8 دقائق قراءة

في منطقة ريفية خاضعة لسيطرة المعارضة: تكافح إحدى الأمهات في تأمين علاج التوحد لابنها

تستيقظ أم محمد في وقت مبكر كل صباح لإعداد الأطعمة […]


1 نوفمبر 2017

تستيقظ أم محمد في وقت مبكر كل صباح لإعداد الأطعمة المفضلة لابنها والألعاب التي يحبها، وعندما يسود الهدوء تقوم أم محمد بترتيب المنزل بدقة حيث تعيش مع زوجها وأطفال الأربعة على بعد بضعة كيلومترات من الحدود الشمالية الغربية لسوريا مع تركيا، فلا شيء يمكن أن يكون خارج النظام.

وإذا ما انحرف أي جزء من النظام اليومي عن مساره المعتاد، بحسب ما قالت أم محمد، فإن ابنها البالغ من العمر ست سنوات، والمصاب باضطراب طيف التوحد منذ الطفولة “سيصاب بنوبة عصبية لا تنتهي إلا عندما ينهكه التعب ويهدأ من تلقاء نفسه”.

ووصفت أم محمد لسوريا على طول ابنها محمد، البالغ من العمر 6 سنوات، والتي فضلت اختيار اسم مستعار له في هذا التقرير ” ابني طفل روتيني”.

وأضافت إنه يتوجب عليها أن تكون “جاهزة تماماً” لابنها من اللحظة التي يستيقظ فيها مع كل صباح “كما لو أنني جزء من عالمه الروتيني”.

ويعتبر مرض التوحد الذي يصيب محمد خطيراً للغاية، ففي سن السادسة، لم يكن يتكلم مطلقاً بل كان يستعمل إيماءات اليد ليتواصل مع والديه وأشقائه، وكغيره من الأطفال الذين يعانون من مرض التوحد فإنه يستاء بسهولة من التغيرات أو التعديلات الطفيفة التي تطرأ على روتينه اليومي، أو حتى الأماكن المحيطة به.

تنحدر العائلة المكونة من ستة أشخاص من العاصمة دمشق أصلاً، لكنهم فروا إلى محافظة إدلب بعد أن ألقي القبض على أبو محمد، ودام اعتقاله لمدة عامين في العاصمة السورية، ورغم أن أم محمد تفعل ما أمكن لتنظيم البيئة المحيطة بابنها، إلا أن هناك متغيرات لا تستطيع السيطرة عليها.

وباعتبارها منطقة زراعية وذات كثافة سكانية منخفضة، فإن محافظة إدلب – التي تخضع أجزاء واسعة منها لهيئة تحرير الشام، هي موطن لما يقدر بنحو 2.9 مليون نسمة، وأغلب قاطنيها نزحوا إلى الشمال الغربي كجزء من اتفاقات المصالحة مع النظام السوري.

ورغم أن عائلة أبو محمد لم تعد تخشى الاعتقال في إدلب الآن، كما كانت في العاصمة التي تسيطر عليها الحكومة، إلا أن الانتقال إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سوريا يطرح تحدياتها الخاصة: كالتهديد الضربات الجوية، والافتقار إلى الأطباء المهنيين المتخصصين والمدربين، إضافة إلى وصمة العارالإجتماعي التي تحيط بمرضى التوحد.

وبينما يشكل “التوحد” تحديات خاصة ينفرد بها، فإن العديد من الصعوبات التي تواجهها أم محمد وابنها محمد تتركز في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، حيث يجد غالبية السكان ممن يعانون أمراض مزمنة وعقلية استحالة الحصول على الرعاية الكافية المقدمة من القطاع الطبي والذي بالكاد لديه إمكانية التعامل مع حالات الطوارئ المهددة للحياة.

صورة: مركز دارالأرقم للأطفال ذوي الإعاقة في إدلب في 17 أغسطس / آب.

