14 دقائق قراءة

“الموت المُهرب”: كيف تصل المفخخات ونيران الملثمين إلى منطقتي “الجيش الوطني” شمال حلب؟

بعض المجموعات العسكرية داخل الجيش الوطني متورطة في عمليات تهريب وعمالة


10 يونيو 2021

عمّان – في طريقه إلى السوق لشراء حاجياته، في 6 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تعرض عبد الله الأحمد لإصابة بالغة في انفجار شاحنة مفخخة وسط مدينة الباب، شمال شرق محافظة حلب.

وقد أفضى التفجير إلى مقتل 21 مدنياً، إضافة إلى تعرض عشرات آخرين لإصابات مختلفة، من بينهم الأحمد الذي تسببت له الحادثة بإصابة بالغة في الأطراف السفلية، ما أفقده بالتالي عمله ميكانيكي سيارات.

كان الأحمد يقود دراجته النارية عند دوار الكورنيش عند حدوث الانفجار الذي قذفه في الهواء لأمتار ومن ثم سقط على الأرض، كما استذكر. وبعد لحظات “وقفت ورأيت ساقاي تنزفان بشكل شديد وقد أصيبتا بجروح عميقة. فيما استقرت شظية في يدي اليمنى”. مضيفاً لـ”سوريا على طول” أن “الجو حولي كان أصفراً وثمة غبار كثيف. لذا وقفت ساكناً لا أعرف أين سأذهب”.

وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد قتل منذ مطلع العام 2020 وحتى 12 نيسان/أبريل الماضي، 173 مدنياً بتفجيرات أو رصاص مسلحين مجهولين في منطقتي سيطرة الجيش الوطني المدعوم من تركيا شمال وغرب حلب، والمعروفتين باسم “درع الفرات” و”غصن زيتون” (عفرين)، نسبة للعمليتين اللتين أطلقتهما تركيا والجيش الوطني فيهما، في 24 آب/أغسطس 2016، لطرد تنظيم الدولة (داعش) من درع الفرات، و20 كانون الثاني/يناير 2018، في عفرين ضد وحدات حماية الشعب الكردية التي تشكل العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية (قسد).

مناطق غير آمنة

خلال العام 2020، تعرض الناشط الإعلامي سامر العلي (اسم مستعار) لثلاث محاولات اغتيال وخطف من قبل مجهولين في مكان إقامته بريف حلب الشمالي. كما تلقى العديد من رسائل التهديد بالقتل.

ورغم اتهامه “داعش” بالوقوف وراء المحاولات السابقة، فقد حمل العلي، في الوقت نفسه، الجيش الوطني والشرطة الحرة (التابعة للحكومة السورية المؤقتة) مسؤولية التقصير في حماية المناطق الواقعة تحت سيطرتهما. إذ قدم العلي، كما قال لـ”سوريا على طول”، بلاغين للشرطة بعد محاولتي اغتياله، لكن “من دون جدوى”.

وربطت ثلاثة مصادر أمنية رفيعة من الجيش الوطني ارتفاع حدة التفجيرات وعمليات الاغتيال والخطف في مناطق سيطرة “الوطني” بازدياد العمليات الأمنية ضد خلايا “داعش” ومناطق الإدارة الذاتية الخاضعة لـ”قسد” التي يهيمن عليها الكرد. وهو ما يجعل هذه المناطق، بالتالي، “مناطق غير آمنة”، كما توافقت هذه المصادر لـ”سوريا على طول”.

 إذ إن “اعتقال قادة وأمراء من “داعش” في مناطق سيطرتنا”، كما أوضح سيف أبو قاسم، المسؤول الأمني الرفيع في الجيش الوطني، “يولد حالة من الهيجان لدى خلايا داعش النائمة وعناصرها في المنطقة”. مضيفاً في حديثه لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم كشف هويته، أنه “حينما نعتقل قيادياً أو أميراً، نعتقل خلفه 20 إلى 30 عنصراً على الأقل مرتبطين فيه، بعد أن نكون قد كشفنا الخلية، لذلك فور اعتقال رؤوس هذه الخلايا ترتفع وتيرة التفجيرات والفلتان الأمني”.

