9 دقائق قراءة

في بلدة تتعافى من ويلات تنظيم الدولة: ذكريات التآخي الإسلامي المسيحي يسردها بعض أبنائها

في بلدة القريتين النائية في محافظة حمص، والتي تقع على […]


7 نوفمبر 2017

في بلدة القريتين النائية في محافظة حمص، والتي تقع على طول الأوتوستراد الذي يعبر الصحراء بين دمشق وتدمر، التقى صاحب المحل أبو محمد فاروق للمرة الأولى مع الخوري الكاثوليكي الأب جاك مراد، منذ ١٧ عاماً.

حلّ بشار الأسد محلّ والده كرئيس للجمهورية، وجاءت الحرب التي مزقت البلدة – والبلد ككل – بعد أكثر من عشر سنوات على توليه السلطة، كما جاءت الهجمتان الدمويتان لتنظيم الدولة على القريتين بعد سنوات، تلاهما نزوح جماعي للمسلمين ولمن تبقى من المسيحيين في البلدة، التي كانت تضم خليطاً دينياً، وكأنّ هذه المآسي دلالة على انتهاء التعايش السلمي بين الأديان في القريتين!.

يقول فاروق، الذي كان يبلغ من العمر 48 عاماً آنذاك، أنه عاد لتوه إلى مسقط رأسه، القريتين، بعد عدة سنوات من العمل في المملكة العربية السعودية، وعند عودته، افتتح متجراً متواضعاً لبيع مواد البناء بغية تأمين لقمة عيشه وزوجته وأطفاله الصغار.

وذات صباح، بعد مدة قصيرة من عودته إلى المدينة، قال فاروق ” بينما كنت في عملي وقفت سيارة أمام باب المحل كان رجلاً غريباً، وكان عندي زبون في الوقت ذاته، أخبرته أن ينتظر حتى نرى الرجل باعتباره غريب عن المنطقة”.

أضاف فاروق “كان الرجل يرتدي ثياباً عادية، بنطالاً وقميصاً، وعليه علامات الوقار، وسألني عن مكان ورشة نجارة، فأخبرته أن المكان قريب”، عندها أرسل فاروق ابنه محمد البالغ من العمر سبع سنوات ليقود الغريب إلى ورشة النجارة القريبة.

تابع فاروق، من لهجته “عرفت أنه حلبي”..

“بعد أسبوع جاءني هذا الرجل وعندما رأيته تذكرته”… دعاه فاروق ليحتسي كوباً من الشاي، وجلس الاثنان معاً في المحل لبعض الوقت، يقول فاروق “حتى ذلك الوقت لم أكن أعرف ما إذا كان مسيحياً أو مسلماً، وماذا يعمل، وما سبب تواجده في القريتين”.

“وهكذا بدأت العلاقة”.

كان الأب جاك مراد، أو الأب جاك، كما يناديه فاروق، قد وصل لتوه إلى القريتين من مسقط رأسه حلب، حيث عمل قساً كاثوليكياً، ورئيساً لدير القديس إليان القديم في المدينة، وفي عام ٢٠٠٠، قبل سنوات من اندلاع الحرب، كان الدير إلى حد كبير في حالة سيئة.

ويقال إن القديس إليان، وهو مواطن من مدينة إميسا القديمة، مدينة حمص الآن، مات منذ أكثر من ألف سنة أثناء سفره عبر الصحراء المحيطة بالقريتين، ودفن في قطعة أرض بني عليها الدير.

ووصل الأب مراد إلى القريتين، على بعد نحو ٧٠ كيلومتراً جنوب شرق مدينة حمص، في مهمة من الوزارة السريانية الكاثوليكية.

القريتين في ٢٩ تشرين الأول، بعد أن استعادت قوات النظام المدينة من تنظيم الدولة. لؤي بشارة

يعود الأب مراد في ذاكرته للوراء فيقول “في أول يوم جئت فيه إلى القريتين كنت بحاجة للناس لأننا بدأنا بإصلاح الغرف القديمة بالدير(…) لم أكن أرتدي ثياب الخوري إلا أن أبا محمد أرسل ابنه مرافقاً لي بكل ثقة ورحابة صدر ولطافة، رغم أنه لا يعرفني جيداً”.

قبل تعيينه، سمع مراد أن المجتمع المسلم المحافظ في البلدة كان منغلقاً إلى حد ما، لكن لقاء مراد مع فاروق، وبعد ذلك الصداقة الوثيقة معه، يقول مراد “كانت مهمة بالنسبة لي ومن هنا أخذت فكرة عن إسلام القريتين… يعني شو بدنا أحسن من هيك؟”.

وبعد قرابة عقدين من الزمن، واندلاع الحرب في وقت لاحق، يعيش الصديقان بعيداً عن القريتين بعد فرارهما من البلاد بسبب الحرب.

