6 دقائق قراءة

كيف يصنع نظام الأسد الأزمات المعيشية في سوريا ويستفيد منها؟

رغم إعلان الحكومة المستمر عن إجراءات جديدة داعمة للسوريين، تبدو تلك الإجراءات ذاتها وسيلة لتعزيز "السوق الحر"، وأسوأ من ذلك فتح المجال لمتنفذين في النظام ومقربين منه للتربح غير المشروع


22 سبتمبر 2020

عمّان – بينما تتفاقم الأزمة المعيشية في مناطق سيطرة حكومة دمشق، لاسيما مع شح البنزين والخبز وغيرها من سلع يفترض توفيرها مدعومة من تلك الحكومة عبر “البطاقة الذكية”، تنشط مقابل ذلك سوق سوداء للسلع ذاتها، إضافة إلى القطاع الخاص.

فرغم إعلان الحكومة المستمر عن إجراءات وآليات جديدة داعمة للسوريين الذين يعاني أكثر من 80% منهم الفقر، تبدو تلك الإجراءات والآليات ذاتها وسيلة لتعزيز “السوق الحر” (غير المدعومة سلعها)، وأسوأ من ذلك فتح المجال لمتنفذين في النظام ومقربين منه للتربح غير المشروع.

أزمة البنزين

منذ مطلع أيلول/سبتمبر الحالي، تشهد سوريا أزمة حادة في توفر مادة البنزين، أدت إلى ظهور طوابير طويلة من السيارات تصطف لساعات للوصول إلى محطات الوقود، وهو ما أدى أيضاَ إلى شلل جزئي في قطاع المواصلات، نتج عنه رفع أصحاب سيارات الأجرة للتعرفة بشكل فردي. 

ووصف ثلاثة من مصادر “سوريا على طول” في محافظات دمشق والسويداء ودرعا الأزمة الحالية في مادة البنزين بأنها الأشد بين الأزمات التي خبروها منذ العام 2011،

ويبلغ سعر ليتر البنزين عبر البطاقة الذكية 250 ليرة (11 سنتاً أميركياً، بحسب سعر الصرف البالغ 2,230 ليرة للدولار)، بينما قفز السعر في السوق السوداء من 500 ليرة للتر قبل الأزمة، إلى ما بين 1000 و2000 ليرة (44 و89 سنتاً، على التوالي)، بحسب المنطقة.

وكانت الحكومة السورية بدأت بيع مادة البنزين عبر “البطاقة الذكية” منذ 10 كانون الثاني/يناير 2019، للسيارات الخاصة في دمشق، عقب أزمة محروقات حادة ضربت البلاد حينها. وعبر هذه الآلية، أصبحت الكميات التي تصل إلى محطات الوقود مخصصة للبيع عبر البطاقة الذكية فقط، وبكميات محددة بحسب الشريحة المحددة لحامل البطاقة. 

إذ نتيجة للحرب “انخفض إنتاج سوريا من البنزين، لكون غالبية حقول النفط خارج سيطرة دمشق، وانخفض معه الاستهلاك كون الاقتصاد أصبح ينمو بوتيرة أقل، إضافة لانخفاض عدد السكان”، كما قال الباحث الاقتصادي السوري كرم شعار، لـ”سوريا على طول”.

لكن “الانخفاض في الإنتاج كان أكبر منه في الاستهلاك، بحيث تحولت سوريا إلى بلد مستورد للبنزين” كما أضاف شعار، مقدراً كمية المستورد من قبل مناطق سيطرة النظام “بحدود 70 ألف برميل يومياً، غالبيتها العظمى تأتي من إيران”، 

وفيما “لا توجد أدلة تشير إلى انخفاض معدل وصول ناقلات النفط الإيرانية إلى سوريا”، وفقاً للشعار، فإن سبب الأزمة الحالية قد يكون نتيجة “عمليات الصيانة في مصفاة بانياس”. مستدركاً بأنه “على الرغم من أنها قضية تقنية دورية، إلا أنها تعكس كفاءة الإدارة التي كان من المفترض بها توفير كمية كافية [من الوقود] قبل بدء عمليات الصيانة، أو أن الأمر متعلق بـعدم مقدرة النظام على دعم هذه السلع كما يجب، [وسيلحأ] بالتالي إلى رفع الدعم عنها قريباً”.

في السياق ذاته، كان وزير النفط السوري، بسام طعمة، قد عزا، في 16 أيلول/سبتمبر الحالي، الأزمة الخانقة في مادة البنزين إلى “الحصار الأميركي”، إضافة إلى “توقف مصفاة بانياس للصيانة”.

