8 دقائق قراءة

درعا بعد سقوط النظام: الفوضى الأمنية أعلى من صوت الدولة

بعد أكثر من عشرة أشهر على سقوط النظام، ما يزال الفلتان الأمني وفوضى السلاح يهددان محافظة درعا، جنوب سوريا، ويحصد أرواح عسكريين ومدنيين، بينهم نساء


28 أكتوبر 2025

باريس- بعد أكثر من عشرة أشهر على سقوط النظام، ما يزال الفلتان الأمني وفوضى السلاح يهددان محافظة درعا، جنوب سوريا، ويحصدان أرواح عسكريين ومدنيين، بينهم نساء.

منذ مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، رصدت “سوريا على طول” مقتل 15 شخصاً غالبيتهم من المدنيين، قضوا في حوادث إطلاق نار نفذها مجهولون، أو بدوافع ثأر، أو نتيجة العبث بالسلاح. من بين الضحايا أربعة من أبناء عشائر بدو السويداء، الذي هجروا إلى درعا في أعقاب أحداث السويداء الدامية، في تموز/ يوليو الماضي، قتلوا في حوادث مرتبطة بالثأر.

ورغم ذلك، تشير البيانات التي جمعتها “سوريا على طول” منذ كانون الثاني/ يناير 2024 حتى أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2025، إلى تراجع طفيف في أعداد الضحايا مقارنة بالأشهر التي تلت سقوط نظام الأسد البائد.

تتفاوت الفوضى الأمنية وتداعياتها بين مدن وبلدات حوران، إذ فيما تنعم بعض المناطق بهدوء واستقرار نسبي، تشهد مناطق أخرى استمراراً لعمليات العنف والاغتيالات وانتشار السلاح، ويعود ذلك إلى تفاوت حجم الانتشار الأمني وكفاءة الأجهزة الأمنية المحلية، ومحدودية الجهود المجتمعية المحلية في الحد من ظاهرة السلاح المنتشر في بعض المناطق.

وسط هذا المشهد الأمني المعقد، تحاول الحكومة السورية إعادة بناء قوى الأمن الداخلي من جديد. في 21 تشرين الأول/ أكتوبر، نظمت محافظة درعا، فعالية احتفالية بمناسبة تخريج دفعة جديدة من قوات المهام الخاصة التابعة لقوى الأمن الداخلي السوري، ضمت 250 شاباً أنهوا تدريباتهم مؤخراً من أجل رفد القوى الأمنية بالمحافظة. 

“سقط النظام لكن الفوضى مستمرة”

ما يزال أبو محمد (اسم مستعار) يتجنب الخروج ليلاً من منزله في مدينة طفس بريف درعا الغربي، خوفاً من تعرضه لمحاولة اغتيال أو إطلاق نار من قبل مجهولين كما حصل مع عدد من أصدقائه في الأشهر الماضية. 

عمل أبو محمد مقاتلاً في فصائل المعارضة حتى سقوط النظام البائد نهاية العام الماضي، قبل أن يلقي سلاحه ويعود إلى مهنته الأصلية في الزراعة. ويخشى الشاب، الذي طلب من “سوريا على طول” عدم كشف هويته لأسباب أمنية، أن يلقى مصير أصدقائه السابقين، الذين سقطوا ضحايا لعمليات اغتيال قبل سقوط النظام وبعده.

“قاتلنا ضد داعش والنظام وميليشياته طوال السنوات الماضية، واليوم خلايا داعش وفلول النظام ينتقمون منا”، قال أبو محمد، مضيفاً: “سقط النظام لكن الفوضى مستمرة، والاغتيالات مستمرة، والسلاح منتشر في كل مكان، بينما عناصر الأمن غير مؤهلين أو فاسدين”.

وفي هذا السياق، قال أبو عبد الرحمن (اسم مستعار)، قيادي عسكري سابق في المعارضة، أن “فوضى السلاح ما تزال كبيرة في منطقة طفس”، مشيراً إلى أن “جزءاً كبيراً ممن يحتفظون بسلاحهم، هم من الزعران وقطاع الطرق واللصوص، وهم لم يخوضوا معركة واحدة سابقاً ضد النظام البائد”.

وأضاف أبو عبد الرحمن لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية، “لا أعلم لماذا لا تتحرك الدولة ضد هؤلاء الأشخاص على الرغم من تقديم الأهالي شكاوي قضائية ضدهم بسبب تورطهم بانتهاكات وجرائم بحق الأهالي”، معبراً عن استيائه من أن “يُترك القتلة بين الناس طلقاء”.

وفي ريف درعا الشرقي، ما يزال “الوضع الأمني صعباً، ويحتاج إلى عمل كبير لإصلاحه”، وهذا “يؤثر على حياة جميع السكان”، كما قال صحفي يقيم في شرق درعا لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية، معتبراً أن غالبية حوادث القتل مرتبطة بـ”الثارات العشائرية والفصائلية والانتقام والثأر الشخصي”.

