7 دقائق قراءة

مع فشل تنفيذ البنود الإنسانية في العقوبات المفروضة على سوريا: مرضى السرطان يتجرعون الموت والحرب معاً

كل بضعة أسابيع، يزج أحمد بنفسه في غرفة الانتظار المكتظة […]


7 فبراير 2017

كل بضعة أسابيع، يزج أحمد بنفسه في غرفة الانتظار المكتظة بالمرضى بمركز السرطان الوحيد في سورية.

وبينما ينتظر جلسات العلاج في مستشفى البيروني الجامعي في دمشق، يصغي الشاب ذو السابعة والعشرين، والذي دخل في المرحلة الثالثة من سرطان العظام إلى زملائه المرضى وهم يناقشون معضلة نقص الأدوية. ويقول “أتأمل فيهم وكل منهم يتحدث أمامي عن معاناته في الحصول على الجرعة، وكم يحتاج إلى وقت للحصول عليها، وكم يوجد أشخاص ماتوا بسبب تأخر الجرعة”.

ويتابع أحمد، وهو من أبناء دمشق الأصليين وأب لاثنين، لسوريا على طول، “سمعت أحد المرضى يقول أنه راجع طبيبا مسؤولا عن الأورام، واكشتف أن المستشفى كانت تعطيه جرعات خفيفة لم تستطع أن تقتل حتى جزء بسيطا من الورم، وأخبره الطبيب أن المرض انتشر بسبب ضعف الجرعة”. وعقّب “ماذا تكون نفسيتي بعد سماع مثل هذه القصص؟”.

وتم تشخيص إصابة أحمد بسرطان العظام منذ سنة مضت. وأشار طبيبه إلى أنه كان مهيئاً للإصابة بالمرض بسبب العامل الوراثي.

وسرد أحمد “في البداية شعرت بتعبٍ شديد وضعفٍ في الأطراف، وآلام في البطن”. وبعد الفحوصات الطبية، حوّله طبيبه إلى مستشفى البيروني، لأخذ جرعات كيماوي مباشرة، لأن السرطان كان في مراحل متقدمة.

ولكن المستشفى الذي تديره الحكومة، والذي يقع في ضواحي دمشق الشرقية، والمتاخم للغوطة الشرقية الخاضعة لسيطرة الثوار، لا يمكنه معالجة كل مرضاه، بسبب نقص الأدوية الدائم، والذي بدأ في عام 2011، وفق ما قال إداري في المستشفى وأحد أعضاء الكادر الطبي فيه، لسوريا على طول.

ويأتي ذلك في ظل دمار صناعة الأدوية في سورية، بعد ست سنوات من الحرب، والعقوبات الأميركية والأوروبية التي يٌفترض أن تسمح بدخول الغذاء والدواء، إلا أنها في واقع الأمر تعيق استيراد أدوية السرطان لأحمد وسواه من المرضى.

ويفترض أن تُتيح الإعفاءات الإنسانية المدرجة في الإجراءات التقيدية التي فرضتها أميركا والاتحاد الأوروبي إدخال معظم المستحضرات الصيدلية إلى سورية، باستتثناء المواد التي لها استخدامات عسكرية رديفة. إلا أن العقوبات تؤثر عملياً على أسعار وتوافر أدوية السرطان في سورية. وتخلق الإجراءات التقيدية نقصاً في قنوات الدفع للمستوردات بحظرها التعامل مع المؤسسات المالية الرئيسية في سورية. وفي الوقت ذاته، فإن العقوبات الشديدة والمساءلة القانونية تُثبط الكثير من الشركات عن تصدير المستحضرات الدوائية إلى سورية.

مستشفى البيروني الجامعي، حقوق نشر الصورة لـ زمان الوصل.

وبمعنى آخر، وببساطة فإن المخاطرة لاستيراد أدوية السرطان إلى سورية غير مُجدية. وبالنتيجة فالمستشفيات الحكومية التابعة للقطاع العام كالبيروني، غير قادرة على توفير أدوية علاج السرطان الكافية بتكلفة تتيسر لأحمد وغيره من المرضى.

