4 دقائق قراءة

مخيم الأرامل في وادي البقاع اللبناني: لاجئات سوريات يكتشفن قدراتهن في مساحتهن الآمنة 

كما جمع هؤلاء النسوة فقدانهن أزواجهن، فقد اجتمعن وصرن عائلة بالنسبة لبعضهن بعضاً


16 نوفمبر 2020

وادي البقاع- عبر حقول وادي البقاع الواقع بين سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية، تمتد طريق ترابية بين مبنيين، مفضية عبر مدخل غير ظاهر للعيان إلى مخيم عشوائي تبلغ مساحته 1,200 متر مربع، يضم ثلاثين مسكناً مسبق الصنع (كرفان/مقطورة)، يُحظر على الرجال دخوله. إنه “مخيم الأرامل” الذي تلجأ إليه نساء سوريات باعتباره مساحتهن الخاصة، بعد أن هُجِّرن نتيجة الحرب السورية، وعانين قيوداً يفرضها مجتمع بطريركي (أبوي). 

يقع المخيم المحاط بسياج بين بلدتي بر إلياس وحوش الأمراء. وقد تم تمويل إنشائه من قبل جمعية خيرية كويتية خلال السنوات الأولى للحرب في سوريا من أجل إيواء الأرامل والأطفال الأيتام. وفيما يبدو كل شيء بنسقٍ ولونٍ واحد؛ فالجدران رمادية والأرض ترابية غير معبدة، تكسر هذه الرتابة الملابس الملونة المتأرجحة على الحبال المنصوبة بين المقطورات.

في المقطورة رقم 21، تقيم نصرة سويدان، البالغة من العمر اثنين وأربعين عاماً، والتي فقدت زوجها إثر هجومٍ صاروخي في مدينة حمص، وسط سوريا، في العام 2016. وتظهر في مطبخها الصغير كل عبوات البهارات مرتبة بأناقة فائقة إلى جانب ركوة القهوة. 

أقامت نصرة  لثلاث سنوات في منزل أقرباء لها بمدينة طرابلس شمال لبنان بعد أن لاذت بالفرار برفقة ابنها البالغ من العمر ثماني سنوات. لكنهما لم يشعرا براحة. إذ “كنت مرهقة نفسياً؛ ومكتئبة، لم نرتح لا أنا ولا  طفلي في ذلك المنزل”، كما قالت لـ”سوريا على طول”. لذلك، ما إن عرفت عن مخيم الأرامل، حتى حزمت حقائبها في اليوم التالي وتوجهت إليه.

أما جارة نصرة في المقطورة المحاذية، آمنة ياسر الربيع، فقد فقدت زوجها في العام 2013 في مدينة القصير بمحافظة حمص. وسرعان ما فرت وأطفالها السبعة من سوريا “بملابسهم فقط”، لاجئين إلى بلدة عرسال اللبنانية المجاورة. لكنهم وجدوا أنفسهم عالقين وسط الاشتباكات العنيفة بين الجيش اللبناني والفصائل الإسلامية المسلحة في المنطقة، ما دفعهم إلى الانتقال إلى مخيم الأرامل العام 2014.

بعد عام من ذلك، وصلت لبيبة نايف النعمة وأطفالها الثلاثة من سوريا إلى المخيم مباشرةً. وكانت لبيبة قد ترملت قبل ثماني سنوات وفيما كانت حاملاً في شهرها الرابع، حينما سقط صاروخ على منزلها أفضى إلى مقتل زوجها.

وكما جمع هؤلاء النسوة فقدانهن أزواجهن، فقد اجتمعن وصرن عائلة بالنسبة لبعضهن بعضاً.

“العين على الأرملة دائماً”

في مجتمع بطريركي، تكون ممارسة المرأة حياتها اليومية بغياب رجل مهمة شاقة. إذ عليها، أولاً، التعامل مع الوصمة التي تلاحق الأرملة. إذ يتم النظر إلى قاطنات مخيم الأرامل باعتبارهن “نسوان فلتانات”، على حد وصف آمنة. مضيفة: “هذا ما يقولونه خارج المخيم. وأنا لا أستوعب ما يقولونه، ويصعب علي احتماله”. 

وبحسب نصرة: “في مجتمعنا، حتى لو كانت الأرملة ملاكاً، سيظل الناس يتكلمون عليها”، وأن الناس سيعلقون حتى على زياراتها لأصدقائها لأنها بلا زوج. إذ “في مجتمعنا، العين على الأرملة”، كما أضافت. 

