7 دقائق قراءة

لماذا اخترت الرحيل ولماذا قررت البقاء: صوتان من مضايا يجمعهما الندم بعد أن باتت البلدة تحت سيطرة النظام

خيم التفجير الانتحاري، الذي استهدف يوم السبت الماضي قافلة من […]


19 أبريل 2017

خيم التفجير الانتحاري، الذي استهدف يوم السبت الماضي قافلة من المُهجرين من أهالي بلدتين مواليتين للأسد شمال سورية، بسواده على عمليات مماثلة تحدث في أجزاء أخرى من البلد.

وفي بلدة مضايا، التي طال حصارها والتي تبعد نحو 40 كم عن دمشق، اختار أكثر من 3400 نسمة من الأهالي أن يغادروها يوم الجمعة، إلى ما يبدو أنه رحيل أبدي إلى حياة جديدة في محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة الثوار. ولكن الغالبية العظمى من أهالي البلدة ويقدر عددهم بـ40000 نسمة قرروا البقاء.

وتحدثت آلاء نصار، وبهيرة الزرير، مراسلتين في سوريا على طول مع اثنين من مضايا، أحدهما عنصر للدفاع المدني واختار الانتقال إلى إدلب، وامرأة بقيت في مضايا لتعتني بأمها المسنة.

واليوم، وإن اختلفت وجهتهما، فكلاهما يجمعهما الندم على قرارهم.

“تمنيت لو أنني بقيت فيها ومت فيها”، قال حسن يونس، 27عاماً، والذي كان أحد كوادر الدفاع المدني في مضايا. وقبل صعوده باصات الإخلاء إلى إدلب الجمعة اضاف “لم تبق أمامنا أي خيارات سوى الخروج من الجحيم”.

أما مرام الشامي، فترى أن الوضع “لم يتغير” كثيراً بعد أن باتت البلدة تحت سيطرة النظام وحزب الله في الأسبوع الماضي. حيث ما تزال مضايا مطوقة بمقاتلي حزب الله والذين أقاموا السواتر الترابية في المنطقة.

 وصول المهجرين إلى إدلب، ليلة السبت. حقوق نشر الصورة لـ OMAR HAJ KADOUR/AFP/Getty Images   

وتستأنف مرام “على العكس الوضع أصبح أسوأ كون النظام والحزب باتوا يدخلون ويخرجون إلى مضايا في أي وقت”.

إذن، فلماذا البقاء؟، تجيب مرام “فقط من أجل أن نبقى في أرضنا ونعيش في منأى عن القصف والحصار”.

  • حسن يونس، 27عاماً، عضو الدفاع المدني الذي كان عاملاً في مضايا، خرج إلى إدلب مع أخته واختارت أمه أن تبقى في مضايا.

هل لك أن تصف لي رحلتكم شمالاً إلى إدلب في يوم الجمعة والسبت؟ سيارة مفخخة قتلت أكثر من مئة شخص على متن الحافلات الخارجة من الفوعة وكفريا المحاصرتين السبت، هل كان الناس في حافلتكم على دراية بالهجوم؟

خرجنا من مضايا بعد طول انتظار وتأجيل، وظلت الأمور بخير حتى وصلنا حاجز الراموسة، فتحت شبكة الواي فاي لأستطلع آخر الأخبار في الفيسبوك كالعادة.

(الراموسة، تحت سيطرة الحكومة السورية، وتقع إلى جنوب مدينة حلب، وحاجز الراموسة، نقطة متفق عليها للمخرجين من مضايا في طريقهم إلى إدلب).

فرأيت الخبر وصدمت جداً، حاولت ألا أخبر النساء والأطفال الموجودين معنا حتى لا يتوتروا، ولكن عندما انتشر الخبر في باقي الباصات، علمت النساء وشعرن بالخطر المحدق بهن وبأطفالهن، وبدأن بالبكاء، أما بالنسبة لنا كشباب نزلنا من الباصات وصلّينا ركعتين لوجه الله، ودعوناه أن يرحمنا فنحن مستضعفون هناك، والموت محتم علينا، وأيقنا أنها النهاية خصوصاً عندما بدأ الأهالي يخبرون بعضهم كلما ارتفع عدد قتلى التفجير: “صاروا 100.. صاروا 102” وهكذا.

