8 دقائق قراءة

ما بين ماضيها وحاضرها.. هل تلملم حمص ما مزقته الحرب؟!

عامان ونصف على رحيل الثوار من مدينة حمص القديمة، ضمن […]


4 ديسمبر 2016

عامان ونصف على رحيل الثوار من مدينة حمص القديمة، ضمن اتفاقية الهدنة والتي عادت من خلالها “عاصمة الثورة” ليد النظام وحكمه. وما تزال المدينة تصارع لتتجاوز ندوب العنف وأخاديد التصدع الطائفي الذي تركته سنوات الحرب الطويلة، وفق ما قال سبعة من الأهالي لسوريا على طول.

ولرسم اللوحة بفرشاة عريضة،تتبين الملامح البارزة فيها، فحمص اليوم حكاية مدينتين: تتركز الغالبية العلوية الشيعية شرقاً وإلى الجنوب الشرقي، حيث تهيمن الميليشيا الطائفية، بينما الأحياء الغربية، مكتظة بالسكان، ومخدّمة بشكل سيء، وغالبيتها من السنة. وفي قلب المدينة، ترتسم ندوب الصدع لحمص القديمة المدّمرة، والتي باتت أرضاَ قفاراً للأشباح والعدم بعد ما أنهكتها المعارك والقصف العنيف للنظام.    

وتناوبت على المدينة القديمة حضارات ومراحل كثيرة على مر التاريخ، وقبل ألفي عام، أطلق السكان المحليون والرومان  من بعدهم على المدينة التي تقع على ضفاف العاصي، اسم إميسا. وفي العصر الحديث أصبحت حمص مركزاً صناعياً، وعاصمة أكبر محافظة سورية، وارتبطت دائماً وأبداً بحس الفكاهة والدعابة من خلال موروثها من النكات الشعبية التي تعكس خفة روح شعبها وبساطتهم وحبهم للمرح والحياة.

وقبل بدء الانتفاضة السورية في عام 2011، كانت حمص تعرف بأنها أكثر المدن امتزاجاً بالطوائف الدينية والعرقية. وكانت المدينة ذات الغالبية السنية تتباهى بالتعداد الكبير للعلويين والشيعة والمسيحيين، وصحيح أن سكان المدينة كانوا منقسمين عموماً إلى أحيائهم الخاصة، إلا أنهم كانوا مجتمعين كثمرة الرمان لكل فيها حيزه.

ومن ثم بدأت الانتفاضة وكانت حمص في ربيع عام 2011 من أوائل المدن التي تشهد المظاهرات الشعبية الكبيرة ضد نظام بشار الأسد، مع تركز المظاهرات الأولى في الأحياء الوسطى لحمص القديمة ذات الغالبية السنية.

ورغم التنوع الذي تضمه المدينة، وربما بسببه، اتخذت الانتفاضة المناهضة للأسد مباشرة لوناً طائفياً. وتركزت المظاهرات على نحو اعتيادي في الأحياء السنية. وجاءت ردات الفعل العنيفة الأولى، وفق ما تواردت الأنباء من الميليشيا الموالية للنظام أو ما يعرف بالشبيحة والتي كانت تتجمع في المعاقل ذات الغالبية العلوية في المدينة والتي تساند الأسد، كحيي الزهراء وعكرمة.

مدينة حمص، في نيسان 2014.بـ عدسة شاب حمصي

واستمر الأهالي في العديد من أحياء حمص بالتظاهر لشهور بعد أن ُقمِعت الثورة في بادئها في عدة أماكن في سوريا. والذي كان سبباً في منح المدينة اسم “عاصمة الثورة”.

فزحفت دبابات الحكومة إليها وانتشر الجيش وأقيمت الحواجز. ومع استمرار الاشتباكات والقصف والمجازروالقتل على أساس الطائفة في حصد الأرواح سواءً من الموالين للنظام أو المعارضين له، بات أهالي حمص يحترزون من بعضهم الآخر.

“في بداية الأزمة كنا نخشى الاختلاط مع أصدقائنا السنة خوفاً من أن يكون أحد منهم قد اتفق مع جهة إرهابية لخطفنا”، حسب ما قال رشاد، طالب في جامعة البعث من سكان حي عكرمة، لسوريا على طول.

