بين ذاكرة الحرب والبراغماتية: لماذا تمدّ دمشق يدها مجدداً إلى موسكو؟
لماذا تسعى دمشق إلى التقارب مع موسكو رغم عدم شعبيتها؟ وكيف يمكنها تحقيق توازن بين الرأي العام السوري والمصالح الاستراتيجية؟
23 أكتوبر 2025
دمشق- في قاعة فخمة داخل الكرملين، عُقد لقاء الأسبوع الماضي، لم يكن متوقعاً انعقاده قبل عام، صافح الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي يتولى قيادة المرحلة الانتقالية السياسية في سوريا بعد سقوط الأسد، نظيره الروسي فلاديمير بوتين، الذي أدّى دعمه السياسي والعسكري للرئيس المخلوع إلى إطالة أمد الحرب في سوريا لأربعة عشر عاماً وأودى بحياة الآلاف.
جاء اللقاء عقب زيارة وفد عسكري روسي رفيع المستوى إلى دمشق في وقت سابق من الشهر الحالي، وقبيل قمة روسية-عربية مرتقبة في موسكو.
وفي كلمته الافتتاحية، قال الشرع إنه يسعى إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية مع جميع الدول، “وعلى رأسها أيضاً ستكون روسيا الاتحادية”، مشيراً إلى الروابط التاريخية الطويلة بين الجانبين. من جانبه، تحدث بوتين أيضاً عن التاريخ، واصفاً العلاقات بين البلدين بأنها “علاقة خاصة” تمتد على مدى ثمانين عاماً، وأضاف: “لم نكن يوماً نسترشد باعتبارات سياسية آنية”.
بالنسبة لكثير من السوريين، كان المشهد صعباً. فالتدخل العسكري الروسي في عام 2015 دعماً للرئيس المخلوع بشار الأسد لم يسهم فقط في بقاء نظامه فحسب، وإنما مهّد أيضاً لوقوع بعضٍ من أسوأ أعمال العنف خلال الحرب.
على مدى تسع سنوات، نفّذت موسكو غارات جوية عشوائية، مستهدفة البنى التحتية المدنية في سوريا، كما وفّرت لنظام الأسد المعزول غطاءً دبلوماسياً حاسماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وخلال هذه الفترة، وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مقتل أكثر من سبعة آلاف سوري، إلى جانب 363 مجزرة وأكثر من 1,200 هجوم على منشآت مدنية.
عندما أطاحت المعارضة، المتمثلة في هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع، بنظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وفّرت موسكو اللجوء لبشار الأسد وعائلته في روسيا، وسهّلت فرار عدد من كبار المسؤولين الآخرين.
وبناء على ذلك، يُطرح تساؤل: لماذا تسعى دمشق إلى التقارب مع موسكو رغم عدم شعبيتها؟ وكيف يمكنها تحقيق توازن بين الرأي العام السوري ومصالحها الاستراتيجية؟
مصالح متبادلة
أشار الشرع، في مقابلة مع الإخبارية السورية، الشهر الماضي، إلى أن المفاوضات مع موسكو بدأت عندما وصلت قوات المعارضة إلى حماة، لافتاً إلى أن الروس في ذلك الوقت “أعطوا التزامات معينة لسوريا الحالية، ونحن أيضاً أعطينا التزامات، فنحن وفّينا بها ووفوا بها هم”.
وقال محمود الحمزة، المتخصص في العلاقات الروسية-السورية ومؤسس لجنة دعم الثورة السورية في روسيا لـ”سوريا على طول”: “عندما رأت موسكو أن النظام لا يفعل شيئاً لوقف تقدّم قوات المعارضة في كانون الأول/ ديسمبر 2024، أوقفت غاراتها الجوية، ويبدو أن الروس وافقوا على استسلام جنود النظام وعودتهم إلى منازلهم”.
وأضاف فلاديمير أحمدوف، وهو محلل روسي متخصص في شؤون الشرق الأوسط: “على عكس بعض التوقعات، لم تتباطأ موسكو في الانخراط مع السلطات السورية الجديدة، بل كثّفت جهودها للحفاظ على وجودها العسكري والسياسي”، مشيراً إلى أن بوتين أجرى عدة مكالمات هاتفية مع الشرع في وقت مبكر من شهر شباط/ فبراير، بعد زيارة وفد دبلوماسي رفيع المستوى إلى دمشق في كانون الثاني/ يناير.