ونتيجة الوضع المتردي للقطاع الطبي في مناطق المعارضة، فإن علاج اضطرابات طيف التوحد، أو عجز النمو، أو الاضطرابات العصبية غير متوفر، وجميعها يتم تشخيصها تحت مظلة واحدة، ومع ذلك يمكن لمجموعة متنوعة من المهنيين تقديم الرعاية الصحية والمساعدة للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات طيف التوحد، ويمكن تصنيفهم على  نطاق واسع إلى: علماء أمراض الكلام، والمتخصصين السلوكيين، والمعالجين المهنيين والأطباء النفسيين.

ولكن بعد ست سنوات من الحرب، تضاءل عدد الأخصائيين الطبيين المتاحين، لاسيما في المناطق الريفية، ولا يزال هناك ما يقدر بـ 70 طبيباً نفسياً في سوريا، معظمهم في العاصمة دمشق، بحسب ما أفادت به منظمة إنقاذ الطفل – وهي منظمة غير حكومية مقرها المملكة المتحدة – في تقريرها “الجروح غير المرئية”، وهي دراسة أجريت في آذار / مارس 2017 حول تأثير الحرب السورية على شباب البلاد.

وفي محافظة إدلب، حيث تعيش أم محمد وابنها الآن “فإن غياب الكوادر التي تقدم الرعاية المتخصصة هو العقبة الرئيسية التي تحول دون الحصول على الرعاية الطبية الملائمة لمرضى التوحد” بحسب ما أفاد به مسؤول صحي معارض، وموظفين اثنين في مراكز الصحة العقلية والاحتياجات الخاصة لسوريا على طول.

صورة : بعد الغارة الجوية على حارم، 29 ايلول.

تغيرات مستمرة

أخذ الشعور بالقلق حيال صحة محمد يتنامى لدى والدته أول مرة عندما كان عمره سبعة أشهر، ففي تلك المرحلة لم يكن يقول الكلمات الأساسية كأي طفل مثل كلمة “ماما” ولم يظهر أي علامة من علامات تطور الكلام.

وقالت أم محمد ” كان بحالة سكون تام” حتى عندما كانت تحاول جذب انتباهه من خلال الحديث معه، أو تحريك يديها، لم يكن يستجيب وكل ما يفعله هو النظرإليها لبضع ثوان فقط.

ولطالما كافحت أم محمد لتنظيم طعام وشراب ابنها، لكن محمد كان “يبكى باستمرار، وتدفعه هواجسه لقضم الأثاث الخشبي في منزل العائلة في دمشق” على حد تعبيرها.

وعندما استمر محمد في رفض الطعام والشراب، قامت والدته بعرضه على طبيب في دمشق، والذي بدوره أكد لها أن الأعراض التي أظهرها طفلها (من صعوبات التواصل والسلوكيات الوسواسية كالعض) جميعها علامات وأعراض التوحد.

ومنذ ذلك الحين في 2013، كان عمر محمد حينها عامين، بدأت أم محمد بعلاج ابنها في مركز طبي في دمشق، حيث عمل المعالجون والعاملون في مجال الصحة النفسية هناك بالتخفيف من الصعوبات الاجتماعية وتأخر الكلام الناجم عن توحده.

واستجاب محمد جيداً للعلاج في المركز الطبي في دمشق، كما أكدت والدته، مما دل على علامات التحسن المبكر، إلا أن هذا التقدم الذي أحرزه لم يدم طويلاًَ.

وفي السنة التي بدأ فيها محمد تلقي العلاج، أعتقلت قوات النظام والده لمده عامين،ولا تعرف العائلة السبب الدقيق لاعتقال أبو محمد، لكن أم محمد وزوجها يعتقدان أن الاعتقال جاء نتيجة اتهام مزور بالإرهاب من قبل أحد أفراد قوات الأمن. فكان الغياب المفاجئ والغير مبرر لوالد محمد سبباً في تدهور حالة محمد البالغ من العمر ست سنوات.

وبحسب والدته “بدأت تنتابه حالة من الغضب الشديد الذي لا يمكن السيطرة عليه، وكأنه كان يبحث عن شيء مفقود”.