وكنا بمنطقة كراج الراموسة منطقة مكشوفة تماما مساحة 1 كم محاطة بجدران من كل الاتجاهات بارتفاع مترين ونصف، وبعدما جاءنا خبر التفجير بنصف ساعة، رصدنا حركة غريبة وبدأت سيارات الأمن وسيارت تابعة لـلواء فاطميون (ميليشيا شيعية أفغانية) بالتقدم نحونا، وانتشروا أيضا حولنا بسيارات تحوي رشاشات، هنا انهارت أعصابنا وسلّمنا أمرنا لخالقنا أنها النهاية.

كانت تلك اللحظات مصيرية بالنسبة لنا، وتوقعنا أنها ستكون النهاية، سيقتلوننا جميعا لينتقموا لأهاليهم الذين قتلوا في التفجير، وبعد إيقان الأهالي بانهم سيموتون انتقاما، حاول بعضهم الإختباء في الحمامات التي لم يكن يوجد غيرها بناءا واضحا في المنطقة، ومنهم من جلسوا تحت الباصات، ومنهم من بدأ يصرخ ويبكي، ومنهم من بدأ بأداء الصلوات طيلة الوقت طالب من ربه الرحمة.

ما الذي كان يجول في رأسك في تلك اللحظات، هل شعرت بالندم لخروجك من مضايا؟

أنا شخصيا بسبب عملي في الدفاع المدني كنت في وضع لا أحسد عليه، كان هاجسي وتفكيري كله من سينقذ هؤلاء الأطفال بعد موتي، في معظم الوقت كنت أنظر للأطفال والنساء وأدعو الله ألا يصيبهم أي مكروه، وفي نفس اللحظات تشتت أفكاري وأصبحت تراودني أفكار عجز عن القيام بأي شيء.. وندم على خروجي من مضايا، كما عدت بذكرياتي لسنوات الحصار الأربعة التي عشتها في مضايا، والتي كانت أرحم علي من ذلك الموقف، وأنت تنتظر موتك في أي لحظة، وتمنيت لو أنني بقيت فيها ومت فيها.

حتى أنني في تلك اللحظات كنت أفكر في أخي الذي كان موجوداً مع الثوار المرافقين لباصات كفريا والفوعة، الذي لم أكن أعرف عنه شيئا وقتها، الحمدلله (لم يصب بمكروه) وأكثر ما أثرّ في نفسيتي تفكيري بأمي التي بقيت وحدها في مضايا ورفضت ترك بيتها،(خيل لي) عندما سترى أخبار التفجير والضحايا.. ماذا سيحل بها؟ بالطبع ستبكي وتنهار إن مت أنا وأختي وأخي.. لحظات لا توصف وصعبة جدا.

وبعد ورود الأخبار بالتفجير وبعد تلك الأفكار المتشتتة كلها أصابني البرود وقلت هي موتة واحدة وصليت ركعتين ومن ثم قمت بالتواصل مع الإعلاميين، ومع الصليب الأحمر والأمم المتحدة، وناشدناهم ليتدخلوا لإنقاذنا وأخبرناهم بأن معنا أكتر من 500 امرأة وطفل، كي يتدخلوا ويحاولوا فعل شيء، كون الاتفاق أساسا تحت رعاية الأمم المتحدة، كما تواصلنا مع عدة قنوات كالأورينت والعربية حيث كان يجب أن يتحرك العالم كله لشأننا، وبنفس الوقت شعرنا أن عملنا لن يكون له أي نتائج ولكن ليس بيدنا حيلة.

كراج الراموسة، السبت. حقوق نشر الصورة لـ مضايا.

