6 دقائق قراءة

هنّ هكذا: قراءة في واقع النساء ذوات الإعاقة

تصور الدراما "العربية" النساء ذوات الإعاقة على أنهن معنّفات ومحلّ شفقة وضحيّات اغتصاب وتحرش جنسي، وعلى النقيض تصور الدراما نفسها -أي العربية- ذوو الإعاقة من الرجال على أنهم مثال للتحدي والذكاء والفاعلية!


2 يونيو 2022

انطوت صديقتي على نفسها خلال فترة حياتها الدراسية والاجتماعية نتيجة إصابتها المبكرة بمرض الثعلبة “alopecia areata”، وهو من أمراض المناعة الذاتية، يؤدي إلى فقدان الشعر من بعض أو كل مناطق الجسم، لا سيما فروة الرأس، وعندما حان موعد زفاف أخيها، لم يكن أمامها إلا شراء شعر مستعار “hair wig”، لتبدو أمام الحاضرات بصفات جمالية مطابقة لمعايير المجتمع!.

رافقتها إلى أحد المحلات في مدينة دمشق لشراء “الشعر المستعار”، ليعرض عليها البائع تشكيلة موديلات وألوان تواكب الموضة، أو “fashion” برأيه، لكنها اختارت شراء واحدة مماثلة للشكل “الطبيعي”.

لا يًتوقع للنساء ذوات الإعاقة العمل والزواج والإنجاب في أغلب المجتمعات الناطقة باللغة العربية، إذ تعيش أغلبهن في عزلة عن المحيط الاجتماعي والعائلي “الأوسع”، ولا تزال المطالب قائمة لضمان بيئة اجتماعية ومهنية وأسرية عادلة لهن، الأسباب التي أدت إلى ظهور عدد من المؤسسات والجهات لمناصرتهن، من قبيل: الجمعية الموريتانية لتكتل النساء المعاقات، التي تهتم بترقية وحماية النساء ذوات الإعاقة، و مفوضية اللاجئات من النساء، التي تعمل على تضمين النساء والفتيات  ذوات الإعاقة في مجال العمل الإنساني.

دائرة التسميات 

تبرز إشكالية وجدلية التعريف والتسمية التي تطلق على كل من لديه/ـا مشكلة جسدية وحركية ومرضية وذهنية وسمعية وبصرية، حيث تعتبر تلك التسميات بحد ذاتها عنف غير مباشر على الأشخاص الذين واللواتي يعانين من إحدى المشكلات آنفة الذكر، ويثير أسلوب مخاطبتهم/ن بشكل عام إشكاليات حول التسمية الصحيحة التي يجب اعتمادها اجتماعياً وإعلامياً. من الضروري الحذر من التسميات التي تؤدي إلى الإقصاء والتمييز و اللاعدالة الاجتماعية. هل نقول معاقين/ـات أم ذوي/ـات احتياجات خاصة؟ 

تتبنى المفوضية السامية لحقوق الإنسان مصطلح “ذوي الإعاقة” في أغلب تقاريرها، ويتبنى الإعلام بكافة أشكاله المصطلحين، فيما ذهبت الإمارات إلى إطلاق تسمية ذوي الهمم عام 2017.

كان ولا يزال لشبكة الصحفيات السوريات، المختصة بالإعلام النسوي، دور هام بتحليل الخطاب النقدي الإعلامي، وتعتمد الشبكة مصطلح “ذوات/ي الإعاقة”، كما قالت الصحفية النسوية، رولا عثمان، منسقة برنامج “جندر رادار” لـ”سوريا على طول”،  مشيرة إلى التسمية ليست قطعية أو نهائية كون “العمل على ملائمة اللغة والمصطلحات بشكل عام قابل للتطوير دائماً”، أما على الصعيد الشخصي تختار عثمان “المصطلح الذي تـ/يفضله الشخص المعني/ـة”.

إقصاء مقصود 

تصور الدراما “العربية” النساء ذوات الإعاقة على أنهن معنّفات ومحلّ شفقة وضحيّات اغتصاب وتحرش جنسي، لاسيما المصابات بأمراض وإعاقات ذهنية، ومثال ذلك الفيلم المصري “توت توت”، الذي تم إنتاجه عام 1993، وتدور أحداثه حول فتاة تعاني من مرض ذهني، وتعيش في حي شعبي، جسدّت دورها الفنانة  نبيلة عبيد.

تعرضت الفتاة في الفيلم المصري لاستغلال من الناس، الذين أوكلوا إليها أعمالاً شاقة، إضافة إلى اغتصابها من رجل ثري استغل جسدها وتركها مع جنينها وسط العاصمة.