لكن ازدياد الفلتان الأمني كردِّ على العمليات الأمنية ضد “قسد” و”داعش”، يرتبط بدوره بوجود “عمالة لدى بعض عناصر الفصائل والمدنيين طمعاً بالمال، مقابل تنفيذ عمليات أمنية داخل المناطق المحررة، برأي أبو محمد عبد الجبار، المسؤول الأمني الرفيع في الجيش الوطني، والذي تحدث إلى”سوريا على طول” شريطة عدم كشف هويته.

متطوع في “الخوذ البيضاء” يزيل آثار تفجير بسيارة مفخخة على المتحلق الشمالي بمدينة الباب شمال حلب، 10/ 7/ 2020 (سوريا على طول)

بين “قسد” و”داعش”

تتهم المصادر الأمنية الثلاثة تنظيم “داعش” و”قسد” بأنهما المسؤولان الرئيسان عن تنفيذ التفجيرات والاغتيالات بمناطق الجيش الوطني. وبحسب عبد الجبار، فإن “داعش ينشط أكثر في تنفيذ الاغتيالات المباشرة، بينما “قسد” في التفجيرات عبر العبوات الناسفة والمفخخات والدراجات النارية”. مضيفاً أنه “خلال الفترة الحالية لا يوجد لنظام [الأسد] أي عمل أمني في مناطقنا، لأنه لا يملك شعبية كبيرة للعمل الأمني في الداخل، عدا عن أنه منهار مالياً وغير قادر على تمويل العمل الأمني”.

الرأي السابق أكده أبو قاسم. إذ رأى أن الفرق بين “داعش” و”قسد”، هو أن الأول “يعتمد على الاغتيال المباشر لشخص ما، بينما “قسد” تعتمد على الكم، كوضع سيارة في شارع وتفجيرها وقتل أكبر قدر ممكن من المدنيين”. مضيفاً أن “دافع عناصر “داعش” عقيدي وولائية للأمير، بينما دوافع عملاء “قسد” هي إما أنه يعمل بشكل رسمي معهم أو مقابل مبلغ مالي”. في المقابل، يعتمد أسلوب النظام على إحداث “البلبلة [الفوضى ونشر الشائعات] والحرب الاقتصادية ضدنا”. مستبعداً أبو قاسم أن يكون النظام “وراء التفجيرات والاغتيالات الحاصلة” خلال الفترة الأخيرة.

وبحسب المسؤول الأمني الرفيع في الجيش الوطني عبد الحق الشامي، فإن لدى “داعش مشروع اسمه عملية الزحف المتوقد، وهي عملية ذات نفس طويل”. معتبرا في حديثه لـ”سوريا على طول”: “اليوم، داعش أقوى من ذي قبل، ويقومون ببناء خلايا، لتنفيذ عمليات ضد مناطق الجيش الحر، لأنها بنظرهم فيها فساد وظلم”. 

في المقابل، لدى “قسد أجندة مختلفة في عملياتها ضدنا”، كما أضاف الشامي. إذ هدفها الأول هو “الفوضى قبل القتل، من أجل إظهار فشل تركيا في بسط الأمن في مناطق نفوذها، وبالتالي إخراجها” منها. معتبراً أن “أجندة “داعش” مخيفة أكثر من أجندة “قسد”، فهي منظمة ودموية أكثر، واستخباراتياً أقوى، وأكثر جرأة على الدماء”.