كما أنا تلقينا أمرا ًمن مديرية الدفاع المدني بريف دمشق (في حالة طوارئ كهذه) أن نقوم بتهدئة الأهالي، ورفع معنوياتهم حاولنا ذلك بقصارى جهدنا، وحاولنا تغيير الحالة النفسية للأطفال، وأخذنا نطمئن الأطفال والنساء بأنه قد وردتنا أنباء بأن الأمور جيدة والاتفاق سيتم على أكمل وجه وبالفعل حصل ذلك.

وبعد ذلك قرأنا بياناً على قناة الميادين كان للجيش السوري بأنه سيتعهد بحماية أهالي مضايا وبقين من أي أعمال انتقامية، هنا بدأت الأعصاب تهدأ وبنفس الوقت ينتابنا شعور أن الخبر قد يكون غير صحيح ولكن “الغريق يتمسك بقشة”.

ومن ثم جاءنا أخبار من جيش الفتح (غرفة عمليات ثورية تتضمن عناصر من هيئة تحرير الشام) بأن الاتفاق (الإخلاء) سيكتمل، وستتحرك الباصات إلى إدلب، ومن ثم وصلنا إلى المناطق المحررة، وحتى ونحن في الطريق إلى إدلب شعرنا بعدم الأمان، وإلى تلك اللحظات والناس متوترة، ولم ترتح قلوبنا إلا بعد أن وصلنا للمناطق المحررة، ورأينا الثوار ورحبوا بنا، كان استقبالا رائعاً، وحتى الآن لسنا مصدقين أننا خرجنا من كراج الراموسة.

هل لك أن تصف لي حياتكم في إدلب الآن؟ وهل لك أن تقارن لي بين مضايا وإدلب؟ قلت أنه بعد أن علمت بالتفجير، وتوقعت أن تُقتل، وندمت على قرارك بالخروج من مضايا، هل ما زلت تعتقد أنك اتخذت خياراً خاطئاً؟   

أنا حاليا أقيم في مدينة إدلب، ورغم أنه أصبح لنا ثلاثة أيام في إدلب ولكننا إلى الآن نجلس ونستذكر اللحظات القاسية التي عشناها في الراموسة والتي لن ننساها أبدا.

لا نستطيع أن نقارن بين مضايا وإدلب من حيث الطبيعة وتوفر المأكل والمشرب، فرغم وجود طعام لم نره منذ سنوات كاللحوم والخضراوات، لكننا في مضايا كنا في أرضنا وحاراتنا وبين أهلنا.

يحدث معنا مواقف بأننا عندما نمر ببسطة خضار (في إدلب) ونحن مهجرون من بلدة حرمت أقل المقومات المعيشية، ننظر إلى الخضار تلك بتمعن، وكأننا في حلم، حتى أننا كدنا ننساها داخل مضايا، ويحدث أيضا أن يمر المهجر ليسأل البائع بكم كيلو البصل فيرد بـ100 ليرة، فيعاود المهجر سؤاله كما لو أنه لم يصدق، فكيلو البصل كان يباع بمضايا بـ25 ألف ليرة سورية.

ماسبب خروجك من مضايا، ومع من خرجت؟

اضطررنا للخروج من مضايا، بعد سنوات من الحصار والجوع ولم تبق أمامنا أي خيارات سوى الخروج من الجحيم، وقد دخل النظام لمناطقنا، أخي كان من الثوار الذين خرجوا من وادي بردى، موجود هنا في إدلب.  

خرجت أنا وأختي، وأمي تبقت في مضايا وقالت بأنها ولدت في أرضها وستموت فيها.

  • مرام الشامي، امرأة في الثلاثينيات من عمرها، وقررت أن تبقى في مضايا مع والدتها. تحفظت على ذكر اسمها الحقيقي خوفاً من اعتقالها من قبل قوات النظام.

