6 دقائق قراءة

هيئة تحرير الشام: من حلم الإمارة إلى الصراع لأجل البقاء

يبدو واضحاً تزايد التنازلات التي تقدمها "تحرير الشام" لتركيا التي تدير الملفات العسكرية والسياسية المتعلقة بشمال غرب سوريا خصوصاً، بدءاً من التزام الهيئة بكل الاتفاقات التي أبرمتها تركيا، لاسيما في إطار محادثات أستانة، ومن ثم عدم الاعتراض على دخول أرتال عسكرية وإنشاء نقاط مراقبة تركية بدأت برسم خريطة المنطقة


27 أبريل 2020

عمان – لم يكد يمضي وقت على انتشار “تسجيل مصور”، على مواقع التواصل الاجتماعي، لمقاتلين تابعين لهيئة تحرير الشام يهددون فيه جنود الجيش التركي في محافظة إدلب بـ”القتل وقطع الرأس”، حتى بادرت الهيئة إلى نشر توضيح على شبكة “إباء” التابعة لها. 

وإضافة إلى أنه جاء باللغة التركية، اعتبر التوضيح الذي نشر في 16 نيسان/ أبريل الحالي، الإدعاءات التي أطلقها المقاتلون “باطلة دون التحقق منها”، وأن أفعالهم مرفوضة دينياً وأخلاقياً. مضيفاً أن الهيئة بدأت “البحث عن الأشخاص الذين ظهروا في التسجيل المصور، من أجل معرفة دوافعهم والتحقيق معهم”.

ولم تفوت “تحرير الشام” هذه الحادثة للتأكيد على أن الجيش التركي “شريك في حرب الثورة السورية ضد النظام السوري وحلفائه”، وأنهم “حاربوا في خندق واحد مع عناصره الذين بذلوا دماءهم دفاعاً عن الأراضي المحررة”، في مؤشر جديد على تقارب مع تركيا، أو رغبة في ذلك على الأقل، لاسيما بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في شمال غرب سوريا بين أنقرة وموسكو  في 5 آذار/ مارس الماضي.

إذ في البيان ذاته الذي اعتبرت فيه أن اتفاق الشهر الماضي يشوبه “الغموض والعبارات الفضفاضة العائمة التي تتيح لروسيا استخدام العدوان مجددًا على المنطقة”، وجهت الهيئة رسالة شكر للحكومة التركية لـ”دعمها الثورة السورية ومشاركتها في الدفاع عن المدنيين وحمايتهم في المعركة الأخيرة”. 

التخلي عن حلم الإمارة

يبدو واضحاً تزايد التنازلات التي تقدمها “تحرير الشام” لتركيا التي تدير الملفات العسكرية والسياسية المتعلقة بشمال غرب سوريا خصوصاً، بدءاً من التزام الهيئة بكل الاتفاقات التي أبرمتها تركيا، لاسيما في إطار محادثات أستانة، ومن ثم عدم الاعتراض على دخول أرتال عسكرية وإنشاء نقاط مراقبة تركية بدأت برسم خريطة المنطقة، وصولاً إلى الخضوع التام لأوامر أنقرة، أسوة ببقية فصائل المعارضة، كالجيش الوطني ومكوناته. وقد بلغ الأمر حد أنه في العمليات العسكرية الأخيرة في ريف إدلب التي سبقت توقيع الاتفاق الروسي-التركي مطلع آذار/ مارس الماضي، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي صور لمقاتلين من هيئة تحرير الشام إلى جانب جنود أتراك ومقاتلين من الفصائل السورية الموالية لأنقرة. كما استخدم مقاتلو الهيئة عربات الجيش التركي للتنقل بين خطوط الجبهات، والاحتماء من القصف الروسي، وفقاً للعديد من مصادر “سوريا على طول”.

وإذ لم تؤثر هذه التغيرات في علاقة الهيئة بالمدنيين في منطقة سيطرتها، فإنها قد تكون في المقابل بمثابة الضربة الأخيرة لحلمها التوسعي وحكم شمال غرب سوريا عبر “إمارة” أو دويلة مصغرة. وهو الحلم الذي قضت لأجله “تحرير الشام” خلال السنوات الماضية على عشرات فصائل المعارضة، وهجرت مقاتليها تجاه مناطق النفوذ التركي شمال حلب.

إذ ما تزال ممارسات الهيئة “مع المدنيين على حالها؛ استغلال وظلم وسرقات”، على حد تعبير الصحافي محمد المقيم في مدينة إدلب، والذي تحدث إلى “سوريا على طول” شريطة عدم الكشف عن اسمه. كما إن “سلطتها الأمنية لم تتغير بشيء، قمع للحريات وكم للأفواه”. مضيفاً أن “الهيئة تحاول تجميل نفسها للرأي العام فقط، من خلال تصريحات صحافية والسماح بدخول وسائل الإعلام العالمية لتغطية أحداث إدلب. فيما داخلياً لم يتغير شيء أبداً”، بحيث صارت الهيئة “أشبه بالمخابرات الجوية [سيئة السمعة] التابعة للنظام لكن بدقون [لحى]”. 