واليوم، تركت نيران القصف أثرها على جدران المنازل والمحلات التجارية في المدينة الصحراوية، وذلك بعد أن طردت قوات النظام السوري تنظيم الدولة قبل أسبوعين – للمرة الثانية.

وتعكس الصداقة بين فاروق ومراد، التي امتدت حتى بعد سفرهما، صورة العلاقات بين أهالي البلدة التي ضمت خليط أديان مختلفة، وهي اليوم تتعافى بعد أن نفذ مقاتلو تنظيم الدولة “مجزرة” بحق سكانها – المسلمين والمسيحيين- الشهر الماضي، وقتل ما لا يقل عن ١٠٠ رجل من القريتين، من مختلف الأعمار، على يد التنظيم خلال شهر تشرين الأول، وفقاً لما ذكرته صفحة البادية ٢٤ الإخبارية المعارضة على الفيسبوك، كما نفذت عمليات الإعدام بحق السكان بتهمة ارتباطهم بالنظام السوري.

وكان اثنان على الأقل من ضحايا التنظيم من بين ٣٠ مسيحياً بقوا في القريتين، بحسب ما قاله جميل دياربكرلي، مدير المرصد الآشوري لحقوق الإنسان، لسوريا على طول، وأوضح دياربكرلي أن “البقية غادروا القريتين جميعاً بعد سيطرة النظام قبل أيام عليها”، وترصد مجموعته الانتهاكات بحق المسيحيين في سوريا والعراق.

اليوم، يقول دياربكرلي، إن القريتين خالية تماماً من سكانها المسيحيين “وبالتأكيد ليس هناك أمل بعودتهم” في المستقبل القريب.

وفي الوقت نفسه، يعيش الآلاف من الأهالي المسلمين الذين فروا أيضا من التنظيم بعيداً عن مسقط رأسهم، في مخيمات النزوح التي تفتقر للخدمات أو كلاجئين في الخارج.

يقول مراد “ما حدث في القريتين هو عملية تهجير للمسلمين والمسيحيين معاً”.

جيران

كان الوقت متأخراً ليلة الجمعة، في نهاية شهر أيلول، عندما دخل مقاتلو تنظيم الدولة إلى القريتين، وشنوا هجوماً مفاجئاً على البلدة، شكل الاستيلاء على القريتين، في عمق أراضي النظام السوري، انتصاراً كبيراً للتنظيم، الذي يعاني خسائر فادحة في أماكن أخرى شرقي البلاد.

وقال الأهالي لسوريا على طول في ذلك الوقت أن هجوم التنظيم، كان “صادماً”، وعلى مدى الأسابيع القليلة التالية، بعدما استعاد التنظيم سيطرته على البلدة، داهم مقاتلوه الصيدليات وقطعوا الاتصالات الهاتفية والإنترنت لعدة أيام.

وذكرت صفحة البادية ٢٤ على الفيسبوك، وهي صفحة إخبارية معارضة، أن مقاتلي التنظيم داهموا المنازل واعتقلوا الرجال لتنفيذ حكم الإعدام بحقهم، ومن بين المعتقلين مراهق بعمر السادسة عشرة .

وبعد ثلاثة أسابيع من استعادة تنظيم الدولة السيطرة على القريتين، عادت قوات النظام وأخرجته مرة أخرى في أواخر تشرين الأول، ومع عودة خطوط الهاتف والإنترنت مرة أخرى، بدأت أخبار القتل وما حدث أثناء تواجد التنظيم بالانتشار، وهرب المسيحيون من القريتين متجهين إلى الجنوب الغربي نحو دمشق الخاضعة لسيطرة النظام.

وبذلك يقوم تنظيم الدولة بعد سيطرته على القريتين بتغيير النسيج الاجتماعي للبلدة الصحراوية للمرة الثانية، ولكن هذه المرة بشكل جذري.

كاهن في دير مار إليان المدمر في نيسان ٢٠١٦. ماكس ديلاني.

قبل بدء الحرب، كانت التركيبة الديمغرافية للقريتين تعكس بشكل عام التركيبة الديمغرافية السورية ككل، وشكّل المسيحيون، وهم أقلية كبيرة، ١٠ بالمئة من سكان المدينة البالغ عددهم ١٤ ألف نسمة، وفقا لعبد الله الكريم، مدير صفحة البادية ٢٤ الإخبارية، والذي كان يقيم سابقا في البلدة.

وذكر عبد الله لسوريا على طول، أن البقية هم مسلمون سنة، وعلى الرغم من كونهم محافظين ومتدينين في الغالب – حيث تضم المدينة عدداً من المساجد – تشاركوا في الحياة الاجتماعية لجيرانهم المسيحيين.