كذلك، تعاني النساء من تمييز هيكلي منبعه المفاهيم الاجتماعية الخاصة بالميراث. فعلى سبيل المثال، حين توفي زوج نصرة، ورث ابنها وأبناؤه من زواج سابق منزله في حمص، فيما حُرمت هي من الميراث.

وقد وقع على كاهل نصرة، على نحو مفاجئ نتيجة وفاة زوجها، القيام بدور الأم والأب معاً. لكن إذا كان “الرجال يملكون في مجتمعنا زمام السيطرة والقوة”، كما قالت، فإن “ما حدث لنا [الترمل] جعلنا أقوى من الرجال؛ فأنت حينما تكون بمفردك يشتد عودك رغماً عنك”.

فحينما توفي زوج لبيبة، ذات الثلاثين عاماً، “كان الأمر صعباً جداً”، وفق ما وصفت، إذ “لم أعتد الخروج من المنزل. كان هو من يعيلنا ومصدر رزقنا.  ومن ثم ترتب عليّ أن أعيل أطفالي”. وقد عملت بعد ترملها مباشرة مزارعة في سوريا، فيما بدأت مؤخراً العمل في محل للخياطة.

وكذلك الأمر بالنسبة لنصرة أيضاً، التي تعمل حالياً في ملحمة قريبة بأجر يومي يبلغ 7,000 ليرة لبنانية [4.6 دولار]، ما مكنها من أن تغدو “مسؤولة عن نفسي، وأعيل عائلتي”، كما قالت.

يشار إلى أن نسبة اللاجئين السوريين الذكور العاملين في لبنان بلغت 66% العام 2019، مقابل نسبة 11% في أوساط اللاجئات. وبحسب بيانات الأمم المتحدة، يبلغ معدل دخل الأسر التي ترأسها امرأة 47 دولاراً شهرياً، مقارنة بحوالي 69 دولاراً لأرباب الأسر الرجال.

وتستلم النساء الثلاث مساعدات نقدية شهرية من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. لكنها مساعدات غير كافية مع تدهور قيمة الليرة اللبنانية، كما شكين. وحتى العام الماضي، لم يسددن فواتير الكهرباء والمياه، لكن اعتباراً من هذا العام، صرن يدفعن إيجاراً سنوياً قدره 1,200,000 ليرة لبنانية (793 دولاراً بسعر الصرف الرسمي) بالإضافة إلى الخدمات.

آمنة (يمين) تجلس مع ابنتها ذات السبعة عشر عاماً، وحفيدها، في المقطورة التي يسكنونها في مخيم الأرامل، 26/ 09/ 2020 (سوريا على طول)

واحة آمنة

تتعرض اللاجئات السوريات في لبنان للتحرش والاستغلال الجنسيين والاعتداءات، هو واقع لا يمكن إنكاره. وانطلاقا من وعيهن بمخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي، أجمع ثلاثتهن على أن سبب اختيارهن للمخيم يتمثل في الأمان.

“نحن هنا بين نساء. حينما أغلق باب [مقطورتي] ليلاً، لا يكون هناك أحدٍ غيري وابني. ونشعر بالأمان، فالرجال ممنوعون من الدخول”، بتعبير نصرة. 

فوق ذلك، صار مجالاً لتوفير الدعم. “نحن نفهم بعضنا، ونعيش هنا كما الأخوات”، كما أضافت نصرة. موضحة أنها تدخل منزل صديقاتها في المخيم كما لو أنه منزلها، والعكس صحيح. وهن يساندن بعضهن مادياً إن احتجن. وبحسب لبيبة “علاقتنا مع بعضنا أقوى من علاقتنا بأصدقائنا خارج المخيم”، فيما قالت آمنة: “الأرامل الأخريات أصبحن الآن كأنهن عائلتي”.

صحيح أن بيوت هؤلاء النسوة في مدينتي القصير وحمص تبعد عن المخيم مدة ساعتين فقط في السيارة، إلا أنّ الرجوع إليها يبدو بعيداً جداً. فمنزل نصرة احترق، ومنزلا لبيبة وآمنة تهدما، عدا عن أنهن لا يستطعن العودة لأسباب أمنية، بحسب ما ذكرن.

وإلى حين تحقق تلك العودة، فإن النساء في هذه الواحة -وإن كانت مسورة بسياج- يعشن في مساحةٍ من الأمان والتفاهم، لا تخلو من الفرح أيضاً. وبابتسامة ارتسمت على محيّاها قالت نصرة: “نحن نرقص أحياناً”.

نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.

شارك هذا المقال