من ناحية أخرى، اعتبر الصحافي أحمد، من ريف إدلب، في حديث إلى “سوريا على طول” شريطة عدم كشف هويته، أن “العلاقة بين الهيئة والأتراك علاقة مرحلية. فالهيئة تحاول استغلال الوجود التركي في إدلب كغطاء أمام المطالب الدولية، بينما بالنسبة للجانب التركي هي علاقة مجبر عليها كون الهيئة مسيطرة على إدلب وقوة عسكرية”. مستدركاً بأن “تعامل تحرير الشام مع الأتراك هو بحد ذاته توجه جديد على طريق محاولة الهيئة تمييع نفسها، حتى لو كانت مجبرة على هذا التعامل الذي يزداد يوماً بعد يوم”.

تصدع البيت الداخلي 

في 7 نيسان/ أبريل الحالي، أعلن رئيس “مجلس الشورى العام” في إدلب وريفها، بسام صهيوني، استقالته من منصبه، مشيراً إلى أنه سيوضح أسبابها لاحقاً.

وقد برز اسم صهيوني منذ العام 2017 باعتباره شخصية أكاديمية مدنية، تحاول تطوير العمل المدني والسياسي للهيئة، ومتصدراً كل مشروع سياسي حاولت تحرير الشام الظهور عبره، بدءاً من المؤتمر التأسيسي العام في العام 2017 بهدف إنشاء إدارة سياسية ومدنية في إدلب، وصولاً إلى مجلس الشورى العام الذي يمارس دوراً أشبه بالبرلمان في الرقابة على الحكومة، وتالياً حكومة الإنقاذ.

ووفقاً للعديد من المصادر الذين تحدثت إليها “سوريا على طول” لغرض إعداد هذا التقرير، ينتمي صهيوني للتيار السوري المعتدل في الجسم العام لمشروع أبو محمد الجولاني، قائد “تحرير الشام”. وقد بدت تصريحاته على مدار السنوات الماضية أشبه بـ”أحلام وردية” يسعى الرجل إلى تحقيقها، قبل أن تصدم بمدى قدرته على التحرك واتخاذ القرار وسط سلطة التيار المتشدد في التنظيم.

ففي كانون الثاني/ يناير 2019، قال صهيوني لجريدة عنب بلدي، السورية المعارضة، إن “هناك خطة لإدارة المحرر [المناطق الخاضعة لسيطرة تحرير الشام وفصائل المعارضة شمال غرب سوريا] أُعدت مسبقاً لإشراك جميع المناطق في الهيئة التأسيسية التي تعتبر بمثابة البرلمان”. مضيفاً: “نحن ننطلق بعدة اتجاهات، أبرزها الشق البرلماني وتنظيمه لإشراك جميع الموجودين على الأرض من جميع المحافظات (…) هذا الأمر بداية العمل لإدارة جديدة”.

وكانت تصريحات صهيوني حينها تشير إلى محاولة دمج الحكومتين “المؤقتة” التابعة للائتلاف السوري المعارض و”الإنقاذ” التابعة لهيئة تحرير الشام. إلا أن ذلك قوبل بالرفض من الحكومة المؤقتة وهيئة تحرير الشام على حد سواء.

وفيما يبدو أن حادثة استقلال صهيوني قد مرت بهدوء، وتم تعيين الصيدلاني مصطفى الموسى خلفاً له، فقد شهدت الأيام الماضية ايضاً إعلان عضو مجلس الشورى في هيئة تحرير الشام، القيادي السوري أبو مالك التلي (جمال زينية)، استقالته وترك الهيئة. مرجعاً ذلك إلى جهله وعدم علمه ببعض سياسات الجماعة أو عدم قناعته بها، إضافة “عدم إحاطته بباطن الأمر وظاهره”. 

لكن بعد ثلاثة أيام من الاستقالة، أعلن قياديون في تحرير الشام عودة التلي إلى صفوف الهيئة بعد لقاء جمعه بقائدها أبو محمد الجولاني، وبما يشير إلى رغبة الأخير في وقف الاستقالات المستمرة لقياديين بارزين في تنظيمه، من أبرزها استقالة شرعي الجناح العسكري أبو اليقظان المصري، والقيادي العسكري أبو العبد أشداء، والشرعيان البارزان عبد الله المحيسني ومصلح العلياني.

