8 دقائق قراءة

كارثة طبية في الغوطة الشرقية ولا علاج للأمراض المزمنة

تغطي البطانيات المهترئة نوافذ منزل مهند المتواضع، الواقع في إحدى […]


تغطي البطانيات المهترئة نوافذ منزل مهند المتواضع، الواقع في إحدى ضواحي شمال شرقي دمشق، الخاضعة لسيطرة المعارضة، وعلى حبل الغسيل تتدلى قطع ملابس صوفية وأغطية سرير رطبة، وفي ساحة منزله يقوم مهند بعمله المعتاد حيث يساعد ابنته روان على ارتداء ملابسها.

تستلقي روان البالغة من العمر سبع سنوات، والتي تعاني من شلل دماغي، على حصيرة بنية اللون دون حراك، ويقوم والدها بتمزيق ألبسة قديمة ليستخدمها كحفاضات لابنته ذات الجسد الهزيل، حتى أصبحت حركة مهند في هذه المهمة سريعة وخفيفة لأنه يقوم بذلك عدة مرات يومياً.

تعاني روان من اضطراب في جهازها العصبي، رافقها منذ الولادة، يتسبب بإضعاف السيطرة على عضلاتها ومهاراتها الحركية، ومع عدم وجود كرسي متحرك، تقول روان أنها لا تتمكن من التحرك في ساحة المنزل للعب مع أشقائها، كما تعتمد على والديها لمساعدتها في الجلوس وتناول الطعام وارتداء الملابس.

وبالنسبة للعديد من الأشخاص المصابين بنفس الأعراض فإن علاجهم يتطلب خضوعهم لجلسات علاج فيزيائي وتناول الأدوية التي تعطى لضبط حركات العضلات غير الإرادية والنوبات.

يقول مهند، قبل سنوات، عندما كانت روان طفلة، كانت تأخذ الدواء اللازم لتحمل الألم وتزور الأطباء في دمشق لتلقي العلاج.

لكنها اليوم، تعيش مع والديها وأربعة أشقاء تحت الحصار، في منطقة مقطوعة عن العاصمة السورية، ولا تستطيع الوصول إلى المستشفيات التي يمكنها تقديم العلاج، حيث تعيش العائلة في حمورية، وهي بلدة تقع داخل الغوطة الشرقية المحاصرة من قبل النظام منذ عام ٢٠١٣.

وبالنسبة لروان، فإن الحصار هو خطر يهدد حياتها، فبالإضافة إلى شللها الدماغي، أخبر الأطباء والديها الشهر الماضي أنها تعاني الآن من الفشل الكلوي بسبب نقص الأطعمة المغذية، ففي الغوطة المحاصرة، تعد الأسعار مرتفعة لمعظم السلع الأساسية – بما في ذلك الأطعمة التي تحتاجها روان – ومكلفة للغاية بالنسبة مهند الذي لا يستطيع تأمين أي منها لابنته باستثناء الحليب.

وتعاني الغوطة أيضاً من عدم توفر الرعاية الطبية التي تحتاجها روان وآلاف السكان الآخرين الذين يعانون من أمراض مزمنة، وذلك بسبب النقص الحاد في الإمدادات الطبية، كما تخلو رفوف الصيدليات من الأدوية اللازمة لآلاف السكان الذين يعانون من الشلل الدماغي والفشل الكلوي والسرطان وأمراض أخرى، وفقاً لما يقوله ستة من أطباء الغوطة الشرقية لسوريا على طول.

روان في منزل عائلتها في حمورية، يوم الاثنين. تصوير: ابراهيم الجاسم.

يقول علاء أبو النصر، مدير مشفى بلدة جسرين في الغوطة الشرقية “لا أبالغ عند القول بأن الأدوية مفقودة، كـأدوية الرعاية الأولية وأدوية الأمراض المزمنة وأدوية الأطفال وخاصة المضادات وغيرها الكثير مفقودة تماماً”.

وفي الشهر الماضي، توفي ما لا يقل عن ثلاثة من مرضاه “نتيجة لعدم توفر الأدوية اللازمة”، ويتوقع علاء أن يزداد عدد الوفيات.