لكن، بحسب المصادر الثلاثة السابقة، يتوفر البنزين في السوق السوداء بكميات كبيرة، بما في ذلك بعض المحطات التي تبيع المادة بسعر تلك السوق بشكل غير قانوني.

كيف يصل البنزين للسوق السوداء؟  

إضافة إلى عمليات تهريب النفط المستمرة من مناطق شمال وشرق البلاد الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، كما الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، أقر مدير حماية المستهلك في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، علي الخطيب، بوجود أنواع عديدة من المخالفات التي يتم من خلالها بيع البنزين المدعوم في السوق السوداء. من ذلك مثلاً، كما كشف المسؤول الحكومي، قيام عامل محطة وقود بتعبئة السيارة بكمية 30 لتراً بدلاً من 40، وبحيث يتم بيع الفارق بالسعر الحرّ.

وهو ما أكده أبو محمود، سائق سيارة أجرة من ريف درعا الشمالي. إذ، كما روى لـ”سوريا على طول”، يقوم أصحاب محطات الوقود بشراء البطاقات الذكية من الناس الذين يرغبون في بيع مخصصاتهم بمبالغ زهيدة مستغلين ضجر الناس من الوقوف في الطوابير الطويلة، ومن ثم يقوم أصحاب هذه المحطات ببيع البنزين بسعر السوق السوداء”.

وقد اضطر أبو محمود، كما أضاف، إلى شراء بنزين من “بسطات السوق السوداء” بسعر 1,400 ليرة للتر، لافتاً أيضاً إلى مشكلة أخرى هنا، تتمثل في أن “البنزين قد يكون مغشوشاً أو يحوي شوائب كثيرة”.

في المقابل، برر أحد مالكي محطات الوقود في مدينة السويداء، جنوب سوريا، بيع البنزين بشكل حر بأن “الفائدة المرجوة من تجارة الوقود في المحطة قد تكون معدومة” وفقاً للسعر الرسمي المدعوم، موضحاً، كما نقل عنه أحد الصحافيين في المدينة تحدث إلى “سوريا على طول” شريطة عدم الإفصاح عن هويته، أن “قيمة الأرباح من صهريج البنزين الواحد تقدر بحدود 25 ألف ليرة سورية [12 دولاراً أميركياً]”. 

أزمة الخبز

كما بشان البنزين، تعد أزمة توفر الخبز إحدى السمات المميزة لمناطق سيطرة حكومة دمشق، مع تفاوتها من محافظة إلى أخرى. وهي أزمة آخذة في التفاقم منذ أشهر، ما دفع استمرار الأزمة حكومة دمشق إلى اتخاذ العديد من الإجراءات، آخرها يوم السبت الماضي، ببدء توزيع الخبز يومياً عبر البطاقة الذكية، بحسب عدد أفراد الأسرة، وبحيث يتم توزيع ربطة (8 أرغفة) للشريحة بين فرد وفردين، وربطتين ‏للأسرة المكونة من 3 إلى 4 أفراد، وثلاث ربطات للأسرة المكونة من 5 إلى 6 أفراد، وأربع ربطات ‏للأسر فوق 7 أفراد.‏

واستبعد شعار أن يكون سبب أزمة الخبز “شح الطحين”، مستنداً في ذلك إلى أن “محصول القمح الأخير لم يمض عليه سوى قرابة شهر. وكانت الحكومة أعلنت إنها اشترت قرابة 800 ألف طن من القمح من داخل سوريا، وهي كمية كافية لتغطي استهلاك مناطق النظام لستة أشهر بالحد الأدنى”. وليكون محرك الأزمة الأساس “الانخفاض في مصادر الطاقة، كالكهرباء والمازوت، اللازمة لتشغيل  الأفران، إضافة إلى الجدوى الاقتصادية لإنتاج الخبز، والتي تنخفض في كثير من المخابز لكون الحكومة تطلب من أصحابها إنتاج الربطة بسعر معين وبيعها عبر البطاقة [الذكية]، فيما تكاليف الإنتاج والأجور ترتفع يومياً”.

أمام هذا الواقع، اضطر العديد من أصحاب المخابز لإغلاقها، بحسب شعار، فيما “قام بعض أصحاب المخابز الذين لديهم استعداد للمخاطرة، ببيع الطحين في السوق السوداء”. ولتكون النتيجة خلق أزمات مستمرة في توفير الخبز.