في هذا السياق يبرز عزوف كثير من قادة التشكيلات والقوى داخل المعارضة عن العمل الأمني ضد خلايا “داعش”، بحسب عبد الجبار. إذ “بشكل عام، في العمليات الأمنية ضد “داعش” معظم القادة جبناء يخشون من استهداف التنظيم لهم، لأن الدواعش بمجرد معرفتهم لقادة الحملة الأمنية يقومون باستهدافهم”، كما أوضح. مستهشداً باغتيال القيادي موسى المرعي في بلدة جرابلس شمال شرق حلب، بعد عمل أمني له ضد التنظيم في المنطقة.

وكان مرعي القيادي في الفيلق الثالث التابع للجيش الوطني قتل في آذار/مارس الماضي، إثر إطلاق نار مباشر عليه من قبل ملثمين يستقلون دراجة نارية في سوق جرابلس.

وأكد الشامي امتلاك الجيش الوطني “الكثير من الوثائق الممهورة بختم “داعش” تؤكد استهدافهم لقياديين وإعلاميين، لكن لا نستطيع كشفها”. 

وأطلع الشامي “سوريا على طول” على إحدى الوثائق، شريطة عدم كشف محتواها حفاظاً على سلامته. وهي عبارة عن رسالة داخلية مروسة باسم “داعش” وممهورة بختمه، تتحدث عن صرف مكافأة مالية محددة لشخص معين، بعد قيامه بوضع عبوة ناسفة استهدفت أحد قادة الجيش الوطني. وقد حددت الوثيقة اسم ومكان الشخص المستهدف ومنفذ العملية.

كذلك، فإن “عنصر داعش مدرب أكثر من عنصر قسد”، بحسب الشامي. لافتاً إلى أن “قسد تقتل وتجرم بيد غيرها، بأن تجهز المفخخة وترسلها وتديرها وتفجرها عن بعد. ولذلك فإن 99% من الذين تم إلقاء القبض عليهم بعمليات مسؤولة عنها “قسد” هم أبرياء، لكن المسؤولين هنا يحاولون تبرير فشلهم بالقول تم القبض على فلان وفلان”.

صورة تظهر باص نقل صغير (فان) عقب تفجيره بعبوة ناسفة زرعت أسفله في مدينة الباب شمال محافظة حلب، 21/ 2/ 2021 (سوريا على طول)

واستشهد الشامي على ذلك بأن الشخصين اللذين تم القبض عليهما فيما يسمى تفجير الـ”فان” (حافلة) في مدينة الباب قبل سنتين. إذ “تمت تبرئتهما قبل فترة قصيرة، لأنه لم يكن لديهما علم أن الـ”فان” مفخخ. وتمت محاسبتهما على جرم التهريب فقط”.

ولأن “قسد تجيد العمل عن بعد، عبر المفخخات والتفجيرات، بحكم امتلاكها المال والتقنيات، بينما “داعش” يعمل على الاغتيال المباشر؛ فإنه خلال أربع سنوات ونصف السنة الماضية لم تنفذ قسد سوى 4 أو 5 عمليات اغتيال، بينما داعش خلال الأسبوع الأول من شهر رمضان [الماضي] نفذت ستة اغتيالات في مدينة الباب فقط”، على حد قول الشامي.

لكن مدير المكتب الإعلامي للفيلق الثالث بالجيش الوطني، سراج الدين العمر، قال إن عصابات التفجير التي تم إلقاء القبض عليها -ما أدى إلى انخفاض العنف بشكل كبير جداً في مناطق النفوذ التركي- تتبع في غالببيتها لـ”قسد” ومن ثم “داعش” فالنظام.

وقد حاول “سوريا على طول” الحصول على رد من الناطق الرسمي لقوات “قسد”، إلا أنه لم يتلق رداً حتى نشر التحقيق.