وحصَن الثوار أنفسهم بالتمركز في الأحياء السنية مثل أحياء بابا عمرو وباب سباع وحمص القديمة، في حين بقيت الأحياء الشرقية عموماً بيد النظام. ومع اشتعال الحرب الدموية وانتشارها في أرجاء المدينة، في كل شارع وفي كل حي، سارعت قوات النظام إلى فرض الحصار على المناطق الثائرة وقصفها دون هوادة، مما دفع آلاف الناس إلى الهرب من منازلهم بحثاً عن مأوى في مكان آخر في سوريا أو في دول الجوار.

وآخيراً في أيار 2014، وبعد خسارة معظم مناطقهم، ومعاناتهم قسوة الحصار لسنتين من قبل ميليشيا النظام، استسلم آخر من بقي من الثوار وغادروا حمص الوسطى والمدينة، وعادت الأرض اليباب التي مزقتها الحرب لسيطرة الحكومة. باستثناء حي الوعر، غربي حمص والذي رُحِلَ إليه مئات المقاتلين بينما اتجه آخرون إلى الريف الشمالي للمحافظة.

وفي 2015 بعد مرور عام واحد، كان محافظ حمص طلال البرازي يتغنى بأن “حمص اليوم تشهد أماناً واستقراراً وعودةً للحياة الطبيعية”.

وبما يتناقض مع تأكيدات المحافظ، قال سبعة من السكان من مختلف الطوائف الموجودة في المدينة لسوريا على طول، أنه ورغم مرور عامين ونصف على رحيل الثوار، فإن الحياة ما تزال أبعد ما تكون عن الطبيعية.

ولم تدمر سنوات الاقتتال والقصف والحصار الشوارع والمباني في حمص الوسطى فقط، وإنما دمرت البنية والنسيج الاجتماعي للمدينة وعمقت التصدع الطائفي فيها، حسب ما يقولون، فاليوم يبقى السنّة في المناطق ذات الغالبية السنية خشية الاختطاف والاعتقال. وبالمثل يبقى العلوية والشيعة في مناطقهم. ولم يعد الأطفال والشباب يتفاعلون بعفوية ويكونون صداقات على الخط الطائفي بدون حواجز في المدارس والجامعات كما كانوا سابقاً.

فكيف لمجتمع مزقته الحرب مادياً، واجتماعياً أن يتآلف من جديد، ويضمد جراحه؟ أهالي حمص يجيبون سوريا على طول: ببطء، بألم، شفاءً غير تام وربما لا يبرأ أبدا.

وباتت “مدينة حمص تشهد شرخاً كبيراً على صعيد نسيجها الاجتماعي”، وفق ما قال سليم نجار، الذي أمضى حياته في ثالث أكبر مدينة لسوريا على طول. و”تغيرت الطريقة التي يرى بها أبناء حمص جيرانهم وأنفسهم، تبعاً لانتمائهم الأمني والتاريخي خلال الحرب”، وفق ما يقول.

وبصمت ظل يراقب كل تفاصيل الحرب، وبقيت الأحياء المدمرة لحمص القديمة تبث بالنفس أوجاعها، وتذكر بوحشية الحرب التي استنزفتها في الماضي القريب.

وقال سليم النجار، من سكان حي الغوطة غرب المدينة، “لم تعد حمص كما كانت، لا في حجارتها ولا حتى سكانها”.

لا يمكنك الوثوق بأي أحد”

“ما شهدته حمص خلال الأزمة ليس من السهل نسيانه، خصوصاً بأن مظاهر الكارثة التي حلت بالمدينة ما زالت” ماثلة، وفق ما قال ربيع المشهداني محامي في مدينة حمص لسوريا على طول، مشيراً إلى حمص القديمة الخاوية على عروشها إثر القصف.

ولم يبق من أحياء حمص الأقدم والأكثر ثورية سوى لوحة تحفر بالوجدان لأرض يباب بعد جحيم المعارك، وعاد وجهها القمري المرسوم بملامح الحضارة والتاريخ كالعرجون القديم. واليوم أحياء المدينة هذه بلا حياة وبحاجة إلى إعادة إعمار لكل ما فيها.