لسنوات الآن وأنتم تواجهون الموت برصاص القناصة والغارات الجوية والتجويع، وهذا كله بيد قوات النظام، الذي يسيطر الآن على مضايا، فما الذي جعلك تقررين البقاء هنا، رغم كل كوامن الخطر؟

سبب عدم خروجي أني أعيش مع والدتي الكبيرة في السن في منزلنا دون معيل، فإن خرجنا لإدلب سنعيش تحت القصف أو سنلجأ إلى المخيمات فكان البقاء أرحم لنا.

فمنزلنا هو أفضل لنا ويجب أن نرضى بما كتبه الله لنا، خيارنا بالبقاء فقط من أجل أن نبقى في أرضنا ونعيش في منأى عن القصف والحصار فقط، والخروج يعني التشرد عن الأرض والمنزل والأهل لذلك قررنا البقاء على الخروج.

الصعود على متن الباصات لمغادرة مضايا، الجمعة. حقوق نشر الصورة لـ مضايا.

حدثينا عما حدث في مضايا منذ تسلمت قوات النظام السيطرة عليها آخيراً. وكيف تبدو حالياً على الأرض؟

بعد ظهر يوم الاثنين دخلت لجان شعبية تابعة للنظام لمدينة مضايا، وقامت بمداهمة العديد من منازل المهجرين، بخلع بابه والدخول إليه، في وضح النهار على مرآى كل أهالي الحي ودون أي اعتراض من الأهالي وقاموا بسرقته وتعفيشه، قاموا بسرقة كل شيء من مواد كهربائية ومفروشات والذي لم يأخذوه قامو بتكسيره ، وهم يقولون هذه بيوت الإرهابيين الذين خربوا البلد ونريد أن نحرق قلوبهم على ما تركوه.

وكانوا ينظرون للشباب بحقد ويشتموهم، وكأنهم يريدون أي رد ليتم اعتقالهم.

وقام حزب الله بإعادة السواتر الترابية ومحاصرة المدينة من جديد، فالحواجز مازالت موجودة حتى هذه اللحظة داخل المدينة، وكان حزب الله قد سمح بدخول بعض الخضراوات والمواد الغذائية (إلى مضايا) ولكن أسعارها لم تختلف عن فترة ما قبل الحصار.

فالوضع لم يتغيير عمّا كان عليه قبل الاتفاق بل على العكس أصبح أسوأ كون النظام والحزب باتوا يدخلون ويخرجون إلى مضايا في أي وقت.

ماهو أكثر ما تخشينه كمدنية موجودة في مضايا في الأيام القادمة؟

أخاف أن يقوم النظام بأعمال انتقامية منا ولا يفي بوعوده وخاصة بعد تفجيرات الراشدين وأخشى أن ندفع  نحن ثمن التفجيرات.

فالعديد من الأهالي في ترقب وانتظار، وندموا لأنهم بقيوا وصدقوا النظام وحزب الله، والآن هناك خوف ممّا ستحمله لنا الأيام القادمة، وأشعر أننا نقاوم فقط بالبقاء على قيد الحياة بعد كل ما حصل في مضايا.

وأخاف أن يستمر النظام بممارساته ضد الأهالي لأن العدد الذي بقي كبير مقارنة بعدد من خرج. وأخشى أن يشكل هذا ضغطاً علينا.

قلت سابقاً أن الوضع تتدهور منذ بدأت عملية الإخلاء، هل أنتِ نادمة على قرارك بالبقاء في مضايا؟

كنا في الماضي نفكر فقط بالحصار وكيف سنؤمن قوت يومنا ولكن الآن أصبح الخوف في عيوننا ظاهراً، نعم أنا نادمة على عدم خروجي والعديد من الأهالي. لأننا نعيش في ترقب ومجهول فحتى الاتفاق الذي شمل مدينة مضايا هو غامض لا يوجد فيه أي تفاصيل عن مصير من سيبقى. لم يكن واضحا سوى بند الخروج لأنه ضمن مصالح النظام وحزب الله.

ترجمة: فاطمة عاشور

شارك هذا المقال