في كل سنة، يدخل مستشفى البيروني نحو 1300 مريض جديد، وفق ما قال مدير إداري بقسم الأورام لسوريا على طول، طالبا عدم ذكر اسمه. وأدت العقوبات واقتصاد سوريا المتهالك بالحرب إلى محدودية الدواء والجرعات غير الكافية لأولئك المرضى، حيث أخفقت المنافذ الإنسانية المتضمنة بالعقوبات في تحقيق الغرض منها.

وفرضت الولايات المتحدة العقوبات على الجمهورية العربية السورية لأول مرة في عام 2004، زاعمةً أن الحكومة السورية “تدعم الإرهاب”. وشددّت سلسلة من القرارات التنفيذية الرئاسية في 2001 و2002 العقوبات “رداً على العنف وانتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في سورية”.

وتلاها مقاضاة الاتحاد الأوروبي، فأصدر أول عدة إجراءات تقيدية ضد النظام السوري.

إلى ذلك، قالت جستين والكر، مديرة قسم الجرائم المالية والعقوبات والرشاوي في رابطة المصرفيين البريطانيين، وتعمل مع المنظمات الإنسانية والمؤسسات المالية لتحديد القنوات الفعالة لإدخال المساعدات إلى سورية في ظل العقوبات، إن هناك “استثناءات إنسانية”، مشيرة إلى بنود “واضحة جداً” لتصدير الدواء إلى سورية.

وأضافت لسوريا على طول، “الجوانب العملية لكيفية التنفيذ (توزيع االغذاء والدواء) هي التي تفرض الكثير من التحدي، ولاسيما حينما تتضمن مؤسسة ما فرضت عليها العقوبات”.

وتكمن المعضلة الأساسية في إيجاد قنوات دفع لهذه الصادرات؛ فالإجراءات التقيدية طالت المؤسسات المالية السورية الرئيسية، وتحديداً بنك سوريا المركزي، وتواجه الوزارات السورية ومؤسسات الصحة العامة ندرةً في قنوات الدفع غير الخاضعة للعقوبات لاستيراد الدواء.

الالتفاف على العقوبات

وأوضحت ولكر أن شراء الأدوية وتوزيعها يصبح أصعب بكثير حين “تشمل الإجراءات دائرة حكومية أو وزارية طالتها العقوبات”.

وحتى بوجود قناة للدفع، فإن المعاملات المالية ما تزال تخضع لتأخير طويل الأمد للتوقيف والتحقيق.

وفي حزيران 2013، أصدرت مؤسسة أرنال جولدن جريجوري للمحاماة، مقرها أميركا، والتي تمثل الشركات العاملة قي صناعة المستحضرات الصيدلية، تحذيراً لعملائها فيما يتعلق بالرقابة على الصادرات والعقوبات الامريكية.

وجاء في البيان أن “استيراد منتج ما دون قيود حسب اللوائح التنظيمية لإدارات التصدير لا يعني أبداً أن المعاملة تنسجم مع لوائح مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (والعكس صحيح)”.

وزير التعليم العالي في زيارة لمستشفى البيروني الجامعي. حقوق نشر الصورة لـ وازارة السورية للتعليم العالي.

وبصياغة أخرى، فحتى الغذاء أو الدواء، الذي يُسمح بتصديره إلى سورية، ربما ما تزال المعاملات الضرورية لتسليم هذه البضاعة المذكورة تُخِل بالعقوبات الأميركية.  

ويمكن أن تكبد مخالفة جنائية للعقوبات الأميركية ضد سورية غرامة مليون دولار والسجن. وتحتفظ تشريعات العقوبات الأمريكية بـ”المساءلة المطلقة“، مما يعني أن انتهاكات العقوبات حتى ولو كانت غير مقصودة تستوجب الجزاء. ويختلف الجزاء المفروض على مخالفة عقوبات الاتحاد الأوروبي تبعاً للبلد، مع وجود انتهاكات تستوجب كلا من الغرامات والسجن.