على النقيض من ذلك، تصور الدراما نفسها -أي العربية- ذوو الإعاقة من الرجال على أنهم مثال للتحدي والذكاء والفاعلية، ومثال ذلك المسلسل السوري “وراء الشمس”، الذي عُرض عام 2010،  وتدور أحداثه حول شخصية “بدر”، الرجل المصاب بطيف التوحد الذي أثبت ذكائه وبراعته لاسيما بمهنته في صيانة الساعات، ولعب دوره الفنان بسام كوسا.

صورة النساء ذوات الإعاقة في الدراما العربية لا تعكس الواقع المليء بنماذج مميزة، وضمّ كتاب “نساء تخطين الحواجز” بين دفتيه 21 سيرة ذاتية لنساء تحدين الإعاقة، كتبته جهدة كامل أبو خليل، المديرة العامة للمنظمة العربية للأشخاص ذوي الإعاقة

وفي السياق السوري، برزت أسماء نساء سوريات لم تمنعهن إعاقتهن وظروفهن الاجتماعية من تحقيق أحلامهن، منهن الكاتبة ريما خطاب، ذات الأربعين عاماً، الملقبة بـ”أديبة المخيمات”، التي تحدّت الحرب والنزوح والعيش في المخيمات.

أعطيت ريما لقاح شلل الأطفال بطريقة خاطئة، فلم يمنع اللقاح إصابتها “بشلل الأطفال الذي أدى إلى إعاقة في قدمي اليسرى”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، ورغم رحلة علاج طويلة ما زال وضعها الصحي على حاله، وتسبب ذلك بحرمانها “من إتمام تحصيلي العلمي الذي كان سقفه المرحلة الابتدائية”.

كافحت ريما لتحقيق حلمها في ميدان الكتابة، وكتبت رواية “غزالة الكهف”، تسرد فيها واقع النساء  ذوات الإعاقة، ورواية “وطن في مهب الريح”، إلى جانب عدة مجموعات قصصية تتناول حياة 25 شخصية لنساء سوريات ناجحات، إضافة أربع مجموعات قصصية تتحدث عن معاناة الشعب السوري نتيجة الحرب والنزوح، ومجموعة قصصية للأطفال. كذلك إلى مشاركتها بمسرح للأطفال وأفلام وثائقية وسينمائية.

صنعتُ ثورة خاصة بي لأصل إلى حلمي، وكوّنت نفسي من العدم أيضاً”، قالت ريما، مشددة على أن “الأشخاص من ذوي/ـات  الإعاقة هم/ـن نوابغ وعباقرة”. وتتمنى اليوم أن “تنتشر أعمالي عربياً وعالمياً”.

من جهتها، تؤكد حنان (اسم مستعار)، ذات الخمسين عاماً، على أن صناعة الأمل تتولد من عمق التحدي للظروف الحياتية والجسدية، وقالت لـ”سوريا على طول”: “لم تكن حياتي قبل إصابتي مستقرة، إذ كنت متزوجة لمدة 14 عاماً، وكنت أعاني من بعض المشاكل الزوجية التي انتهت بانفصالي بعد إنجاب طفلين”، ورغم تحصيلها الجامعي، إلا أن حنان كانت تخشى الوصمة الاجتماعية من كلمة “مطلقة “

تعرضت حنان للإصابة بصاروخ سقط في مكان سيرها بمحافظة إدلب، في نيسان/ أبريل 2014، لتصحو على فاجعة “فقدان قدمي اليسري”، لكن رغم الظروف النفسية والاجتماعية التي مرّت بها قررت خوض معركتها الجديدة “مع عائلتي التي لم تدعمني قبل إصابتي ولا بعدها”، وصار التحدي “أكون أو لا أكون”.

تمثلت أول خطوة في صناعة الأمل بالنسبة لحنان بالخروج من سوريا إلى أحد البلدان الأوروبية لتلقي العلاج، رغم رفض عائلتها لفكرة السفر “لأني امرأة” فقط، لكن إصابتها “خلقت تحدّي المرأة التي تستطيع فعل أي شيء مهما كانت إصابتها”، وأسست مشروعاً لدعم وتمكين المرأة المصابة منذ عام 2016.

لم يكن الطريق سهلاً، مرت خلاله بظروف اقتصادية صعبة للغاية، فاستعانت على تأمين مردودها المادي بالتدريس داخل منزلها، ومن ثم أكملت دراسة الماجستير، وتحضر حالياً للدكتوراة. إلى جانب ذلك، حصلت حنان على رخصة قيادة السيارة، وافتتحت مشروعاً تجارياً لبيع الخشبيات والأكسسوارات داخل منزلها منذ ثلاث سنوات.

