6 دقائق قراءة

“تحييد ملف التعليم”: آلاف الطلبة بلا تعليم بعد منع الإدارة الذاتية للمناهج الحكومية

بعد قرار الإدارة الذاتية منع مناهج حكومة دمشق في شمال شرق سوريا، وجد آلاف الأطفال أنفسهم بلا مدارس، وليس أمام ذويهم إلا خيارين: تعليم غير معترف به أو عام دراسي ضائع


31 أكتوبر 2025

القامشلي- بعد أسابيع من بدء العام الدراسي في شمال شرق سوريا، ما تزال لارا أسعد (اسم مستعار)، أم لثلاثة أطفال من القامشلي، تبحث عن وسيلة لاستئناف تعليم اثنين من أبنائها بعد أن توقفت مدارسهم على خلفية منع الإدارة الذاتية مناهج حكومة دمشق في مناطق سيطرتها.

في الثالث من أيلول/ سبتمبر 2025، أبلغت هيئة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا المدارس الحكومية والخاصة التي تعتمد منهاج دمشق بهذا القرار، طالبة منهم اعتماد مناهج الإدارة الذاتية حصراً، وقد عُمم القرار حينها بشكل شفهي.

لم تجد أسعد أمامها سوى تسجيل ابنتها – وهي في الصف السادس- في دورة خاصة مع أستاذ يدرّس منهاج الحكومة السورية في منزله بشكل منتظم (دروس وواجبات واختبارات)، فيما تتولى تدريس ابنها – وهو في الصف الثاني – في البيت، مخصصة له ثلاث إلى أربع حصص يومياً، كما قات لـ”سوريا على طول” من مكان إقامتها في القامشلي.

كان من المقرر أن يبدأ دوام أطفالها في 21 أيلول/ سبتمبر الماضي، لكن الإدارة أبلغت الأهالي بتأجيل الدوام إلى 28 من الشهر ذاته، وعندما التحق الطلبة بالمدرسة في ذلك اليوم “حضر أعضاء هيئة التربية في الإدارة الذاتية واجتمعوا مع إدارة المدرسة، وفي نهاية الدوام أغلقت المدرسة حتى إشعار آخر، وما زالت مغلقة”، وفقاً لأسعد.

تتمنى أن تتراجع الإدارة الذاتية عن قرار منع المنهاج الحكومي، لكن إذا بقي الوضع على حاله، قد تلجأ إلى “التعليم عن بعد”، عبر منصة معترف بها خارج شمال شرق سوريا، لضمان استمرارية تعليم طفليها وعدم تفويت العام الدراسي الحالي عليهم.

تحرص أسعد على تعليم أبنائها في المدارس الحكومية قبل سقوط النظام وبعده “في سبيل تعليم مستقر ومعترف به”، لذا سجّلتهم العام الماضي في مدرسة خاصة، رغم التكاليف المرتفعة، التي بلغت ستة ملايين ليرة سورية (خمسمئة دولار أميركي تقريباً بحسب سعر الصرف الحالي)

وكذلك، لم يلتحق طفلا هلبست حيدر، 45 عاماً، في مدرستهم هذا العام، لأنها ما تزال مغلقة حتى الآن، كما قال لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن زوجته وهي حاصلة على شهادة جامعية في علم الاجتماع، تتولى تعليمهم دروس اللغة العربية والرياضيات في المنزل، ويتابعان تعلّم الإنجليزية في أحد المعاهد الخاصة في القامشلي.

في عام 2015، ألغت هيئة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية مناهج النظام السوري السابق في جميع مدارس شمال شرق سوريا، باستثناء المدارس الواقعة ضمن المربعات الأمنية في مدينتي الحسكة والقامشلي، التي كانت خاضعة آنذاك لسيطرة النظام السوري، إضافة إلى المدارس الخاصة المسيحية في حي الوسطى بالقامشلي والتي كانت تعتمد أيضاً منهاج حكومة دمشق.

ومن حينها، وجد سكان المنطقة بكل مكوناتهم، عرباً وكرداً وسريان، أنفسهم أمام خيارين: تسجيل أولادهم في مدارس الإدارة الذاتية، التي وضعت مناهج دراسية خاصة بها باللغات الثلاث، لكن الشهادات الصادرة عنها غير معترف بها خارج شمال شرق سوريا، أو تسجيل أبنائهم في المدارس الحكومية أو الخاصة التي تعتمد على منهاج دمشق.

وتركّزت المدارس التي تعتمد على المناهج الحكومية في المربعات الأمنية والأحياء المسيحية، ما أجبر كثيراً من الطلبة على القدوم من أماكن بعيدة بسيارات ذويهم الخاصة أو عبر المواصلات العامة.