وبعد أن أطلق سراح أبو محمد في عام 2015، قرر أن يجلب أسرته إلى مدينة إدلب، شمال غرب سوريا، والتي تبعد أكثر من 300 كم خشية أن تقوم قوات الأمن باعتقاله مرة أخرى.

وفي غضون ستة أشهر، انتقلت العائلة مرة أخرى، لكن هذه المرة بسبب ازدياد الغارات الجوية الروسية والنظامية على مدينة إدلب، واتجهوا شمالا إلى مدينة حارم سعياً إلى الأمان على مقربة من الحدود السورية التركية.

ولكن أصوات الغارات الجوية والمدفعية كانت تجتاح منزل العائلة الجديد، محطمةً كل الجهود التي بذلتها أم محمد ووالده من أجل تأمين بيئة مناسبة له.

وضربت الغارات الجوية الأخيرة مدينة حارم في 29 أيلول، وعلى الرغم من إنشاء منطقة “خفض التصعيد” إلا أن عمليات القصف في شمال غرب سوريا لاتزال مستمرة، حيث يشن النظام السوري والطائرات الروسية غارات جوية بانتظام على مدينة إدلب والأراضي المجاورة لها.

وقالت أم محمد إن أصوات الطائرات الحربية والمدفعية داخل وحول بلدة حارم الحدودية تجعل محمد “متوتراً بشكل غير طبيعي”.

وعندما كانت تسمع أم محمد صوت طائرة يقترب، سرعان ما تأخذ ابنها إلى غرفته وتجلس بجانبه، في محاولة لتهدئته من صوت الطائرة الهادر، وشرحت أنه في أغلب الأحيان “لا يمكنني السيطرة عليه”.

وأضافت أن إخوته “يدركون مايجري حولهم، ولكن محمد يحتاج إلى معاملة ورعاية خاصة في ظل هذا الوضع المتغير الذي نعيشه”.

عيونهم تقول كل شيء

وتحرص والدته على التواجد في المنزل دائماً لتلبية احتياجات ابنها البالغ من العمر ستة سنوات وتضمن بأنه يمارس الألعاب التي كان يلعبها سابقاً كالمعتاد، كما أن أبو محمد يقضي معظم وقته في المنزل بجانب طفله لتوفير جو مريح له.

وكان إخوة محمد البالغين من العمر13, 15, 18 هم المسؤولون عن توفير ” الألعاب” بحسب وصف أم محمد، كما أنهم يتناوبون في القيام بالمهام اليومية كالمساعدة في تحضير الطعام، النظافة الشخصية، وتحضير ملابسهم أمام أخيهم في محاولة لدفعه تقليد سلوكياتهم وتعليمه كيفية الاعتماد على نفسه.

والهدف من كل هذه الأنشطة وبذل كل هذا الجهد هو اخراج محمد “من عالمه الخاص إلى عالمنا” كما أشارت أم محمد.

وكان منزل العائلة بمثابة مكان آمن وملاذاً مريحاً بالنسبة الى محمد، فداخل جدرانه تستطيع عائلته توفير بيئة آمنة له وضمان حمايته من العالم الخارجي ووصمة العار الاجتماعية المحيطة بمرضى التوحد أو مرضى الصحة العقلية والإعاقات التنموية بشكل عام.

وفي بلدة ريفية في شمال غرب سوريا مثل حارم، كان “من المستحيل أن ينظر إلى شخص مصاب بالتوحد على أنه عضو فعال في المجتمع”، بحسب أم محمد.

ولم يكن باستطاعة أم محمد، أم لأربعة أطفال، اصطحاب محمد معها خارج المنزل أوفي المناسبات النادرة بسبب التعليقات المؤلمة الموجهة إلى محمد، أواليها كأم، حيث كان أكثر ما يؤلمها تجريح جيرانها والعالم من حولها بالكلام وكأنها هي المذنبة، وكانت تسمعهم يدمدمون”لو ما انت غلطانه مع رب العالمين ما كان الله ابتلاك بطفلك”.

