5 دقائق قراءة

من قصف المخابز إلى إعادة بنائها: تسييس رغيف الخبز من قبل نظام الأسد

فيما كانت تُقصف سابقاً في مقابل الترويج الإعلامي الحالي لافتتاحها، تبقى المخابز في قلب الصراع في سوريا. وربما ما يزال رغيف الخبز عاملاً حاسماً في تحديد مصير الأسد وإمساكه بالسلطة.


بقلم ليز موفة

15 ديسمبر 2020

عمان- في 5 كانون الأول/ ديسمبر، احتفل جمع من ممثلي نظام بشار الأسد بإعادة افتتاح المخبز الرئيس في مدينة حلفايا بريف محافظة حماة، بعد ثماني سنوات على تدميره بغارة جوية لقوات النظام ذاته في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2012، أسفرت أيضاً عن مقتل 60 مدنياً على الأقل كانوا ينتظرون الحصول على رغيف خبز في ذلك اليوم. 

هكذا، تبدو المفارقة الجلية في أن أولئك المسؤولين عن تدمير مخبز حلفايا، أي نظام الأسد وحلفاءه، هم من يسعون الآن لنسبة فضل إعادة افتتاحه لأنفسهم. وهي قصة مشابهة لأخرى عديدة على امتداد مناطق سيطرة النظام، وتلخّص بوضوح كيف أصبح الخبز وغيره من الاحتياجات الأساسية للسوريين أداةً حرب استراتيجية. 

استراتيجية عسكرية مقصودة

مخبز حلفايا ليس سوى واحد من عشرات المخابز التي تم استهدافها خلال الحرب في سوريا. ويكفي بعض الأمثلة للدلالة على تعمد النظام وحليفته روسيا استهداف تلك المخابز.

ففي العام 2015، دمرّت غارات روسية مخبزاً كبيراً في شمال غرب سوريا تديره “هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات” التركية، كان يوفر الخبز، بحسب اتحاد المنظمات الأهلية في العالم الإسلامي، لنحو 50,000 شخص. ثم في العام ذاته، دمرت الطائرات الروسية أيضاً أكبر مخبزٍ في ريف حلب الغربي، ما أسفر عن حرمان 120,000 شخص من الخبز.

وقد استمرت الهجمات على المخابز في مناطق سيطرة المعارضة على امتداد السنواتٍ اللاحقة. ففي كانون الثاني/يناير 2016، وقبيل ساعات من افتتاحه، استهدفت غارة روسية مخبزاً في بلدة حزانو بمحافظة إدلب، تم إنشاؤه بتمويل بريطاني، وكان يفترض أن يوفر الخبز لقرابة 18,000 شخص. أيضاً، وفي نيسان/أبريل 2017، قصفت الطائرات الروسية المخبز في بلدة كفرزيتا بمحافظة حماة، والتي كانت تعرضت قبل ثلاث سنواتٍ من ذلك لهجوم بالأسلحة الكيماوية من قبل قوات النظام. وكان المخبز المستهدف هو الأخير العامل في شمال محافظة حماة. وبحسب منظمة العفو الدولية، تم تدمير مخبزين آخرين في مدينة خان شيخون، بمحافظة إدلب، في شباط/فبراير 2019. 

ولم تتوقف الغارات على المخابز حتى توصلت روسيا وتركيا إلى اتفاق وقف إطلاق نار هش بشأن آخر معاقل المعارضة في إدلب، دخل حيز النفاذ في آذار/مارس الماضي. إذ في كانون الثاني/يناير الماضي، كانت القنابل الروسية ما تزال تنهال على المخابز في إدلب، مُسفِرةً عن مقتل عشرة مدنيين في مدينة أريحا خلال واحدة فقط من عمليات القصف.

في هذا السياق، يلفت تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، عن استهداف قوات حكومة دمشق طوابير الخبز، صادر في العام 2012، إلى أن “الهجمات على أفضل تقدير عشوائية بشكل متهور ويبدو من عدد الوقائع المتكررة ونمطها أن القوات الحكومية كانت تستهدف المدنيين”، مؤكداً بالتالي على أن هكذا هجمات “والاستهداف العمدي للمدنيين، على السواء، من جرائم الحرب”.

مع ذلك، فإن استهداف المخابز، كما المستشفيات، هو استراتيجية ممنهجة من النظام وحلفائه لـ”معاقبة” سكان المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، عبر حرمانهم من السلع والخدمات الأساسية.

المخابز في قلب بروباغاندا النظام وحلفائه

بعد أن عاثت المقاتلات الروسية دماراً بالمخابز في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، يبرز اليوم احتفاء النظام بإعادة بناء وتشغيل المخابز ذاتها بعد سيطرة النظام على جزء كبير من تلك المناطق.