التلي الذي شغل منصب أمير جبهة النصرة في القلمون الغربي بريف دمشق، حتى انتقاله بموجب اتفاق بين حكومة دمشق وحزب الله من جهة وتحرير الشام من جهة أخرى إلى إدلب في آب/ أغسطس 2017، يحسب إلى جانب كل من القياديين السابقين أبو اليقظان المصري وأبو الفتح الفرغلي، على التيار المتشدد في الهيئة، والرافض للاتفاق التركي الروسي.

كما كان التلي رفض مطلع نيسان/ أبريل الحالي قرار حكومة الإنقاذ في إدلب، إغلاق المساجد منعاً لتفشي فيروس كورونا، مقابل إبقاء الأسواق والتجمعات. إذ ألقى خطبة الجمعة في جامع مدينة سرمدا بريف إدلب. 

العلاقة مع حراس الدين وانتقاد سياستها

في مقابلة أجراها مع “مجموعة الأزمات الدولية” (International Crisis Group)، في شباط/ فبراير الماضي، وصف الجولاني علاقة هيئة تحرير الشام بتنظيم حراس الدين بكونها “معقدة”. مشيراً إلى أنه تم إلزام التنظيم بعدم استخدام سوريا “منصة انطلاق للجهاد الخارجي”، والاعتراف بـ”حكومة الإنقاذ”.

والأسبوع الماضي، دعا القيادي في تنظيم حراس الدين، أبو محمد السوداني، في بيان نشرته مؤسسة “بيان للإعلام الإسلامي”، إلى ما سماه “ترتيب البيت الداخلي بعد استفزازات ومحاولات إخراج [حراس الدين] من مقراته في الشمال السوري” من قبل أطراف لم يسمها، إلا أنه أوضح أنهم “مجاهدون”، ما اعتبر بأنه إشارة إلى هيئة تحرير الشام التي أرسلت رتلاً عسكرياً إلى بلدة بلدة أرمناز في محاولة لإخراج مقاتلي حراس الدين من مقراتهم في القرية، قبل ساعات من بيان السوداني.

كذلك، ابدى السوداني استغرابه من محاولة فتح معابر مع المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري في وقت “يُضيّق فيه على المجاهدين”، منتقداً رغبة تحرير الشام في فتح معبر في مدينة سراقب مع النظام، بهدف التبادل التجاري.

هل وقعت الهيئة في الفخ التركي؟

يشير العديد من المصادر المحلية الذين تحدثت إليهم “سوريا على طول” إلى أن ما يجري هو محاولة من هيئة تحرير الشام لـ”تغيير جلدها فقط”، لاسيما وأنها كانت قد انسلخت عن تنظيم القاعدة. بل ووصل الأمر إلى إعلان الجولاني استعداده لقتال التنظيمات الإرهابية، في إشارة منه إلى فصيلي حراس الدين وأنصار التوحيد اللذين ينتميان إلى “القاعدة”.

مع ذلك، يبدو أن الهيئة وقعت في الفخ التركي الرامي إلى تليينها وتالياً تفكيكها وضم عناصرها السوريين إلى الجيش الوطني. يعزز هذا الاستنتاج استمرار وصول التعزيزات العسكرية للجيش التركي وفصائل الجيش الوطني إلى ريف إدلب الذي أصبح يضم آلاف الجنود الأتراك ومقاتلي فصائل المعارضة المدعومة من أنقرة، ضمن نقاط محصنة، وبما قد يسمح بتوجيه ضربة قاضية لتحرير الشام في حال محاولتها عدم الالتزام بالتوجيهات التركية.

لكن في مقابل إصرار روسيا على استئصال الهيئة بموجب اتفاق وقف إطلاق النار مع تركيا، تفضل الأخيرة إحداث تغيير جذري فيها عبر تمكين “التيار البراغماتي” لقيادتها، وتقبلها “حقيقة أنهم لم يعودوا أصحاب القرار في إدلب”، بحسب ما قال عمر أوزكيزيليك، الباحث في مؤسسة “سيتا” للدراسات في أنقرة، والمقربة من الحكومة التركية.

وأضاف أوزكيزيليك في تصريح سابق لـ”سوريا على طول” أن “أفضل ما يمكن [لقيادة] الهيئة فعله هو إعلان حلّ أنفسهم”.

لكن عبد الحي أحمد، الباحث في العلوم السياسية والمقيم في ريف حلب الغربي، ذهب إلى أنه بعد حسم تركيا للملف العسكري لصالحها، تدرك “تحرير الشام” مدى أهمية الملف الأمني في إدلب في تعزيز نفوذها. مضيفاً في حديث إلى “سوريا على طول” شرط عدم الكشف عن هويته أن الهيئة تحاول “تعزيز تواجدها الأمني في المنطقة بشكل أكبر نظراً لصعوبة المرحلة. فهم يعتقدون أن من يسيطر على الأمن قد يسيطر على الأرض، ومن الممكن أن يستفيد بالتفاوض والمراحل المقبلة”.

شارك هذا المقال