وفي الوقت ذاته، أدى القصف اليومي والغارات الجوية التي شنها النظام إلى توقف إمدادات الأدوية الأساسية والمعدات اللازمة لعلاج الإصابات، وجاء في تقرير نشرته منظمة أطباء بلا حدود في أواخر تشرين الثاني أن مخزون الدم والسيروم والقفازات تنفد “بسرعة” في المرافق الطبية الـ ٢١ التي تدعمها المنظمة عبر الغوطة الشرقية، كما أن استمرار الحصار يجعل من تعويض النقص في الإمدادات الطبية أمراً أشبه بالمستحيل.

وأضاف التقرير الذي نشرته منظمة أطباء بلا حدود إن النقص الطبي في الغوطة الشرقية “كارثي”.

وحاولت عائلة روان الحصول على المساعدة من عدة أطباء في الغوطة الشرقية، إلا أن الأمل في علاج شللها الدماغي – ناهيك عن علاج غسيل الكلى- ضئيل، وأغلق مركز غسيل الكلى الوحيد في الغوطة في شباط بعد أن نفدت آخر إمداداته. ومن المرجح أن يبقى المركز مغلقا، حيث لم يتمكن الأطباء الحصول على مزيد من الإمدادات.

ويقول الدكتور سامي الشامي، عضو رابطة الصيادلة في الغوطة الشرقية التي تأسست عام ٢٠١٥، إن الإمدادات اللازمة لعلاج غسيل الكلى “ليست متاحة” في أماكن أخرى داخل الغوطة.

وتشرف رابطة الصيادلة على الصيدليات في جميع أنحاء الغوطة الشرقية، كما تنظم توزيع مخزون الأدوية المتاحة داخل الغوطة المحاصرة التي تبلغ مساحتها ١٠٠ كيلومتر مربع تقريباً.

وفي الشهر الماضي، أجرت الرابطة دراسة عن كمية الأدوية المفقودة في صيدليات الغوطة الشرقية، فكانت النتائج التي توصلوا إليها هي “فقد وقرب فقد الكثير من الزمر الدوائية المتنوعة” والضرورية، كما يقول الشامي.

ويضيف الشامي “كل يوم يوجد فقد لنوع معين من الأدوية بالتتابع”.

حصار مطبق

حاصرت قوات النظام السوري الغوطة الشرقية في عام ٢٠١٣، وحولتها إلى جزيرة خاضعة لسيطرة المعارضة ومعزولة عن العاصمة.

وخلال سنوات الحصار، ساعدت شبكة من أنفاق التهريب ومعبر تجاري بري في شمال الغوطة الشرقية، بتأمين الإمدادات من أغذية وأدوية للمنطقة المحاصرة.

وساهمت الأنفاق، قبل إغلاقها، بإدخال الطحين والحبوب وحتى اللقاحات للماشية الموجودة في عشرات البلدات والقرى الزراعية المنتشرة في الغوطة المحاصرة.

وفي وقت سابق من هذا العام، استولت قوات النظام السوري على ثلاثة أحياء شرقي دمشق، خاضعة لسيطرة المعارضة، تضم أنفاق التهريب وأغلقتها منهية بذلك تجارة الأنفاق.

وفي مطلع تشرين الأول، أغلقت قوات النظام المعبر الأخير المؤدي إلى مناطق سيطرة المعارضة. ويقع معبر الوافدين خارج دوما، وهي مدينة تقع في الزاوية الشمالية من الغوطة الشرقية التي تعتبر عاصمة الغوطة الشرقية، وشكل المعبر نقطة دخول حيوية للأغذية والإمدادات الأخرى، خاصة بعد إغلاق الأنفاق.

وبعد شهرين، لا يزال الوافدين مغلق نسبي، حيث لا تدخل سوى شحنات صغيرة ومتقطعة من الحبوب المهربة الرخيصة والإمدادات اللازمة لإنتاج اللبن إلى الحي.

ودخلت قافلتي مساعدات تابعة للأمم المتحدة إلى الغوطة الشرقية خلال الشهر الماضي، إلا أنهما لم تحتويان على ما يكفي من الغذاء أو الإمدادات الطبية لجميع سكان الغوطة البالغ عددهم ٤٠٠ ألف نسمة.