وقالت ولكر لسوريا على طول، إن أحدى التحديات الرئيسية التي تواجه الشركات هي توخي كل الحذر اللازم لضمان وصول منتجاتها إلى وجهاتها المقصودة.

وتساءلت “فهل ستذهب البضاعة في الطريقة التي يفترض أن تستخدم بها تحديداً، أو أنها ستُسلم إلى جهات فُرضت عليها العقوبات وتستخدم بطريقة غير شرعية؟”

قبل الحرب، الدواء كان متوفراً”

نتيجة نقص الدواء، لا يتلقى مرضى السرطان كأحمد العناية التي يحتاجونها على الدوام، ولكن هذا لم يكن حال سورية قبل الحرب.

ففي عام 2010، كانت سورية على أعتاب الاكتفاء الذاتي بالمستحضرات الصيدلانية، حيث أن 90% من الأدوية السورية كانت تُنتج محلياً، وفق دراسة عامة لصناعة الأدوية السورية في 2010 لمجلة الطب والحياة، مجلة دورية تُعنى بقضايا الصحة حول العالم وتنشر في جامعة دافيلا للطب والصيدلة، في رومانيا.

 

وقبل الحرب كان مستشفى البيروني الجامعي، تابع للقطاع العام، يقدم الدواء للمرضى “مجاناً”، وفق ما قال الطبيب إياد درويش، باحث طبي ومتخصص بالأورام في مستشفى البيروني، لسوريا على طول.

وأضاف درويش “الآن لا يستطيع المستشفى أن يقدم العلاج لكل مرضى السرطان فيه، ناهيك عن العلاج مجاناً”.

ومنذ عام 2010، أُغلقت غالبية المصانع التي كانت تصنِع الدواء ذات يوم في محافظات حلب وحمص وريف دمشق، إما بسبب الأضرار التي لحقت بها خلال الحرب أو المواد غير الكافية، وفقاً لبيان صحفي لمنظمة الصحة العالمية في عام 2013.

آثار غارات جوية استهدفت معمل الآراك للأدوية. حقوق نشر الصورة لـ وكالة ثقة

وجاء في نفس البيان الصحفي للمنظمة، أن التحديات التي يواجهها القطاع الطبي في سوريا تتضمن “العقوبات الاقتصادية، صعوبات في المعاملات المصرفية، تقلبات العملة، وتناقص الميزانية المخصصة لوزارة الصحة والأضرار التي أصابت المستشفيات والمنشآت الطبية”.

وفي منتصف تشرين الأول عام 2016، دمرت الغارات الجوية عمداً معمل آراك فارما للأدوية في ريف حلب الغربي، وفق ما ذكرت آنذاك الشبكة السورية لحقوق الإنسان ومقرها بريطانيا.

ومع تدهور قطاع الصحة، فمرضى البيروني في ضواحي دمشق الشرقية، أمام علاج مؤجل بسبب الأدوية غير الكافية، والجرعات المتدنية وأسعار الدواء الفاحشة الغلاء، وفق ما قال المدير الإداري لقسم الأورام في المستشفى.

ويشتري أحمد، مريض سرطان العظام، دواء ليسودرين المضاد للسرطان من المهربين الذين يحضرونه من لبنان، بسعر 700 دولار لكل جرعة أسبوعية، ويفترض أن يأخذ أحمد هذا الدواء حين لا يتسنى للمستشفى تأمين العلاج الكيماوي له.

ويقول أحمد لسوريا على طول “أنا لا أملك هذا المبلغ”. ويضيف “في إحدى المرات اشتد الوجع، جمعوا لي من الأقارب تبرعات حتى أستطيع تأمين سعره”.

وغالباً ما يُسقط أحمد العلاج الأسبوعي بسبب الجلسات الكيماوية غير المنتظمة في المستشفى وعدم قدرته على شراء الدواء البديل.

ورغم العجز الذي يواجهه المرضى وأطبائهم، ترفض وزارة الصحة السورية التي تشرف على مستشفى البيروني بالتنسيق مع وزارة التعليم العالي، الاعتراف بالتأثير السلبي للعقوبات.  

