشتهما؟

هناك فرق كبير، في فلسطين، جاء اليهود وأخذوا وطننا لأنه ليس لديهم وطن، لكن بشار، هذا وطنه ودمره، وجلب محتلين روس وإيرانين وأتراك لأنه أراد أن يبقى رئيساً.

خرجنا من اليرموك إلى يلدا بسبب خوفنا على حياتنا، ومن يلدا نزحنا إلى هنا بإرادتنا، في فلسطين لم يخيرنا أحد بأن نبقى أو نرحل، لذا كان أملنا بالعودة موجود، لكن الآن خيرتنا الحكومة، لذا أرى أن العودة أصبحت مستحيلة.

الاختلاف، هو فقط بالزمان والمكان، فالتاريخ يعيد نفسه لكن الأطراف مختلفة.

هل لديك أمل بالعودة إلى مخيم اليرموك؟

الأمل بالله وحده، لكن بعد كل ما شاهدته باليرموك وقارنته بما حدث بفلسطين، “إذا رجعت فلسطين برجع المخيم” هذا أمر مستحيل ليس لدي حتى ١٪ من الأمل بالعودة، نحن وإخواننا السوريين نعيش نفس الظروف، الله يفرجها عليهم وعلينا.

أبو حسين ، ٦٩ عاماً، من قرية بيار عدس الفلسطينية، غادر مخيم اليرموك في نيسان، وتم إجلاؤه من جنوب دمشق إلى إدلب في ٦ أيار، كان يعمل مدرساً للغة العربية في إحدى مدارس الأونروا في اليرموك لكنه تقاعد منذ سبع سنوات.

 

هل يمكنك أن تحدثنا عن اليوم الذي نزحت فيه من فلسطين؟

خرجت في عام ١٩٦٧ من وطني فلسطين بعد احتلال إسرائيل لقريتي، بيار عدس، شمال شرق يافا،كنت حينها في الـ ١٧ من عمري، وأذكر كيف كان المستوطنون وجنود الاحتلال الإسرائيلي يأتون إلى بيتنا في كل ليلة ويطلقون الرصاص في محيط المنزل وتكسير زجاج النوافذ.

وفي إحدى المرات خرج والدي ليشتري بعض الخضار للمنزل وإذا بمجموعة من المستوطنين يقفون في فناء المنزل، وانتظروا والدي حتى خروجه وانهالوا عليه بالضرب وبعبارات لم أفهم معناها لكن صداها لا يزال في ذهني.

خرجت مع أخي لأدفعهم عن والدي فانهالوا بالضرب علينا، حتى غبت عن الوعي.

استفقت وأمي تمسح الدماء عن وجهي، وكنت أسمع أبي يقول يجب أن نرحل الليلة “ففلسطين ما عادت لنا”.

استأجر أبي إحدى السيارات ووضعنا شيئاَ من أثاث المنزل وسرنا في تلك الليلة نحو ٨ ساعات لأغيب عن الوعي حينها، بسبب استمرار نزف الدماء من رأسي، استفقت في أحد المشافي السورية، وخرجت بعدها بثلاثة أيام إلى منزلنا الجديد في مخيم اليرموك.

وكنت أفكر في كل لحظة بالعودة إلى فلسطين، بيتينا الذي لن أنسى تفاصيله رغم صغر سني آنذاك، شوارع حينا التي لا تزال في مخيلتي.

كانت لحظات الخروج من فلسطين، كلحظات الموت بالنسبة لي و لعائلتي.

مدنيون يفرون من مخيم اليرموك، يوم الاثنين. تصوير: مخيم اليرموك (قلب الحدث)

كيف كانت حياتك كفلسطيني في مخيم اليرموك قبل الحرب؟

قبل الحرب في سوريا، كنت أدرّس مادة اللغة العربية في أحد مدارس منظمة الأونروا. وكنت كأي سوري موجود في هذه البلاد أبحث عن تأمين متطلبات العيش وأسعى لتأمين حياة كريمة لأولادي.

وكان مخيم اليرموك بالنسبة لي وطني الثاني، الذي اعتدت العيش فيه أنا و زوجتي و أبنائي  لمدة ٦٠ عاماً، وطوال تلك السنوات تلاشى الأمل بالعودة إلى فلسطين بالنسبة لي على أقل تقدير، و لكني زرعت ذلك الأمل في أبنائي.

هناك الكثير من القصص التي حاول من خلالها نظام الأسد التفريق بين الفلسطينيين والسوريين، ولكن الشعب السوري كان يدرك ذلك وكنا في المخيم سوريين وفلسطينيين أخوة لا يفرقنا أي شيء.

عشنا الحصار معاً، وامتزجت دماؤنا معاً.

وبعد السنوات السبع الماضية من الحصار والقتل في مخيم اليرموك أصبح همي الوحيد هو الخروج من ذلك الجحيم، لم أعد أفكر في العودة إلى فلسطين لكن ذلك الأمل ما يزال موجودا في أبنائي.

لماذا اخترت مغادرة مخيم اليرموك والتوجه إلى إدلب؟

عندما بدأت الثورة في سوريا ضد نظام الأسد، لم أكن بمنأى عمّا يحصل، خرجنا في التظاهرات السلمية ضد نظام الأسد الذي طالما سعى للتفريق بين السوريين و الفلسطينين، كنت أخرج مع أبنائي الثلاثة مصطفى وعمر وحسين، و ننادي بإسقاط النظام.

وكما واجهنا إجرام الأسد وميليشيات أحمد جبريل، واجهنا إجرام داعش الذي سيطر على المخيم خلال السنوات الماضية، كأنما قدر لنا القتل أينما ذهبنا، وتعرض المخيم لحصار شديد، حتى أصبحنا نبحث عن رغيف الخبز في حي كامل من أحياء المخيم ولا نجده في غالب الأحيان.

ثم ازدادت شدة الحصار وبدأ النظام عمليته العسكرية الأخيرة للسيطرة على مخيم اليرموك، وكنا نسمع عن اتفاق ربما يحصل في بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم المجاورة، يقضي بإجلاء الراغبين إلى شمال سوريا.

سرعان ما وافقت على ذلك الأمر رغم تجربتي لمرارة التهجير. ولكن ربما كان هذا الخيار الوحيد الذي أملكه فلا شيء هنا في المخيم سوى انتظار الموت.

لو بقيت في المخيم بعد سيطرة النظام عليه، سيكون مصيري و مصير أولادي القتل، فالأنظمة الديكتاتورية لا تنسى من ثار ضدها.

كيف تقارن مغادرة فلسطين بمغادرة مخيم اليرموك؟

فلسطين هو وطني الذي ولدت فيه، وسوريا هو وطني الثاني الذي عشت فيه طيلة سنوات عمري، فنحن فلسطينيو الهوية و لكننا جزء من الشعب السوري الذي احتضننا طوال عقود مضت، ولا فرق عندي بين ترك بيتي في فلسطين و ترك بيتي في مخيم اليرموك. وكان من الصعب أن أترك وطني مرتين.

 

ترجمة: سما محمد.

شارك هذا المقال