ودخلت آخر قافلة تابعة للأمم المتحدة في أواخر تشرين الثاني، وقدمت الأدوية والإمدادات الطبية الإسعافية، ولكنها لم تتضمن أي أدوية أو معدات لازمة لإجراء العمليات الجراحية أو علاج الأمراض المزمنة. وفي تشرين الأول، دخلت ٤١ شاحنة تابعة لبرنامج الأغذية العالمي، تضم موادا غذائية كافية لإطعام ما يقدر بنحو ١٠٪ من سكان الغوطة الشرقية لمدة شهر واحد.

مرضى في حمورية بعد غارة جوية يوم الأحد. تصوير: مركز الغوطة الإعلامي.

وقالت منظمة الأغذية أن شحنة تشرين الأول كانت السادسة فقط التي تمكن البرنامج من إدخالها حتى الآن في عام ٢٠١٧. وبصورة عامة، تلقى ١١٠ آلاف فقط من أهالي الغوطة المساعدات منذ بداية العام.

ومع توفر أدوية الأمراض المزمنة التي تهدد الحياة في مناطق أخرى، إلا أنها لم تكن موجودة في قوافل المساعدات التي دخلت إلى الغوطة الشرقية موخراً، فالوضع داخل الغوطة مأساوي على حسب ما وصفه المسؤولون الطبيون هناك.

وفي أحد المستشفيات في بلدة حمورية، حيث تعيش روان وعائلتها، لم يتلق الأطباء أدوية جديدة لعلاج الأمراض المزمنة منذ “أكثر من سنة”، بحسب ما قاله عبد المعين، المتحدث باسم المستشفى، لسوريا على طول.

ومع نفاد أدوية التخدير والمضادات الحيوية و العلاج الكيميائي، لم يكن بإمكان الأطباء في مستشفى عبد المعين إلا معالجة حالات الطوارئ فقط، حيث أن عدداً من مرضى السرطان لقوا حتفهم في الأشهر الأخيرة نتيجة لذلك، بحسب ما أكده المتحدث.

أدوية منتهية الصلاحية

مع نفاذ مخزون الأدوية قي الغوطة الشرقية، يقوم الأطباء بإستخدام الأدوية المنتهية الصلاحية للمرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة، بحسب ما أكده الأطباء لسوريا على طول.

وأكد عبد المعين أن الأدوية المنتهية الصلاحية التي يستخدمها أطباء مستشفى حمورية ” ليس لها أضرار بل فعاليتها تكون أقل” على المرضى.

وصرح حسام، عضو المكتب الطبي الموحد في الغوطة الشرقية، والذي يشرف على جميع المستشفيات في  الجيب المحاصر أن المرافق الطبية في جميع انحاء الغوطة الشرقية قامت بالأمر ذاته “بمجرد نفاذ جميع الحلول الأخرى”.

ومن بين المرضى الذين يعانون من أمراض مختلفة في الغوطة الشرقية، يحتاج ما لا يقل عن 550 شخصاً مصاباً بمرض السكري أدوية انسولين، وهناك 45 آخرين من بينهم روان في حمورية يعانون “مراحل مختلفة” من الفشل الكلوي، وفقا لتقرير صادر عن الجمعية الطبية السورية الأمريكية (SAMS) نشر في شهر ايلول.

وتعاني عيادات الأنسولين من نقصاً كبيراً في الأدوية المطلوبة، كما أن علاج غسيل الكلى لم يعد متوفرا في الغوطة الشرقية، بحسب ما أكده الأطباء هناك لسوريا على طول.

وفي دوما، أعرب أبو أحمد لسوريا على طول عن قلقه حيال صحة ابنه، البالغ من العمر 14 عاماً، والذي يعاني من الهيموفيليا (الناعور)، وهو اضطراب في الدم يُضعف قدرته على السيطرة على عملية تخثر الدم ( تشكيل الجلطات) وعن التوقف عن النزيف عند اصابته بجروح، والعامل الثامن، الدواء الذي يساعد على علاج الهيموفيليا، غير موجود في الغوطة الشرقية، بحسب ما قاله الدكتور أبو اليسر الذي يعمل في دوما.