ويتذكر مراد “مفاجأته” عند العمل لأول مرة في دير القديس إليان، عندما رأى السكان المسلمين يزورون الكنيسة ويعقدون فيها بعضاً من اجتماعاتهم، يقول مراد “فهمت أن هذا الشيء اعتيادي حيث كان منزول الكنيسة مفتوحاً قبل مجيئي بفترة طويلة للمسلمين والمسيحيين”.

“كانوا يحضرون ويتناقشون يأكلون الزبيب ويشربون الشاي.. يعني كانت الكنيسة أيضاً بيتهم مثلما الجامع بيتهم”.

ويتحدث فاروق، بصفته صاحب محل تجاري عن كون “بعض المهن تعتمد على المسلمين نظراً لقلة عددهم [المسيحيين]”، فهم يلجؤون إلى حرفيين وصناعيين مسلمين.

نشأ أطفال فاروق في المدارس التي عمل فيها معلمون مسلمون ومسيحيون معاً، يقول فاروق “بيوتنا وبيوتهم متلاصقة”.

ومع اقتراب فاروق من مراد على مر السنين، أصبحت تربطهما علاقة أسرية “عرفته على إخوتي وأصبحنا نتبادل الزيارات”.

ويتابع فاروق “ولو أتيت إلى القريتين لا أعتقد أنك تستطيع التمييز بين المسلم والمسيحي من حيث اللباس والعادات والتقاليد، نواسي بعضنا بعضاً ونقف إلى جانب بعضنا في المناسبات”.

ثم جاءت الثورة السورية في مطلع عام ٢٠١١، وبدايةً كانت القريتين محايدة، ولكن في النهاية أصبحت تحت سيطرة الجيش السوري الحر، وعندما بدأت قوات النظام بقصف المدينة، يقول فاروق “خلال القصف كان الدير بمنأى عن قصف النظام، ففتح أبوابه للمدنيين بما فيهم المسلمين، وفي كثير من الأحيان يكون في الدير ٩٠٪ مسلمين و١٠ ٪ نازحين”، وكان فاروق وغيره يساعدون مراد في توفير الطعام والماء للسكان الذين يحتمون بين جدران الدير.

ويقول عبد الكريم الذي كان يقيم سابقاً في القريتين ويعيش حالياً في مناطق سيطرة المعارضة في مكان آخر “أثناء الثورة السورية، بالنسبة لي لم أكن أرى أي تفريق بين مسيحي ومسلم داخل المدينة.. بصراحة كيف تعامل جارك؟ هكذا كان التعامل بين الجيران المسلمين والمسيحيين”.

تنظيم الدولة

في آب ٢٠١٥، بعد أن حقق انتصاراً كبيراً في تدمر على بعد ١٠٠ كيلومتر شمال شرق الصحراء السورية الوسطى، وصل تنظيم الدولة للمرة الأولى إلى القريتين، وكان ينتظره عدد من مؤيديه داخل البلدة.

يقول الأب مراد “طبعاً هرب المسيحيون الذين تمكنوا من الهروب، وبقي تقريباً ٢٥٠ شخص أخذوهم أسرى أنا كنت أسيراً طبعا معهم”.

ومن قام بالاختطاف “هم من أهل البلدة ومع الأسف ممن كانوا يعملون بالدير بفترة من الفترات ومنهم من كان أهلهم يطلبون مساعدات من الدير”، وفقاً لما ذكر مراد لـ”سوريا على طول”.

يضف مراد “ذهبت وشربت الشاي عند زعيمهم –  زعيم من انضموا لداعش –  قبل ١٠ أيام من اختطافي”، ولمدة ما يقارب الثلاثة أشهر، احتجز مراد وكاهن آخر من القريتين في الرقة، عاصمة التنظيم في سوريا.

خيمة عزاء لسكان القريتين الذين قتلهم تنظيم الدولة في تشرين الأول. تصوير: مركز القريتين الإعلامي.

وفي غيابه، قامت قوات التنظيم بتجريف الدير وحرقت الكنيسة المجاورة، وإلى جانب بعض المسلمين الآخرين في القريتين، عمل فاروق للتفاوض على الإفراج عن مراد، كما يقول لسوريا على طول.

يقول فاروق “كان عدد من أبناء القريتين المسلمين يفاوضون على خروجه وأنا كنت أحاول من خلال علاقاتي واتصالاتي أساهم في عملية إخراجه”.

في النهاية، قام تنظيم الدولة بإطلاق سراح الأب مراد وغيره من الأسرى المسيحيين في المدينة، وعندما وصل إلى حمص، استقبل المهنئين في الكنيسة على مدى أربعة أيام متتالية، يقول مراد “كان كثير من المهنئين  من العائلات المسلمة في المنطقة”.

وبعد ١٥ عاماً من مجيئه إلى القريتين، فرّ الخوري بدراجة نارية إلى مدينة حمص الخاضعة لسيطرة النظام من أجل سلامته.