أحد منتسبي قوى الشرطة والأمن العام التابعة للحكومة السورية المؤقتة يقف على حاجز بأطراف مدينة الباب شمال حلب، (سوريا على طول)

فصائل متهمة

برأي الشامي، فإن “عمل الجيش الوطني والمؤسسة الأمنية ضد خلايا “قسد” لا يرقى لـ1% وضد داعش لـ20% [المطلوب]”، وأن “الجميع يعلل فشله بلوم ترحين [مخيم في شمال شرق الباب يضم عائلات نازحة من شرق سوريا متهمة بولائها لداعش]، حتى بات شماعة”.

في هذا السياق، أشار القيادي عبد الجبار إلى أن أربع سيارات مفخخة دخلت عبر معبر الجطل الخاضع لسيطرة فرقة السلطان مراد مؤخراً، “كشف الأتراك منها سيارتين في منطقة تل الهوى”، كما دخلت سبع سيارات مفخخة عبر معبر الحمران الخاضع لسيطرة الجبهة الشامية، إلا أن “الفصيلين لم يستطيعا كشف السيارات، لولا تدخل الأتراك”. مستدركاً بأن “الكثير من عمليات التهريب قد لايبدو جوهرها واضحاً لعناصر وقادة الجيش الوطني المتورطين فيها”. إذ غالبية العمليات التي يتورط في المشاركة فيها عناصر من الجيش الوطني، “تكون عن جهل، والهدف منها المال فقط”. مطلعاً “سوريا على طول” على تفاصيل عملية حصلت قبل أشهر، حين “دخل شخص تهريباً من منطقة السكرية إلى مناطقنا، ثم خرج مرة أخرى ليحضر العبوة ويضعها في مدينة الباب، وبعد أن عاد وقام بتفجيرها، قمنا باعتقاله بعد أن كشفنا أمره”، مضيفاً: “تبين أن عملية تهريبه من قبل عناصر في الجيش الوطني لم تكن عمالة إنما كان الدافع لها المال”.

وأكد القيادي أبو قاسم أن “السبب الرئيس وراء ما يجري هو عدم أخذ قيادة الجيش الوطني بكامل فصائلها بضبط المعابر ونقاط التهريب بيد من حديد”. مضيفاً: “لا استطيع اتهامهم بالعمالة، لأنه حينما احقق في بعض هذه الحالات أجد بعض هؤلاء ثوريين من 2011، وفقد من ذويه من النظام وداعش، عدا على أن السبب الرئيس حاجتهم للمال”. 

يضاف إلى ما سبق مشكلة أن “الكوادر الموجودة غير كفؤ وغير مختصة”، برأي القيادي الشامي. 

لكن يظل الأخطر أن “بعض المجموعات العسكرية داخل الجيش الوطني متورطة في عمليات تهريب وعمالة”، كما ذهب عبد الجبار، “نتيجة إمكانية حدوث اتصالات بين العناصر المرابطين على الجبهات والعدو”. ضارباً مثل اعتقال الشرطة العسكرية،  قبل عام تقريباً، 14 عنصراً من “لواء السلام” التابع للجيش الوطني، أثناء تواجدهم على نقطة الأوراشلي شرق جرابلس ضد “قسد”، نتيجة “اتصالات قاموا بها مع قسد، وعمالة لصالحها، كما تورطوا في إدخال عبوات ناسفة ودراجات مفخخة إلى المنطقة عبر نقطتهم لقاء أموال”.

لكن قائد لواء السلام، علاء برو، نفى في تصريح لـ”سوريا على طول” وقوع حادثة الاعتقال من أصله. 

كذلك، وجه عبد الجبار اتهامات لشقيق قائد فرقة في الجيش الوطني، بالعمل على تهريب المخدرات بالتعاون مع حزب الله اللبناني، والسلاح بالتعاون مع ضباط أتراك. ويتحفظ “سوريا على طول” عن ذكر اسم الشخص المعني وشقيقه. علماً أن “سوريا على طول” حاول الحصول على رد من قائد الفرقة على الاتهامات لأكثر من مرة، لكن دونما إجابة. 