ففي 23 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، غردّ “Syrian Eye”، وهو حساب إعلامي على موقع “تويتر” موال للنظام، بشأن وضع مخبز كفر حمرا في ريف حلب بالخدمة عقب إعادة تأهيله “من الأضرار التي لحقت به جراء الإرهاب”. وفي الشهر ذاته، غرد حساب “التغريدة السورية” عن عودة مخبز العدوي بدمشق إلى الإنتاج، كما افتتاح مخبز الزهراء بحمص.

قبل ذلك بسنوات، وتحديداً في نيسان/أبريل 2017، بعد بضعة أيام فقط من تدمير الطائرات الروسية مخبز كفرزيتا بحماة، احتفت تغريدة بالتمويل الروسي المقدم لإعادة إعمار مخبزٍ واقعٍ في منطقة كان النظام قد سيطر النظام عليها مؤخراً. وجاء في التغريدة: “بشكل منتظم، تدعم روسيا الشعب السوري من خلال المساعدات الإنسانية، والآن هي تساعدهم بإعادة تشغيل مخبز حلب”.

لكن رغم التغريدات الاحتفائية، فإنه ليس لروسيا أي مساهمات جديرة بالذكر على صعيد إعادة الإعمار في سوريا. وبينما تبتغي موسكو الاستحواذ على حصة كبيرة من عقود إعادة الإعمار، فإنها تبدو غير راغبة أو قادرة على تخصيص مساعدة مالية ذات قيمة لسوريا. ورغم إعلانها، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تخصيص مليار دولار لإعادة الإعمار في سوريا، فإن هذا المبلغ بعيد جداً عن التمويل المطلوب، والمقدر بنحو 250 مليار دولار.

هكذا، يظهر أن قصص إعادة بناء وتشغيل المخابز غايتها تلميع صورة الأسد في سوريا وصورة روسيا في الخارج. ويتم ربطها بغيرها من الخطابات الدعائية، من قبيل تلك التي تروج للروس والأسد لاعتبارهما حاميَين للأقليات في سوريا. وبالفعل، كان هناك ربط مباشر وصريح لبعض مشاريع إعادة تأهيل المخابز بـ”حماية الثقافة المسيحية”، على نحو ما جاء في مقال نُشر العام 2019 من قبل أحد المواقع الإخبارية الهنغارية، ربما بهدف استمالة القراء الأوروبيين ذوي التوجهات القومية والمحافظة. 

تفشي انعدام الأمن الغذائي

برغم البروباغاندا الكثيفة، تظل الحقيقة أن الأسد غير قادر على توفير الأمن الغذائي للسوريين في مناطق سيطرته. حيث هناك ما يقدر بنحو 9.3 مليون سوري يعانون انعدام الأمن الغذائي حالياً، بزيادة قدرها 1.4 مليون شخص خلال الأشهر الستة الماضية وحدها.

وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وتحت وسم “مخابز”، تطغى صور الطوابير الطويلة على صور وقصص إعادة إعمار المخابز. ورغم انتشار وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، تتجمع الحشود على الدوام أمام المخابز، وغالباً ما يتحول التوتر إلى اشتباك، كما ظهر في فيديو وثق عراكا بين مليشيات موالية للنظام ومدنيين على طابور الخبز.

وتعاني مناطق سيطرة النظام من نقص في الخبز، سببه قلة القمح. إذ إن سلة غذاء سوريا الأساسية تقع في مناطق شمال شرق البلاد الخاضعة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المسيطر عليها من قبل الأكراد. في الوقت ذاته، هناك عقوبات دولية تعرقل وتقيد الاستيراد. ولهذا، لجأ النظام إلى استراتيجيات للتكيف مع الوضع الراهن، منها مقايضة السلع الغذائية مع إيران. كما حاول في العام 2015 إبرام مقايضة مع إيطاليا للحصول على الطحين، لكن المحاولة لم يحالفها النجاح.

ومع ارتفاع أسعار الخبز بشكل كبير أيضاً جرّاء انهيار الليرة السورية والتضخم الهائل، أطلقت الحكومة نظام البطاقة الذكية الذي يتيح للعائلات شراء المواد المدعومة، بما فيها الخبز، بخمس سعرها غير المدعوم. إلا أن هذا النظام تشوبه الأخطاء والعيوب. فالكمية التي تستطيع العائلة شراءها يومياً محدودة. وبسبب الفساد، تنتهي الحال ببعض المواد المدعومة إلى السوق السوداء، بما يعود بالربح على المستغلين. وبحسب مراقب سوري، فإن أعطالاً تقنية (والتي ربما تكون محاولات مقصودة لسرقة بعض المواد المدعومة يكون ضحيتها المستفيدون الأصليون) أحدثت “فوضى عارمة” في 6 كانون الأول/ديسمبر الحالي، ما حال دون استلام “آلاف العائلات” حصصها.

فيما كانت تُقصف سابقاً في مقابل الترويج الإعلامي الحالي لافتتاحها، تبقى المخابز في قلب الصراع في سوريا. وربما ما يزال رغيف الخبز عاملاً حاسماً في تحديد مصير الأسد وإمساكه بالسلطة. 

نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.

شارك هذا المقال