بعد سقوط نظام الأسد، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، سيطرت الإدارة الذاتية على المربعات الأمنية في الحسكة والقامشلي، واستلمت جميع المدارس الحكومية العامة فيها، فامتنع الأهالي عن إرسال أولادهم إليها، واقتصر التعليم على بعض المدارس المسيحية الخاصة.

ومع بدء العام الدراسي الحالي بشمال شرق سوريا، في 14 أيلول/ سبتمبر، افتتحت هيئة التربية في الإدارة الذاتية مدارسها، بما في ذلك المدارس الحكومية في المربعات الأمنية بعد أن ألغت منهاج دمشق، وبقيت المدارس الخاصة مغلقة بسبب رفض إداراتها وأهالي الطلبة اعتماد مناهج الإدارة الذاتية.

أزمة الاعتراف

مسألة عزوف العديد من سكان شمال شرق سوريا عن مدارس الإدارة الذاتية لا يستند إلى توجهاتهم السياسية بالضرورة، وإنما حرصاً منهم على الاعتراف بشهادات أبنائهم. 

“لو كانت شهاداتهم ومناهجهم معترفاً بها، لكان من الممكن إرسال أطفالي إلى مدارسهم”، قالت زينب إسماعيل، 36 عاماً، من سكان مدينة القامشلي، وأم لثلاثة طالبات، لافتة إلى أنها امتنعت عن إرسالهم إلى المدارس بعد هذا القرار.

كذلك، امتنع هلبست حيدر عن إرسال طفليه، أحدهما في الصف السابع والآخر في الصف الثالث، إلى مدارس الإدارة الذاتية، قائلاً “لا تحظى الشهادات الصادرة عن الإدارة الذاتية باعتراف رسمي من حكومة دمشق يمكّن حامليها من دخول الجامعات الحكومية مستقبلاً”.

وأضاف حيدر، وهو من سكان مدينة القامشلي، “إذ قرر ابني السفر خارج سوريا لن يتمكن من تعديل الشهادة الصادرة عن الإدارة الذاتية لأنه غير معترف بها، وبالتالي سوف يضيع مستقبله”، بينما ابن أخيه الذي درس في المدارس الحكومية حصل على شهادة الثانوية العامة في وقت سابق، واستطاع تعديلها عند سفره إلى العراق لمواصلة تعليمه هناك.

تحدثت “سوريا على طول” مع 11 عائلة من مدينة القامشلي، بينها عائلة مسيحية وواحدة عربية والباقي كردية، وأجمعوا على أن السبب الرئيسي وراء امتناعهم عن إرسال أطفالهم إلى مدارس الإدارة الذاتية هو غياب الاعتراف الرسمي بمناهجها والشهادات الصادرة عنها، كونها لا تتيح لطلابها التسجيل في الجامعات الحكومية داخل سوريا ولا يمكن تعديلها خارج سوريا.

وأيضاً، شهادات الإدارة الذاتية غير معترف بها من أجل التقدم للوظائف الحكومية في باقي المناطق السورية، ما يجعل مستقبل أبنائهم الأكاديمي والمهني في موضع غموض ومخاطرة، وفقاً لهم.

ومن ناحية أخرى، تعدّ مناهج الإدارة الذاتية ضعيفة علمياً، ولا تلائم المراحل العمرية للطلبة، ناهيك عن أن قسماً كبيراً من الكوادر التعليمية غير مؤهلة لتدريس هذه المناهج، كونهم لا يحملون شهادات علمية تخصصية في مجال التعليم، وفقاً لما قالته زينب اسماعيل.

أشارت لارا أسعد، التي عملت سابقاً كمعلمة للغة الإنجليزية في مدارس الإدارة الذاتية، إلى الاختلاف الكبير بين المناهج الحكومية ومناهج الإدارة الذاتية، خاصة المناهج المخصصة للمكون العربي، قائلة: “محتواها ضعيف جداً مقارنة بالمنهاج الحكومي، وتحتوي على قدر ضئيل من المعلومات”.

على سبيل المثال، يقتصر منهاج الصف الخامس في مدارس الإدارة الذاتية على تعليم الحروف الإنجليزية فقط، في حين يدرس الأطفال في المدارس الحكومية الأزمنة واستخداماتها، بحسب لارا.