أما بالنسبة لعناصر وخلايا “داعش” من أبناء المنطقة، فـ”تشكل الحماية العشائرية أو الفصائلية لهم وسيلة للتواجد في المنطقة”، بحسب عبد الجبار. والهدف من حمايتهم هو الحصول على “المال أو استخدامهم للقتال الداخلي بين الفصائل”، كما جرى فعلياً خلال اقتتال بين فصيلين ينتميان للجيش الوطني العام الماضي. إذ “أخرج أحد الفصيلين دواعش من سجونه ووعدهم بإخلاء سبيلهم إذا قاتلوا الفصيل الآخر”، وفق عبد الجبار.

ورداً على طلب “سوريا على طول” التعليق، قال المتحدث باسم الجيش الوطني، الرائد يوسف الحمود، إن “الموضوع يتطلب رد المصادر الأمنية والعسكرية”، وهو “غير مطلع على الملفات الأمنية وملفات الشرطة العسكرية أو القضاء العسكري أو حتى الشرطة المدنية، فلا أستطيع الإجابة”.

تشتت يعزز الفلتان

يرجع القيادي أبو قاسم المشكلة الأمنية إلى “بنية” الجيش الوطني، نتيجة “عدم توحد الأجهزة الأمنية في مكتب واحد [تتبع] معلومة واحدة، ما أدى لدخول أنفس ضعيفة في الجهاز الأمني، وصولاً إلى انفرادهم ببعض الأحيان بالملف الأمني، وغالبيتهم يدفعه الحصول على المال”.

يُضاف إلى ما سبق أن “قادة الصف الأول من قيادة الفيالق في الجيش الوطني ووزير الدفاع لا يملكون القرار”، كما أضاف أبو قاسم، إذ إن القرار بيد “قادة الفصائل الذين تدعمهم تيارات معينة في الدولة التركية، وهذه الخلافات بين الفصائل تصب في مصلحة أشخاص معدودين من قادة الفصائل الذين يمررون أجندات معينة تحت هذه الخلافات”.

وقد اطلع أبو قاسم، كما قال، على “بعض القضايا التي قامت فيها بعض الأجهزة الأمنية بتسلم أشخاص متهمين، ومن ثم نقلتهم إلى مكان غير معلوم، وطلبت فدية مالية بمبالغ كبيرة لإطلاق سراحهم، ومنحت من أفرجت عنه بفدية ورقة إخلاء سبيل”. ما يؤكد أن “من الضروري توحيد الأجهزة الأمنية تحت قيادة ومكتب واحد”.

إضافة إلى التشتت، تبرز “الخلافات الداخلية بين فصائل الجيش الوطني” بحسب عبد الجبار، والتي “لها تأثير كبير على صعيد ملف الفوضى الأمنية”. إذ “تتسبب هذه الخلافات بحالة ضعف يستغلها العدو لزرع عبوات ناسفة وتنشيط الخلايا النائمة”، مستدلاً على ذلك بما تعيشه مدينة الباب من “فوضى أمنية عارمة”، لأن “الفصائل المسيطرة عليها متفرقة، وإدارة الشرطة فيها فاشلة، لذا فالعدو يركز عملياته فيها”، وهو ما أدى إلى “فقدان الحاضنة الشعبية، التي بدأت تبحث عن بديل يحقق لها الأمن”.

بالمصاري والرشوة تستطيع [تبرئة] قاتل أبيك أمام القضاء

شرطة ضعيفة

يعاني جهاز الشرطة بقسميه “العسكرية” و”المدنية” في مناطق الجيش الوطني من “الضعف”. لكن ذلك يبرز أكثر في حالة “الشرطة المدنية” أو “الحرة”، لكون المنتسبين إليها “شباب يبحثون عن الراتب لأجل لقمة العيش”، إضافة إلى أن المسؤولين في هذا الجهاز “تحكمهم الفصائلية والتبعية”، بحسب عبد الجبار. فمثلاً “خرجت في إحدى المرات دورية من فرع الأمن الجنائي وفرع استخبارات الباب بعد حادثة تبادل إطلاق نار في المدينة بين فصيلين، فكتب الضابط في تقريره: فصيل فلان أطلق النار لإرهاب الأهالي”، كما روى عبد الجبار. “فالضابط كان محسوباً على أحد الطرفين، وهو مسؤول عن مكتب حساس، لكنه يعمل بطريقة فصائلية من دون مشروع، ومسيس من قبل فصيله السابق”. 