و”يعي الجميع تماماً بأن حمص الآن ليست كما كانت في السابق؛ فجميع أحياء المدينة دون استثناء تشهد توتر وقلق من المجهول”، وفق ما قال أبو وسام، وهو مدرس (43 سنة) من سكان حي الأرمن، ذي الغالبية العلوية المجاور لحي الزهراء، لسوريا على طول، شارحا “أنت لا تعرف من يكيد لك ولا تعرف ما هو مصيرك”.

محافظ حمص طلال البرازي خلال تفقده أعمال تأهيل وتعبيد شارع في حي الزهراء في آب 2016. حقوق نشر الصورة لـ المكتب الصحفي- محافظة حمص.

إلى قال رشاد طالب في جامعة البعث من سكان حي عكرمة، لسوريا على طول “إن الترابط الاجتماعي على المستوى الطائفي أصبح معقداً فعلاً، حيث يستذكر كيف كان في بداية الأزمة يتحاشى أصدقائه السنة وكيف انعكس الأمر بعد أن استعادت الحكومة السيطرة على معظم حمص “فأصبحوا هم  يتجنبوننا بشدة”.

وفي حين كانت الجامعات والمدارس أكثر الأماكن في المدينة انسجاماً واندماجاً، فإن مجموعات الشباب اليوم ممن هم في سن الجامعة منقسمون كما المدينة نفسها. “وباتت الجامعة تفتقر للجلسات الطلابية التي كانت تنتشر هنا وهناك بكثافة وللتنوع الذي كان يشمل شِلل الجامعة إن كنا من مدن مختلفة أو طوائف أو أديان مختلفة”، وفق ما قال رشاد، الذي أضاف “بت تشعر أن الجامعة  كجزء من الحي؛ أصدقائك أصدقاء الحي أو أصدقاء الطفولة ولا يمكنك الوثوق بأي أحد لتكوين صداقات حقيقية جديدة”.

وبعيداً عن العلاقات الفردية، فإن علاقة المدنيين بالحكومة وقوات الآمن في حمص تختلف تبعاً لأماكن سكنهم والطائفة التي ينتمون إليها، وفق ما قال الأهالي لسوريا على طول. فالأحياء ذات الغالبية السنية في غرب حمص يواجه ساكنوها التدقيق الأكبر.

ويصف أبو مراد أحد سكان السنّة في حي الإنشاءات غرب حمص الجو المشحون فيما يسميه بـ”الأحياء السنية”.

ويقول “نتعرض كثيراً للتفتيش والشتم من قبل الحواجز الأمنية والشبيحة إضافة إلى الخوف الذي يسود أهالي الحي من شبح الاعتقال في أي لحظة إذا يعتبروننا دائماً “إرهابيين” وأكثر ما نسمعه جملة “لنعبدكم الحجر طولوا بالكم كمان شوي”. وتدير الأفرع الأمنية وعناصر الميليشيا الحواجز في معظم أحياء حمص، بينما في الأحياء العلوية كالزهراء، فتسيطر عليها الميليشيا المحلية التي لها مقرات قريبة منها.

ويعود السبب وراء التصعيد الأمني في مدينة حمص إلى سلسلة السيارات المفخخة والهجمات الانتحارية ضد المدينة، والتي هزت حي الزهراء نحو ست مرات منذ منتصف عام 2015، والتي تبنى تنظيم الدولة المسؤولية عنها. وقُتل فيها وأصيب عشرات الأشخاص، وكان آخرها في أيلول الماضي، مما أدى إلى احتجاجات وانتقادات حادة لمحافظ المدينة والجهات الأمنية من قبل أهالي الحي.

ومن جهته، قال رضوان عباس، أستاذ في كلية الحقوق بجامعة البعث بحمص وهو من سكان حي الزهراء، رغم المخاوف الأمنية “فالنسيج الاجتماعي في حمص مترابط، والحياة تعود تدريجياً إلى سابق عهدها”.

وأشار إلى أن التشديدات الأمنية على أحياء معينة لا ُبدّ منها “نتيجة التغيير الفكري الذي حدث في تلك الأحياء (غرب حمص) إبان اختلاطهم مع الإرهابيين والفكر التكفيري”.

ولمكافحة هذا “التغيير الفكري” تقيم الحكومة الندوات وبرامج التوعية وإعادة التأهيل التي تنفذ “كخدمة من الدولة في مساعدة شعبها”، وفق ما قال عباس.