وفي أيار عام 2015، زعم وزير الصحة السوري أنه “رغم العقوبات الاقتصادية المفروضة على الشعب السوري، فإن نسبة التغطية بالدواء الوطني تقارب اليوم 89 بالمئة من إجمالي احتياجات السوق المحلية”، وفق ما ذكرت سيريانيوز آنذاك.

وفي الواقع، فإن مستشفى البيروني يملك أقل من نصف الدواء المطلوب، بينما “قبل الحرب، كان الدواء متوفراً”، حسب ما قال درويش.

وتضم قائمة الأدوية السورية الأساسية، التي وضعتها منظمة الصحة العالمية، عشرات أدوية السرطان والعلاج الكيماوي التي تفتقر إليها المستشفيات التي تديرها الحكومة.

ومن جهتها، عملت منظمة الصحة العالمية بالاشتراك مع وزارة الصحة السورية على تأمين الدواء للسوريين، وقدمت 45000 جلسة علاج لمرضى السرطان في دمشق واللاذقية، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية السنوي لعام 2015.

وتبحث الحكومة عن مصادر جديدة لاستيراد دواء السرطان في ظل تقييد العقوبات لتدفق الدواء إلى سوريا.

وفي تشرين الأول عام 2016، أعلن الرئيس التنفيذي ديمتري موروزوف، لشركة التكنلوجيا الحيوية الروسية BIOCAD أن شركته ستؤمن دواء السرطان بدون اسم تجاري حتى عام 2021 بعد تسلمها التفويض من وزارة الصحة السورية، وفق ما ذكرت سيريا تايمز، وقتئذ.

وحين سُئل درويش المدير الإداري لمستشفى البيروني عن إعلان شركة BIOCAD، قال أنه يعتقد أنه سيساعد مرضى السرطان في المستشفى “ولكن القرار سيأخذ وقتاً حتى يدخل قيد التنفيذ”.

بدورها، وصفت جستين ووكر أن سوريا تدخل في صناعة المواد الطبية كـ”عميل جديد”. بعد أن تراجعت من مرحلة تكاد تبلغ فيها الاكتفاء الذاتي إلى مرحلة النقص الحاد، وعليه فإن مؤسسات الصحة العامة يجب أن تبحث عن مصادر صيدلانية دون الاستفادة من أي من العلاقات الموجودة مُسبقاً.

وهناك بعض الحوافز التي تشجع الشركات الصيدلانية بالتصدير إلى سورية ولكن الخوف من انتهاك قانون العقوبات هو الرادع الرئيسي الذي يمنع شركات الأدوية من الدخول في اتفاقيات تؤمن الدواء للجهات الفاعلة في سوريا.

ونشرت جستين ووكر، المكلفة من قبل الأمم المتحدة بصفتها خبيرة مستقلة بالعقوبات تقريراً عن “الأثر الإنساني للإجراءات التقييدية أحادية الجانب المتعلقة بسورية”، في أيار 2016 توثق فيه تأثير عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

وفي الدراسة تحذر الخبيرة ووكر من “تأثير الجفاء”، الذي يجعل المصارف الأميركية والأوروبية  تعزف عن تأمين الخدمات الإنسانية والتمويلية “خشية العقوبات مثل الغرامات والانتهاك التقنية غير المقصودة”.

وصحيح أن الحكومة السورية تحاول تدبير الدواء لمرضى السرطان في المستشفى التي تديره، إلا أن المرضى ما يزالون قلقين من أن نقص الدواء يعني أن مرضهم هو حكم بالموت.  

وقال أحمد “الألم يفتك بجسدي كاملاً، والوجع يزداد يوماً بعد يوم، وأنا أنتظر الموت، آلا يكفي صوت القذائف التي تشعرنا بأي لحظة أننا سوف نموت، غير شعري الذي يتساقط، والتقرحات حول فمي والضغط النفسي لعائلتي بسبب وضعي الصحي المتدهور”.

وختم “هذا المرض زاد الموت مرتين، مرة من السرطان ومرة من وضع البلد”.

ترجمة: فاطمة عاشور

شارك هذا المقال