الشرطة العسكرية بدورها “تسيرها الفصائل”، بحسب أبو قاسم. فإذا “أرادت الفصائل أن تحاسب شخصاً ما وتسجنه، فعلت ذلك. وإن أرادت الفصائل إطلاق سراحه فعلت ذلك”.

لكن، إلقاء اللوم بكثرة على عناصر الشرطة “ليس مجدياً”، برأي الشامي، كونهم “يفتقرون للإمكانات، فليس لديهم نثريات [الاحتياجات الاساسية] أو حتى وقود كاف، عدا عن حالة التأخير دائماً في الرواتب”. مضيفاً: “عدد عناصر الشرطة العسكرية بالمنطقة 200 عنصر، يعتمدون على ما تقدمه لهم الفصائل. بينما الشرطة المدنية تعدادها يقارب ثلاثة آلاف”.

في مثال ذي صلة، روى الشامي كيف حققت شرطة الباب قبل أشهر مع شخص ادعى أنه من عائلة المسالمة في محافظة درعا، وأنه هجر إلى شمال سوريا عقب عملية التسويات جنوب البلاد. وبعد ساعات أخلى المخفر سبيله بعد أن سجل بياناته بما فيها صورته الشخصية. لاحقاً تبين أنه إعلامي في “داعش”، عندما قُتل أثناء عملية أمنية في منطقة راجو بريف عفرين، بعد أن فجر حزامه الناسف.

الأتراك لديهم ثلاث مركزيات للقرار [بشأن مناطق النفوذ في سوريا]؛ الجيش والجندرما والمخابرات

قضاء فاسد؟

رغم تشابك العوامل المفسرة لظاهرة الانفلات الأمني في مناطق الجيش الوطني شمال وغرب حلب، يظل الملام أساساً، برأي القيادي عبد الجبار، هو المؤسسة القضائية متهماً إياها بـ”الفساد”، إذ “بالمصاري والرشوة تستطيع [تبرئة] قاتل أبيك أمام القضاء”. 

واستشهد القيادي على ذلك بقصة وقعت قبل قرابة ستة أشهر، وشهدت مقتل أبو صالح الجولاني من لواء الشمال التابع للجيش الوطني، بعد أن طلبته المحكمة في مدينة اعزاز شمال حلب للإدلاء بشهادة ضد عنصر من “داعش” كان لواء الشمال قد ألقى القبض عليه.

“كان أبو صالح يملك الدليل الذي يدين العنصر من داعش، وطُلب لإدلاء شهادة سرية”، روى عبد الجبار. و”بعد أن قدم شهادته عند الظهيرة، سربت المعلومات عنه. وحينما وصل إلى بيته عند المغرب قتل”. متسائلاً: “كيف سربت شهادة سرية وأبو صالح الوحيد الذي كان يملك تسجيلاً مصوراً يدين الداعشي، وهو رجل معروف في منطقة جرابلس”.

ووجه عبد الجبار اتهامات لشخصين محددين في مؤسسة القضاء العسكري، القاضي (ف. ن) والمسؤول الرفيع (ع. ح)، يتحفظ “سوريا على طول” على نشر اسميهما كاملين، بتلقي رشى لقاء الإفراج عن المتهمين، وأن “أي مطلوب تستطيع إخراجه من السجن مقابل 10 آلاف دولار مهما كانت تهمته”.