أما بالنسبة لفاروق، فإن مساهمته في الإفراج عن صديقه، فضلاً عن “موقفه المناهض لتنظيم الدولة” حتّم عليه الفرار أيضاً، حيث يقول “تلقيت أنباءً تفيد بأنني مطلوب من قبل داعش”.

وسرعان ما دفع فاروق وعائلته للمهربين لنقلهم شمالاً عبر أراضي المعارضة إلى تركيا من ثم اليونان، وأخيراً إلى ألمانيا، وهناك انقسمت العائلة…

وصل أبناء فاروق وأحفاده إلى ألمانيا أولاً، وتم تسجيلهم كلاجئين بشكل منفصل عنه، ونتيجة لذلك، تم توزيع أفراد الأسرة في مدن مختلفة.

وفي الوقت الذي سافر فيه فاروق وعائلته إلى أوروبا، فر الآلاف من السكان المسلمين الآخرين في القريتين جنوباً، حيث عبروا أكثر من ١٠٠ كم جنوب شرق البلاد في الصحراء، باتجاه منطقة نائية على طول الحدود السورية الأردنية.

وكان أهالي البلدة من بين أول من سكن مخيم الركبان، الذي يعيش فيه الآن عشرات الآلاف من الأشخاص الفارين من مناطق تنظيم الدولة سابقاً وسط وشرق سوريا، ويعاني الركبان من نقص المياه والدواء، إضافة لانعدام القانون وشيوع الجريمة حيث تعيش القبائل المتباينة في الصحراء الشرقية في سوريا جنباً إلى جنب في خيام من القماش ومنازل طينية مؤقتة.

“أريد أن أطلب منك شيئاً”

في آذار، تلقى فاروق مكالمة هاتفية، وفي ذلك الوقت، كان الأب الذي تجاوز 60 عاماً يعيش في ألمانيا منفصلاً عن أطفاله وأحفاده، حيث تمت إعادة توطينهم في مدينة تبعد ساعة واحدة،  ولم يكن بعد يملك إقامة ولا يمكنه السفر بسهولة لزيارة عائلته.

الأب مراد كان على الخط، حيث يتواجد في روما كجزء من جولته عبر أوروبا للوعظ وحضور المؤتمرات الدينية.

يقول فاروق “بعدما هاجر مراد اتصل بي وقال أنا في روما وسأذهب للسويد وأود رؤيتك”، كان أمام الخوري أربع ساعات فقط يقضيها في ألمانيا لرؤية صديقه القديم من القريتين.

وتذكر فاروق عندما استقبله مراد  مع غيره من الأهالي في الدير، وعندما ساهم فاروق وبقية الأهالي من المسلمين في القريتين في الإفراج عن الخوري الذي كان مسجوناً في الرقة،  ربما تذكر ذلك اليوم قبل ١٧ عاماً في القريتين عندما جاء شخص غريب إلى محله ليدله على ورشة النجارة.

اجتمع الصديقان في ألمانيا في وقت لاحق من ذلك الشهر، وفي هذه المرة، كان فاروق هو من يطلب المساعدة. “صراحة، أريد أن أطلب منك شيئاً”.

وأخبر مراد بمشكلته – انفصاله عن الأطفال والأحفاد الذين يقيمون على بعد ساعة واحدة في ولاية ألمانية لا يمكنه الذهاب إليها – وكان فاروق قد ذهب إلى منظمة كاريتاس الإغاثية الكاثوليكية لجمع شمل الأسرة في مدينة واحدة لكن ذلك لم يكن مجدياً.

خلال الأربع ساعات التي قضاها مراد مع فاروق في ألمانيا، أخذ الخوري الصديق لمكتب الكاريتاس، حيث أن مراد، الكاهن الكاثوليكي، معروف نسبياً بسبب اختطافه من قبل تنظيم الدولة، وهناك طلب من موظفي المنظمة الإغاثية “لم شمل [فاروق] مع أطفاله”.

يقول فاروق “فعلاً بعدها وافقوا على نقلي وأنا حاليا مع أولادي وبناتي وأحفادي بنفس المنطقة بجنوب غرب ألمانيا”.

يقول الأب مراد إنه زار وساعد عدداً من الأصدقاء القدامى من القريتين – مسلمين ومسيحيين – في أوروبا.

وختم الأب قائلاً “هذه العلاقات الطبيعية.. فينا نقول إنها استمرت من بعد هالكارثة اللي صارت مع داعش ورح تستمر لو في أبو داعش كمان.. لأنه هذه الروابط هي العميقة في الإنسان، لأن التقاليد الإنسانية أقوى من التشاريع الدينية”.

 

ترجمة: سما محمد

 

شارك هذا المقال