وتقدم حنان مبادرات بين فترة وأخرى، بهدف دعم المشاريع الصغيرة للنساء، وانتسبت لعدد من الجمعيات التي تناصر قضايا المرأة، عاشت خلالها تجارب كثيرة مع النساء المكافحات اللواتي نجحن في تحدي الصعاب، وأثبتن أن المرأة بعلمها وثقافتها تصنع المستحيل، ومنها تأسيس نساء مصابات لمشاريع صغيرة بدعم من مركز التأهيل الذي بادرت به.

في المقابل، تخلى بعض الأزواج عن نسائهنّ بسبب إصابتهن وإعاقتهن الجسدية، بحسب حنان، لكنها تشدد على أن “السعادة ليس في وجود الرجل بحياة المرأة فقط، بل قد يكون وجود الرجل في حياة المرأة  ظلماً وإهانة لها و لإمكانياتها وقدراتها”.

أعلن المجلس القومي للمرأة، في آذار/ مارس الماضي، نتائج الدراسة المسحية “العنف ضد المرأة ذات الإعاقة”، التي أجريت على 5616 امرأة، وكشفت الدراسة عن تعرض 61% من المتزوجات للضرب من قبل أزواجهنّ، منهنّ 43% تعرضنّ لعنف مرتبط بالإعاقة، بالإضافة إلى انتهاكات أخرى كشفتها الدراسة، منها تعرض النساء ذوات الإعاقة للتحرش في الأماكن العامة.

وبحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة، عام 2013، “النساء ذوات الإعاقة هن في خطر أعلى لأنْ يصبحن ضحايا للعنف المنزلي بالمقارنة مع النساء غير المعوقات. من المرجح أن يتعرضن للإيذاء على مدى فترة أطول من الزمن، وأن يعانين إصابات أكثر وخامة نتيجة لأعمال العنف”، وأشار التقرير إلى أن النساء المعوقات يتعرضن في السياقات المؤسسية “لأشكال متعددة من العنف، بما في ذلك التناول القسري للمؤثرات العقلية أو غيرها من العلاج النفسي القسري”، واعتبر التقرير أن “الاحتجاز القسري في المؤسسات نفسها يعتبر شكلاً من أشكال العنف”. 

عنف  مضاعف

تعاني النساء عموماً من التعنيف القائم عليهنّ، لا سيما في المجتمعات الناطقة بالعربية، كما يخضعن للتقييم على أساس الشكل الخارجي، وعليه لا بد من الحديث عن واقع النساء ذوات الإعاقة، بغض النظر عن نوع الإعاقة.

تعيش هذه الفئة من النساء والفتيات ظروفاً هشّة، ويقاسينَ من التمييز ضد النوع الاجتماعي، الذي ينتج العنف الأسري والجنسي، إضافة إلى العنف اللفظي، حيث يندرج تحته عبارات الشفقة التي تتسبب بمضاعفات نفسية.

وتعاني ذوات الإعاقة حرمانهنّ من الحق في الحياة الطبيعية كباقي النساء، إذ يخشين من التعبير عن مشاعرهنّ العاطفية والجنسية، ويمتنعنَ عن المشاركة في بعض الأنشطة العامة بسبب الإعاقة، لذلك تنكفئ بعضهنّ على نفسها، كما فعلت صديقتي، ذات 32 عاماً، التي رافقتها لشراء “الشعر المستعار”.

ورغم أن أسرتها كانت داعمة نفسية لها، على عكس مثيلاتها، إلا أن المرض ونظرة المجتمع “حرمني من أعيش طفولتي”، بحسب قولها، خاصة عندما تطلق الألقاب “السامة” كما وصفتها، من قبيل: “يا حرام صلعة ما إلها شعر”.

كل ذلك، كان سبباً في عزلتها وعدم اندماجها مع الأقارب والمجتمع، لدرجة أنها رفضت الزواج حتى لا يُنظر لها “نظرة انتقاص أو رفض من رجل شرقي يفضل امرأة كاملة مكملة”، في المقابل واصلت تحصيلها العلمي، وسعت إلى الاستقلال المادي والمهني.

جاء في تلخيص  دراسات الإعاقة النسوية  لـ “Kim Q Hall” أن الإعاقة، مثل أسئلة العرق والجنس والطبقة، هي واحدة من أكثر الموضوعات استفزازاً بين المنظرين والفلاسفة اليوم. تناول هذا المجلد الواقع عند تقاطع النظرية النسوية ودراسات الإعاقة، أسئلة حول طبيعة التجسيد ومعنى الإعاقة وتأثير السياسة العامة على أولئك الذين تم تصنيفهم على أنهم معاقون، وكيف نحدد معايير القدرة العقلية والجسدية.

وتعمل المقالات ضمن الدراسة على سد الفجوة بين النظرية والتطبيق من خلال إلقاء الضوء على هياكل القوة وإظهار دور التصورات التاريخية والثقافية لجسم الإنسان في اضطهاد النساء والأشخاص ذوي الإعاقة.

شارك هذا المقال