مراد، من أهالي غرب حمص، والذي حضر إحدى هذه الندوات، قال أنها تتم بحضور محافظ حمص، طلال البرازي، ومسؤولي أمن محلليين، وأعضاء من حزب البعث الحاكم وممثل عن مركز المصالحة الروسية في حميميم.

و”خلال الندوات يتحدثون عن أهمية السلم الأهلي”، وفق ما قال مراد، الذي أضاف “يأتي  الناس بشكل شبه إجباري لآنه يتم تبليغهم قبل أيام بحضور شخصيات مهمة ويضطرون للحضور لأنهم سيعتبروا من لا يحضر ضد الدولة وضد الندوة والأمن يكون منتشرا في المنطقة”.

وفي 15 تشرين الأول أقامت قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي بحمص “الملتقى الوطني الجماهيري لأهالي محافظة حمص والذي يهدف الى تعزيز المصالحات المحلية بالمحافظة وتعزيز الوحدة الوطنية”. وحضر الملتقى مجموعة من مسؤولي الدولة والشخصيات المحلية، بما يتفق مع رواية أبو مراد.

وما يزيد محاولات المصالحة المُجاهر بها هذه تعقيداً، أن الحرب على 80 ألف من أهالي حي الوعر المحاصر غرب مدينة حمص لم تزل مستمرة. وأسفر قصف النظام ورصاص قناصته عن مقتل أكثر من 20شخصاً وإصابة 150آخرين هناك، في شهر تشرين الثاني وحده. وفي حين أوقفت مفاوضات الهدنة المستأنفة في هذا الأسبوع من الهجوم اليومي، إلا أن الحي ما يزال جرحاً مفتوحاً.

“العنف ليس ببعيد عن تلك الأحياء، فالريف ما زال مشتعلاً” وفق ما قال ربيع المشهداني، محام في مدينة حمص لسوريا على طول.

حمص جديدة؟

يتطلب أكثر من ثلاثين حياً؛ ما يوازي ثلث حمص إعادة إعمار وتأهيل مستعجلة، وفقاً للمفوض السامي لشؤون اللاجئين.

ومنذ إعلان خطة شاملة لإعادة إعمار حمص في آب 2015، شرع محافظ حمص، طلال البرازي بالتنسيق مع غرفة تجارة حمص وبتمويل من برنامج التنمية للأمم المتحدة UNDP في إعادة إعمار المدينة. ويسعى UNDP حالياً إلى تقديم عروض لمشاريع في مدينة حمص، تتضمن إزالة الأنقاض، إعادة ترميم شبكة الصرف الصحي، وإعادة تأهيل المراكز الصحية في عدة أحياء.

حُــمْــص – شـــارع الـحـمـيـديّـة في نيسان 2014.بـ عدسة شاب حمصي 

وبدأ العمل في وقت سابق من هذه السنة بإعادة إعمار حمص القديمة وأسواقها الأثرية المغطاة بالأسقف الأسطوانية والعقود الحجرية والتي تعادل مساحتها خمس الأحياء القديمة. وإلى الآن، تم إزالة نحو ألف متر مكعب من الأنقاض من الأحياء. وإلى أقصى الشرق، تجري المرحلة الأولى من إعادة الإعمار في حيّي العباسية والمهاجرين ذوي الغالبية العلوية.

وليس الجميع راضين بمسار البناء الذي حصل حتى الآن. وقال أهالي من أحياء حمص الغربية ذوي الغالبية السنيًة، لسوريا على طول، إنهم يعتقدون أن أحيائهم تأتي بمنزلة منخفضة في قائمة أولويات النظام بإعادة الإعمار. ويزعمون أن النظام يعطي الأولوية لإصلاح معاقله، ويعبَد ويرمم الشوارع هناك، بينما تبقى الأحياء الثورية سابقاً، والتي تم ردمها على عروشها، مكب نفايات. و”صحيح بان أغلب الأحياء المهجورة هي سنية وهناك كثيرون من السنة تعرضوا للاضطهاد إلا أن العلويين قد يكونوا ضحايا في نهاية المطاف”، وفق ما قال أبو وسام من سكان حي الأرمن ذي الغالبية العلوية، في شرقي حمص.

وختم “لا أحد يعلم المستقبل، فلهذا يسعى كل طرف بأن يزيد بطشه على الأخر كفرصة للبقاء”.

ترجمة: فاطمة عاشور

 

شارك هذا المقال