ومع عدم توفر العلاج، يعيش ابن أبو أحمد خوف شديد حتى من أصغر الجروح إلى قد تؤدي إلى النزف حتى الوفاة.

بعد الغارة الجوية على حمورية، يوم الأحد، الصورة من مركز الغوطة الإعلامي.

وقال أبو أحمد “يعيش ابني في حجر داخل المنزل فهو ممنوع من الخروج أو الذهاب إلى المدرسة أو حتى اللعب خارج المنزل خوفا عليه من أي إصابة”.

وأضاف “أي جرح حتى لو كان صغير جداً يؤدي إلى النزف حتى الوفاة وخاصة في ظل القصف الشديد الذي تتعرض له الغوطة الشرقية بشكل يومي”.

وبحسب تقديرات الدكتور أبو اليسر، فإن ابن أبو أحمد وغيره من المرضى المصابين بالهيموفيليا لم يأخذوا العامل الثامن منذ عامين.

ومن الصعب تحديد عدد السكان الذين يعانون من أمراض مزمنة تهدد حياتهم في الغوطة الشرقية مثل ابن أبو أحمد وروان، وفقاً لما ذكره عبد المعين.

وأضاف ” لكن نستطيع القول أن جميع من يعانون من أمراض مزمنة حياتهم باتت مهددة بالخطر”.

“الجميع ينتظر”

في حمورية، يعلم مهند أنه إذا لم يتغير أي شيء هناك، سيكون وضع ابنته روان في خطر فليس أمامها الكثير من الوقت.

كما أن روان فقدت كمية كبيرة من وزنها في الأشهر الأخيرة، واليوم، جسدها ضعيف وهزيل ولا يستطيع الأطباء إعطائها علاج غسيل الكلى الذي تحتاجه لإنقاذ حياتها، فلا يوجد شيء يمنع كليتها من التوقف عن عملها كلياً وقتلها.

وصرح مارك لوكوك، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، فى بيان له لمجلس الأمن الدولي صدر في أواخر الشهر الماضي، أن ما يقدر بـ 500 رجل وامرأة وطفل فى الغوطة الشرقية يعانون من “حالات طبية معقدة” وبحاجة ماسة لعملية إجلاء من الجيب المحاصر.

وقال علاء مدير مستشفى جسرين لسوريا على طول أن بعض المرضى يعانون من أمراض معقدة لا يستطيع حتى تشخيصها، فهم بحاجة إلى مستشفيات أكثر تخصصاً ومجهزة تجهيزا جيدا خارج الغوطة الشرقية.

وأضاف “المرضى عالقين في الغوطة الشرقية دون تحديد أسباب مرضهم وأوجاعهم” في ظل الحصار المشدد على الغوطة.

ويعرف مهند أن فرص روان للبقاء على قيد الحياة تعتمد على خروجها من الغوطة الشرقية، كما أنه روى قصة روان للناشطين المحليين في الأيام الأخيرة ووافق على مشاركة صور لها على الإنترنت في محاولة “لإخراج ابنتي من الغوطة لتلقي العلاج”.

وعمليات الإجلاء الطبي نادرة، لكنها تحدث في بعض الأحيان، كما حدث في أيلول الماضي عندما نقل متطوعو الهلال الأحمر رضيعاً يعاني من تشوه خلقي في القلب من حرستا إلى دمشق لتلقي العلاج، كما تم إجلاء طفلين ملتصقين إلى بيروت لإجراء عملية جراحية لهما في آب 2016.

وبينما يأمل والدا روان من التمكن من إخراجها خارج الغوطة، فهم يتابعون تقديم العناية لها على أفضل وجه ممكن في ظل الحصار.

وقال عبد المعين إن حالة روان ليست فريدة من نوعها “الجميع الآن ينتظر بعد فقدان الأدوية”.

وأضاف “هم ينتظرون إما فك الحصار عن الغوطة أو عودة الأدوية إليها ليكملوا حياتهم”.

 

ساهم كل من  آلاء نصار وفاتن زعبي وكفا الفيصل بإعداد هذا التقرير.

شارك هذا المقال