وذكر القيادي حادثة قال إنه كان مطلعاً على تفاصيلها، شهدت الإفراج عن “شخص متورط بتفجير عبوتين ناسفتين في منطقة الباب وقباسين لقاء ستة آلاف دولار حصل عليها مسؤول في القضاء العسكري”، تحفظ المصدر على نشرها تفاصيلها حفاظاً على سلامته.

ورداً على هذه الاتهامات، اكتفى القاضي (ف. ن) بالقول إن “عملنا كقضاة يمنعنا أن نعطي تصريحاً صحافياً لأي جهة”، بينما لم يتلق “سوريا على طول” رداً من المسؤول (ع. ح).

في الاتجاه ذاته، رأى الشامي أن القضاء ايضاً “ضعيف الإمكانات. فلو أردنا أن نعتقل كل شخص عمل لصالح “داعش” أو مشتبه به لاعتقلنا في اليوم خمسة آلاف شخص. وكذلك ليس لدينا سجون تتسع لذلك، فأكبر سجن لدينا يتسع لـ400 سجين. والأمر الآخر أنه ليس لدينا قوانين رادعة”.

مواطنون يتجمعون حول موقع تفجير سيارة مفخخة على المتحلق الشمالي بمدينة الباب شمال حلب، 10/ 7/ 2020 (سوريا على طول)

الدور التركي 

مع تفاقم حالة الفلتان الأمني في منطقتي  “درع الفرات” و”غصن زيتون” (عفرين) ، وعجز الجيش الوطني عن احتوائها إن لم يكن تورط عناصر منه في حالة الفلتان هذه، يتبادر إلى الذهن السؤال عن ماهية الدور التركي في ضبط الوضع، لاسيما وأن المنطقتان خاضعتان لنفوذ أنقرة بشكل تام.

برأي أبو قاسم “الأتراك أهل سياسة عميقة. وهم يبتعدون عن الاصطدام مع الفصائل والشارع المحرر [المناطق الخاضعة لفصائل المعارضة السورية]، لأمور عدة أكثرها سياسية، من قبيل أن لا يخرج إلى الإعلام خبر يتحدث عن صدام مع الفصيل الفلاني أو خروج تظاهرة ضد الأتراك فيستغلها إعلام العدو”. مضيفاً أن “القوات التركية المنتشرة [على الأراضي السورية] دورها أولاً أمنها هي نفسها، وثانياً متابعة خلايا “قسد” وحزب العمال الكردستاني، إلى حد يمنعون فيه الجيش الوطني من التدخل في هذا الملف”. إضافة إلى “إبلاغنا أن السيارة الفلانية التي ستدخل من معبر كذا فيها عبوة، فنذهب ونجد فيها عبوة فعلاً”.

من جانبه، قال عمر أوزكيزيلجيك، الباحث في مؤسسة “سيتا” البحثية المقربة من الحكومة التركية، ومقرها أنقرة، إن الدور التركي في المجال الأمني داخل سوريا يتمثل في “دعم الجيش الوطني والشرطة الحرة من خلال التدريب واللوجستيات والتنسيق. بالإضافة إلى نقاط التفتيش المشتركة بين الجيشين التركي والوطني وبعض القواعد العسكرية لزيادة الأمن”.

لكن عبد الجبار يعتقد أن جهاز المخابرات الخارجية التركي (MIT) الموكلة إليه إدارة المنطقة، والذي يعرفه السوريون بمسمى “المت”، “سعيد بالخلافات الداخلية الجارية، وهو لا يريد اتفاق الفصائل أو وجود مؤسسات قوية”. ذاهباً إلى أن “غالبية مشاكل الفصائل يقف خلفها هذا الجهاز”.

وأضاف أن “الـمت لديه ارتباط بالشرطة العسكرية وكذلك العديد من الفصائل، ويتحكم بها كما يريد. وهذه الفصائل هي من وضعت نفسها تبعاً بشكل تام للمت”.