وقال رسلان طراد، الزميل في مركز المجلس الأطلسي للأبحاث ومقرّه واشنطن، لـ”سوريا على طول”: “استمرارية العلاقات بين روسيا وسوريا تعكس حسابات براغماتية أكثر من كونها تقارباً أيديولوجياً. بالنسبة لدمشق، تقدّم روسيا فوائد عملية فورية لا يستطيع الشركاء الغربيون تقديمها – أو لا يرغبون في تقديمها – في ظل الظروف الحالية… إذ إن المساعدات الغربية ما تزال مشروطة بإصلاحات سياسية والتزامات بحوكمة شاملة”.
اقرأ المزيد: ردود فعل متباينة حول أول انتخابات لمجلس الشعب في سوريا بعد الأسد
قد تشمل هذه الفوائد المساعدات اللازمة لتلبية احتياجات سوريا الهائلة في مجالي إعادة الإعمار والطاقة. وتزوّد روسيا سوريا بالنفط الخام لتشغيل شبكتها الكهربائية، حيث بلغت الإمدادات حتى الآن 12 مليون برميل منذ مطلع العام الحالي. كما تُعدّ موسكو أيضاً مورّداً رئيسياً للقمح، إذ استؤنف تصديره إلى سوريا في نيسان/ أبريل.
وقال الحمزة: “علاوة على ذلك، تنظر دمشق إلى موسكو باعتبارها توازناً محتملاً أمام العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي تصاعدت منذ سقوط الأسد”، إذ نفّذت إسرائيل أكثر من ألف غارة و400 توغّل بري داخل سوريا، ما أدى إلى تدمير بنيتها التحتية العسكرية وأنظمة دفاعها الجوي ومستودعات الأسلحة، وفقاً للحكومة السورية. لذا، تنتظر دمشق من موسكو “أن تؤدي دوراً إيجابياً مع إسرائيل، التي تربطها بها علاقات استراتيجية”، كما أضاف.
أيضاً، اعتمدت دمشق تاريخياً على موسكو في ما يتعلق بجهازها العسكري، إذ كان نحو 80 بالمئة من مشترياتها من الأسلحة يأتي من روسيا قبل اندلاع الحرب. وقال أحمدوف: “لقد قامت روسيا بالتصنيع الأساسي في سوريا وبنت قواتها العسكرية وأجهزتها الأمنية”. وبدأت صادرات الأسلحة من الاتحاد السوفييتي إلى سوريا عام 1975، فيما وُقّعت معاهدة الصداقة والتعاون بين الجانبين عام 1980.
وأضاف الحمزة أن روسيا يمكن أن تؤدي أيضاً دوراً في مجلس الأمن الدولي لإلغاء العقوبات المفروضة على شخصيات رئيسية في الحكومة السورية لا تزال مُدرجة على قوائم الإرهاب، ومن بينهم الشرع نفسه.
في المقابل، يُعدّ الانخراط مع سوريا وسيلة لروسيا لإبراز وجودها على الساحة الدولية، في الوقت الذي يتراجع نفوذها في الشرق الأوسط وعزلة دولية منذ بدء حربها في أوكرانيا.
وتحافظ روسيا على وجود ميداني في سوريا عبر ميناء طرطوس وقاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية الساحلية. وبحسب الكرملين، كان مصير هذه المنشآت العسكرية من بين البنود الرئيسية على جدول أعمال زيارة الشرع إلى موسكو، وقد أكد الشرع خلال زيارته على أن بلاده تحترم جميع الاتفاقات السابقة، في إشارة إلى أن روسيا ستواصل السيطرة على القاعدتين العسكريتين.
وقال: “هناك علاقات ثنائية ومصالح مشتركة تربطنا أشياء كثيرة”، مضيفاً: “نحن نحترم كلّ ما مضى من اتفاقيات، ونحاول أن نعيد ونعرف بشكل جديد طبيعة هذه العلاقة”. من جانبه، قال نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك إن موسكو مستعدة لمساعدة سوريا في عملية إعادة الإعمار، التي تبلغ 216 مليار دولار، بحسب تقديرات البنك الدولي.
وتوقّع طراد أن تسمح دمشق لموسكو الاحتفاظ بوجودها في سوريا، لا سيما في قاعدة حميميم، ولكن ضمن “شروط معدّلة، وربما بنطاقٍ أقل”، موضحاً أن مصير القواعد يعتمد على قدرة الشرع على كسب دعم القوى الغربية، وهي علاقة لا تزال مثقلة بالعقوبات والاعتراف المحدود. وقال: “طالما أن هذا التقارب لم يكتمل بعد، تظل لدى دمشق دوافع للإبقاء على الوجود الروسي كورقة ضغط وضمانة ضد العزلة”.