“تحرير الاستيراد”

يعلق مسؤولو النظام السوري مجمل إن لم يكن جميع الأزمات المتلاحقة التي تعاني منها سوريا، لاسيما على صعيد توفر السلع الأساسية، على مشجب العقوبات الدولية المفروضة على دمشق نتيجة قمعها الدموي للسوريين. لكن برأي الباحث في الاقتصاد السياسي بجامعة لوزان في سويسرا، جوزيف ضاهر، فإن هناك “العديد من الأسباب المختلفة والمترابطة” التي تلعب دوراً في نقص وغياب البضائع والمواد الأساسية، لاسيما في مؤسسات الدولة.

فإضافة إلى “العقوبات الدولية”، لفت ضاهر في حديثه إلى “سوريا على طول” إلى عامل “سيطرة بعض التجار والمقربين من النظام على استيراد البضائع والمواد الأساسية، ما يساهم في توفر هذه السلع في السوق السوداء على حساب توفرها في مؤسسات الدولة التي تبيعها بالسعر المدعوم”.

من جانبه، اعتبر الباحث شعار أن “الحلول الإدارية والاقتصادية المتبعة في مناطق النظام [لمواجهة الأزمات المعيشية] هي حلول ترقيعية لا تعالج جذر المشكلة الكامن في الفساد المتأصل في مؤسسات الدولة”، مشبهاً الاقتصاد السوري بـ”قربة الماء الجلدية المهترئة، كلما رقعتها من مكان تسرب الماء من مكان آخر”.

ويضاف إلى ما سبق اعتماد الحكومة السورية مؤخراً بشكل أكبر على سياسة “تحرير الاستيراد”، من خلال السماح للتجار والصناعيين المقربين من النظام باستيراد السلع والمواد الأساسية وتوفيرها في السوق، نظراً لـعدم قدرة الدولة على النهوض بهذه المسؤولية، بحسب ضاهر. لافتاً في الوقت ذاته إلى أن هذه السياسة “ليست جديدة؛ إذ بدأت في منتصف ثمانينات القرن الماضي، على إثر الأزمة المالية في سوريا حينها، ما دفع حافظ الأسد إلى استقطاب التجار وطبقة البرجوازية السورية ومنحهم صلاحيات في الاستيراد”. مؤكداً أن “الحرب لم تكن انقطاعاً عن سياسات النظام [الاقتصادية] قبل 2011”.

مع ذلك، فإن “تحرير الاستيراد” لا يمثل حلاً في الحالة السورية، برأي ضاهر، “لأن التجار يفكرون في مصلحتهم”. بل إن “النظام والتجار المقربون منه”، كما أضاف ضاهر، “يقومون باستغلال الأزمات الحالية لتعميق هذه السياسات البديلة التي تعزز نفوذهم وتجارتهم”.

كذلك، تحرم سياسة “تحرير الاستيراد” القطاعات السورية المنتجة من دورها في تحسين الاقتصاد، وهو ما دفع غرفة صناعة حلب إلى الطلب من حكومة دمشق “إيقاف تمويل المستوردات من المصرف المركزي بشكل تام”، لكون هذه العملية “زادت من استغلال الفاسدين لفروقات الأسعار، وتهريب الأموال، ولم تحقق أي عدالة في التسعير بين أبناء المهنة الواحدة، ولم تسهم في تخفيض الأسعار”.

مستقبل الأزمات

قد تكون “رأسمالية الدولة” التي تم اعتمادها في سوريا خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، ويتمثل أحد جوانبها الرئيسة في حصر عمليات استيراد السلع الأساسية بمؤسسات الدولة، “حلاً جيداً للأزمات السورية”، برأي الباحث ضاهر، لكن “نظراً للفساد المستشري في الدولة، يصبح من الصعب تطبيقها، إذ إن الدولة فاسدة وتحكم [وفق] مصلحة طبقة معينة وأشخاص معينين يستغلون القطاعات الحكومية كقطاع خاص لمصلحتهم”. وهو ما يجعل من المستقبل القريب للسوريين في مناطق سيطرة دمشق “غير جيد، لاسيما على الطبقات الشعبية الفقيرة”، بحسب ضاهر.

وهو ما أيده شعار، إذ رأى أن “الحوالات من الخارج والمساعدات الدولية ستبقى مصدر الدعم الأول للمدنيين والنظام على حدٍ سواء في المدى المنظور ، طالما لم تتبلور أي حلول سياسية تسمح بإعادة الإعمار”.

شارك هذا المقال