وأضافت ام محمد ” حتى عندما لا يقولون شئ عيونهم تتحدث وهذا غير إنساني”.

خيارات قليلة جداً

وأكد الدكتور مصطفى العيدو نائب مدير مديرية الصحة في ادلب، لسوريا على طول، أنه “يمكننا تأمين التمويل” لعلاج التوحد ” لكن المشكلة تتعلق بقلة مختصي التوحد”.

وأضاف أن “سكان إدلب الذين يعانون من اضطرابات التوحد يحتاجون إلى عناية خاصة وإشراف من قبل متخصصين وفريق مدرب ” الشيء الذي لا تستطيع المديرية تقديمه.

وسألت سوريا على طول نائب المديرعن أية إحصاءات متاحة عن سكان إدلب، الذين يعانون من اضطرابات التوحد، وأجاب أن مديرية الصحة لم تتمكن من إتمام مسح كامل للسكان الذين يعانون من اضطرابات التوحد، وذلك بسبب تركيز المديرية على الصدمات النفسية (التروما) والرعاية الصحية الأولية في المحافظة.

ولايزال هناك بعض المراكز القليلة جدا في المحافظة إدلب التي تستقبل مرضى التوحد وتحاول توفير الدعم النفسي والاجتماعي وتنظيم الأنشطة لهم.

وأحضرت أم محمد ابنها إلى مركز الجمعية الخيرية السويدية، الواقع قي الريف الشمالي للمحافظة بالقرب من حارم، والذي يشرف على الأطفال ذوي الإعاقة البدنية والنفسية والكلامية، بالاضافة إلى سبع حالات توحد.

وقال مدير المشروع، الذي طلب عدم ذكراسمه، لسوريا على طول أن الكادر الموجود هو عبارة عن طبيب مختص في العلاج الفيزيائي، بالإضافه إلى شباب ذو شهادات جامعية يمتلكون خبرة في التعامل مع المرضى، حيث تعلم معظمهم أساسيات علاج الأطفال أثناء تواجدهم في المركز.

وأضاف” هناك حالات لا يمكننا استقبالها، لأنهم يحتاجون إلى طبيب متخصص مثل الذين يصابون بحاله عصبية مرتين في اليوم أواختلاج عصبي”  كما أن المركز لايستطيع شراء الدواء لهم.

إن جلسات محمد في المركز هي “وسيلة فعالة لتفريغ طاقته ولا شيء آخر” كما أكدت والدته.

وإن كل ما يحتاجه ابنها، هو جلسات فيزيائية من قبل مختصين وكذلك حاجته لنادي رياضي لأطفال التوحد وجلسات نطق وإلى توفر الدواء كي لا يزيد الوضع سوءا. إلا أنها لا تتوفر ألا بمناطق سيطرة النظام مثل دمشق، أو يمكن توفرها خارج البلد مثل تركيا.

وحاولت أم محمد، مؤخرا، عبور الحدود الشمالية لسوريا للوصول إلى تركيا قبل ستة أشهر، إلا أن محاولتها السادسة منذ انتقال الأسرة إلى إدلب لم تنجح.

فالرحلة عبر طريق تهريب جبلي برفقة محمد لمسافات طويلة كان صعباً للغاية، حتى بعد أن أعطته والدته حبوباً منومة لتهدئته أثناء الرحلة.

وقالت أم محمد التي كانت تحمل إبنها بين ذراعيها مسافات طويلة “أي صوت كان يزعجه  يبدأ بالصراخ وكان ذلك سببا في عودتي ستة مرات”. إلا أن أم محمد مصممة على المحاولة مرة أخرى للحصول على العلاج الذي يحتاجه ابنها.

ووصفت “أشاهده يكبرأمام عيني، وأنا غير قادرة على تقديم أي شيء له”.

وتابعت ” بتمنى بس اسمع كلمة ماما منه لو لمرة واحدة”.  

 

ترجمة: نورا حوراني

شارك هذا المقال