وتتمحور دافعية رئيسية أخرى حول الأمن القومي الروسي، إذ أوضح أحمدوف أن “موسكو تعرّضت لعدة هجمات إرهابية نفذها متطرفون إسلاميون مرتبطون بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة”، وعلى ضوء ذلك “أعربت موسكو عن قلق بالغ إزاء تطور الإرهاب في سوريا، واعتبرت أن العمل لمكافحة الإرهاب في سوريا أمر لا غنى عنه لوقف تدفق المقاتلين الجهاديين إلى شمال القوقاز”.
وتتشارك الدول الغربية هذه المخاوف، وهي تتعاون مع السلطات الجديدة، إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، لاحتواء تنظيم داعش الذي عاد نشاطه خلال الأشهر الأخيرة.
شروط إعادة العلاقات
بغضّ النظر عن واقع السياسة البراغماتية والدوافع الكامنة وراء التقارب مع موسكو، يؤكد المدافعون أن التاريخ العميق والمؤلم لتدخل روسيا في سوريا يستوجب المساءلة.
قال مهند شراباتي، وهو محامٍ في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، الذي يوثّق انتهاكات جميع أطراف النزاع: “ارتكبت روسيا انتهاكات جسيمة ومنهجية للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان في سوريا، ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”، مضيفاً: “تسببت هذه الهجمات في مقتل آلاف المدنيين وتدمير منشآت حيوية للرعاية الصحية والتعليم والخدمات الأساسية”. وشملت الهجمات الروسية غارات مزدوجة استهدفت المسعفين والصحفيين.
ومن خلال جهود التقاضي، سعت منظمة شراباتي إلى تحقيق المساءلة والعدالة للضحايا خلال السنوات الأخيرة، بما في ذلك رفع دعوى قضائية ضد شركة فاغنر الروسية سيئة السمعة أمام المحاكم الروسية، ثم أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
وقال شراباتي لـ”سوريا على طول”: “لا يمكن الحديث عن علاقة طبيعية مع روسيا ما لم تستند إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان، بما يشمل الاعتراف الكامل بهذه الانتهاكات والجرائم، وتقديم اعتذار رسمي عنها، ومحاسبة المسؤولين عنها، وفي المقام الأول تسليم الرئيس السابق بشار الأسد وشقيقه ماهر”. وقد فرّ عدد من كبار أعضاء نظام الأسد إلى روسيا مع دخول فصائل المعارضة إلى دمشق.
وأضاف: “يجب أن تشمل شروط إعادة الانخراط تقديم جبر ضرر كامل وفعّال وتعويضٍ للضحايا، وتمكينهم من ممارسة حقوقهم في معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة، وضمان عدم تكرار الانتهاكات السابقة”.
واتفق أحمد حلمي، الشريك المؤسس ومدير مبادرة تعافي التي تدعم المعتقلين السابقين، مع هذا الموقف معتبراً أن “شروط الانخراط كان ينبغي أن تكون مقابل ضمانات روسية للتعويض عن الضحايا وتسليم الأصول المسروقة”.
ومع ذلك، لا تزال سبل العدالة محدودة. قال حلمي: “إن محاسبة روسيا ستكون مستحيلة من الناحية العملية واللوجستية والتقنية فيما يتعلق بالملاحقة الجنائية، غير أن روسيا يجب أن تدفع ثمن جرائمها”. ودعا موسكو إلى تسليم مسؤولي النظام المقيمين على أراضيها، إلى جانب الأصول التي سرقوها، مشيراً إلى أن قيمة الأصول السورية المنهوبة تُقدَّر بمليارات الدولارات.
وفي وقت مبكر من كانون الثاني/ يناير، دعت الحكومة السورية موسكو إلى معالجة “الأخطاء السابقة” وضمان “العدالة للضحايا”، مع تقارير أفادت بأنها طالبت أيضاً بتعويضات. وفي أعقاب زيارة الشرع إلى موسكو، طالبت علناً بتسليم بشار الأسد.
وأقرّ حلمي قائلًا: “إن التقارب ضروري، ولا بديل عنه، فالموقف السوري ضعيف، ولا يملك ترف عدم الانخراط مع روسيا”.
وقال الحمزة: “إن موقف الشعب [السوري] يختلف عن موقف الحكومة، فبينما يدين البعض هذا التقارب، يرى آخرون ممن يفكرون بطريقة أكثر استراتيجية أن تحقيق التوازن يقتضي إقامة علاقات متنوّعة وإعادة بناء العلاقات بين البلدين”.
وختم طراد: “يبدو أن الشرع يتّبع استراتيجية تقوم على المساءلة العلنية الممزوجة بالبراغماتية”.