ومع ذلك، قررت هيلاف عثمان (اسم مستعار)، 26 عاماً، إرسال طفلها، وهو في الصف الثاني، إلى مدرسة تابعة للإدارة الذاتية بعد إغلاق مدرسته الخاصة، التي تعتمد مناهج الحكومة السورية، إذ لا خيار آخر أمامها، ولكن فوجئت بالأعداد الكبيرة في الغرفة الصفية الواحدة، إذ “يبلغ عدد الطلاب في صف ابني 80 طالباً”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

“قرار مجحف”

في أعقاب توقيع اتفاق العاشر من آذار بين الرئيس السوري أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، انطلقت محادثات واسعة بين الطرفين حول العديد من الملفات، من بينها ملف التعليم في شمال شرق سوريا، ورغم التوافق الظاهري على بدء الحوار وتشكيل لجان متابعة، إلا أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق حتى الآن بما يخص آليات إشراف التعليم والصلاحيات المحلية مقارنة بالدولة المركزية والمناهج المعتمدة والأطر القانونية المصاحبة.

بالمحصلة، منعت الإدارة الذاتية المناهج الحكومية في مناطق نفوذها، وهو ما يتنافى مع أصل الاتفاق، الذي نص دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية.

“قرار منع المناهج الحكومية مجحف بحق الطلاب”، قالت جيهان سليمان (اسم مستعار)، 43 عاماً، وهي أم لطالب وطالبة في الثانوية العامة، مضيفة: “أولادي يشعرون بالإحباط لأن مستقبلهم الدراسي مهدد”.

وفي حي الوسطى بمدينة القامشلي الذي تقطنه غالبية مسيحية، أعربت مايا عيسى (اسم مستعار)، وهي مسيحية لديها  ثلاثة أولاد وهم في الصف الثالث والخامس والثامن، عن استياءها من القرار واصفة إياه بـ”غير الصائب”.

وأضافت عيسى في حديثها لـ”سوريا على طول”: “هناك بعض العائلات تعتزم الانتقال إلى محافظات سورية خاضعة لسيطرة الدولة من أجل التحاق أبنائهم في مدارس حكومية”. وهي خطوة يصعب عليها القيام بها لأنها تتطلب “توفير سكن ومصروف إضافي، ولا قدرة لدينا على ذلك”.

تعليقاً على ذلك، قال عدنان بري، الرئيس المشترك لهيئة التربية والتعليم في مقاطعة الجزيرة أن “المربعات الأمنية كانت تدرّس مناهج النظام البائد، لكن مع سقوطه سقطت المربعات الأمنية وصار من الطبيعي يتم العمل في هذه المدارس وفق قوانين هيئة التربية والتعليم، ومن ذلك الالتزام بمناهج الإدارة الذاتية، حيث يتعلم كل طالب بلغته الأم”.

وأوضح بري لـ”سوريا على طول” أن هيئة التربية أعطت مهلة للمدارس التي تعمل بمنهاج دمشق حتى نهاية العام الدراسي الماضي، على أن يتم العمل بالإجراءات الجديدة في العام الدراسي الحالي، وهذا ما تم تنفيذه. 

وأشار بري إلى أن المفاوضات المتعلقة باتفاقية العاشر من آذار/ مارس “ما تزال جارية، وهناك لجان سياسية ودبلوماسية تقوم بالتنسيق المباشر مع هيئة التربية من أجل التفاوض حول الآلية التي من شأنها أن تراعي الخصوصية المجتمعية”.

للشهر الثاني على التوالي، ما زال آلاف الطلبة في شمال شرق سوريا خارج مقاعد الدراسة، معلّقين بين قرار المنع الصادر عن الإدارة الذاتية، وامتناع ذويهم عن إرسالهم إلى مدارسها.

ويخشى أولئك الذين حاولوا تعويض أبنائهم بدورات خاصة بالمنهاج الحكومي من تعرضهم للمساءلة، إذ تمنع هيئة التربية التابعة للإدارة الذاتية إقامة دروس خصوصية في المعاهد أو المنازل باستثناء دورات اللغة الإنجليزية.

ومؤخراً، نفذت هيئة التربية في الإدارة الذاتية جولات تفتيشية على عدد من المعاهد الخاصة، لا سيما تلك التي كانت تقدم دورات تعليمية تعتمد المناهج الحكومية وأقدمت على إغلاقها، كما شددت على معاهد اللغة الأجنبية ضرورة الالتزام بتعليم اللغات فقط، بحسب جيهان سليمان، التي تدير معهداً خاصاً لتعليم اللغات.

طالبت زينب إسماعيل بتحييد ملف التعليم مؤقتاً إلى حين التوصل إلى صيغة واضحة بشأن هذا الملف، وختمت مايا عيسى حديثها: “بما أننا نعيش في منطقة ترفع شعارات الديمقراطية وحرية الرأي، ينبغي إعطاء الأهالي حق اختيار المناهج التي يرغبون بتدريسها لأبنائهم والسماح بالمناهج الحكومية”.

شارك هذا المقال