إذ “في اليوم التالي لانفجار سيارة مفخخة بجانب المدينة الصناعية في مدينة الباب”، قال عبد الجبار، “اكتشف الفيلق الثالث في الجيش الوطني أن إحدى السيارات المتضررة بجانب المفخخة محملة بالسلاح”. تالياً، “حاول فصيل لواء العزة التابع لفرقة السلطان مراد في الفيلق الثاني طي الحادثة والتكتم عليها. لكن الفيلق الثالث رفض التكتم وتدخلت الشرطة العسكرية وصادرت جميع الأسلحة، من دون إشهار تبعية السيارة وعلاقة الفصيل فيها”. مضيفاً “لاحقاً علمت نتيجة التحقيقات أن لواء العزة كان مرافقاً لهذه السيارة، وأن جهاز “المت” هو من حاول استلم السلاح المصادر وطي القضية والتكتم عليها”.

لكن قائد لواء العزة، أبو الوليد العزي وصف رواية عبد الجبار السابقة بأنها “كلام مغرضين”. مضيفاً لـ”سوريا على طول” أن لواء العزة لم يكن يرافق سيارة الذخيرة، بل كان ينوي مصادرتها عقب معلومات عن وصولها من إدلب بغية تهريب حمولتها لمناطق “قسد”.

وعدا عن مزاعم فساد تطال أيضاً ضباطاً من الجانب التركي، لفت الشامي إلى أن “الأتراك لديهم ثلاث مركزيات للقرار [بشأن مناطق النفوذ في سوريا]؛ الجيش والجندرما والمخابرات”.

وقد سعى “سوريا على طول” على مدى أسابيع الحصول على رد من المسؤولين الأتراك في الباب، وهما المستشار العسكري والأمني التركي المسؤول عن الباب اليارابي (رتبة عسكرية) عثمان، ومعاون والي عنتاب وممثله في مدينة الباب، آنول الكال، من خلال التواصل مع المترجم الخاص بهما، بيان، وهو سوري الجنسية. ورغم تنفيذ الخطوات كافة التي حددها المترجم للحصول على تصريح، لم يصل أي رد. 

لكن أوزكيزيلجيك اعتبر أن “الاتهامات الموجهة لضباط الأمن الأتراك وقادة الجيش الوطني، هي جزء أساسي من استراتيجية وحدات حماية الشعب الكردية”. إذ “تستخدم وحدات حماية الشعب استراتيجية الحرب المطولة التي وضعها [زعيم الثورة الصينية] ماو [تسي تونغ]، وتهدف إلى إثارة الناس ضد الحكومة عن طريق الإرهاب وانعدام الثقة”.

وأضاف أن الدعاية الواسعة الانتشار تتمثل في “إلقاء اللوم بشأن هجمات وحدات حماية الشعب الإرهابية على فساد الجيش الوطني، وبما لا يساعد فقط في تحويل الغضب العام عن وحدات الحماية إلى الجيش الوطني، بل ويسهل أيضا دعايتها بأن الحكومة السورية المؤقتة غير قادرة على توفير الأمن”.

كما لفت أوزكيزيلجيك إلى مشكلة “الهجرة الداخلية من أجزاء أخرى من سوريا” إلى مناطق الجيش الوطني. إذ “ارتفع عدد السكان بنسبة 229٪ في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام [شمال شرق سوريا]”.

وإلى حين وجود سعي جاد لمواجهة الفلتان الأمني في مناطق النفوذ التركي، لاسيما شمال غرب سوريا، يواصل عدد الضحايا بالتصاعد، بمن في ذلك من ينجون من الموت لكن ليس من الإصابة وتبعاتها، كما حال عبدالله الأحمد الذي لا يزال غير قادر على المشي؛ مؤكداً أنه “بعد الإصابة لا يرجع الإنسان مثلما كان قبلها”.

شارك هذا المقال