وفي ظل الفوضى التي يشهدها الجنوب السوري، قُتل العديد من أبناء عشائر بدو السويداء المهجرين إلى درعا في حوادث إطلاق نار من قبل مجهولين أو في حالات ثأر وشجارات. إذ قتل ثلاثة أشخاص من أبناء عشائر السويداء في مدينة إزرع إثر خلاف عشائري تطور إلى استخدام السلاح في العاشر من الشهر الحالي، وهو أحد أكثر الأيام دموية. ففي اليوم ذاته، شهدت المحافظة أيضاً أربع عمليات ومحاولات اغتيال توزعت على قرى: تبنة، نمر ، جباب، وصيدا، أسفرت جميعها عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة شاب بجروح.

“حالة الفوضى التي حدثت في السويداء، وما رافقها من عمليات تهجير، حفّزت عمليات الثأر والقتل بين أبناء عشائر السويداء المهجرين إلى درعا”، بحسب الصحفي حمزة الفهيد، المقيم شرق درعا، إذ “في العرف المجتمعي العشائري هناك ما يعرف بالجلوة، لكن مع التهجير التقى أطراف الثأر بنفس المكان، وهو ما تسبب في وقوع حالات قتل وثأر جديدة”.

وأضاف الفهيد: “هناك وجود واضح للدور الحكومي عند وقوع جرائم القتل وتطويق المشاكل”، لكن “لا يوجد قانون رادع لعمليات القتل خارج نطاق القانون حتى الآن”. علاوة على ذلك، يتأثر الكثير من الناس من ذوي القاتل أو الضحية في أي حادثة ثأر جديدة كأن “يحدث نوع من تقييد الحركة أو الحصار خوفاً من عمليات قتل انتقامية، وتتعطل حياتهم وأعمالهم، إضافة إلى الاعتداءات على المحلات التجارية والسيارات والمنازل”.

يظهر الرسم البياني استمرار سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين والعسكريين نتيجة الفلتان الأمني وفوضى السلاح في محافظة درعا خلال الفترة بين مطلع كانون الثاني/ يناير 2024 وحتى أيلول/ سبتمبر 2025.

في المقابل، تشهد مدينة إنخل شمال درعا تحسناً ملحوظاً على الصعيد الأمني، إذ “لم نعد نرى الروسيات [بنادق الكلاشنكوف] في الشوارع، منذ أشهر، باستثناء تلك التي يحملها عناصر الأمن العام”، بينما “يحافظ البعض على المسدسات الفردية لاسيما في الأعراس بقصد التفاخر أكثر من استخدامها” وهي ظاهرة منتشرة في عموم سوريا، بحسب أبو عدنان، أحد أبناء إنخل.

“لا يمكن مقارنة الوضع الأمني في إنخل بما كان عليه قبل سقوط النظام، إذ صرنا نستطيع الخروج من المنازل ليلاً على عكس أيام النظام”، أضاف أبو عدنان لـ”سوريا على طول”.

ويلاحظ أبو عدنان “تراجع ظاهرة إطلاق النار في الأعراس”، باستثناء ثلاث حالات استخدم الرصاص في الاحتفالات ولم يتدخل الأمن الداخلي، كون “هذه العائلات لديها أبناء شغلوا مناصب قيادية في هيئة تحرير الشام”، الفصيل الذي قاد عملية تحرير سوريا، ويشكل العمود الفقري للإدارة السورية الجديدة.

أيضاً، انتهت عمليات الاغتيال والخطف والتشليح في المدينة منذ أشهر، وتراجعت حوادث السرقة بشكل واضح، على حد قول أبو عدنان، الذي صار بإمكانه ركن دراجته النارية أمام منزله دون الخوف من السرقة، على عكس الوضع السابق. لم ترصد “سوريا على طول” أي عملية اغتيال في إنخل منذ سقوط النظام في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024.

ورغم أن مركز الأمن الداخلي في إنخل لم ينفذ حملات أمنية واسعة لجمع السلاح، إلا أن “الإجراءات الأمنية التي اتبعها، من قبيل: مصادرة سلاح أي شخص يطلق النار أو يحمل السلاح في الشوارع، وفرض غرامة على الشخص بقيمة ثمن سلاحه في بعض الأحيان، وملاحقة تجار الأسلحة، ساهمت في تحسن الوضع الأمني في المدينة”، بحسب أبو عدنان.

التمسك بالسلاح!

“غالبية الناس تريد تسليم السلاح والعودة لحياتها الطبيعية، ومن يتمسك بالسلاح هم أصحاب السوابق والزعران واللصوص والمجرمين الذين يخشون من المحاسبة”، قال القيادي العسكري السابق أبو عبد الرحمن.

وأضاف: “في منطقة طفس يوجد العديد من المجموعات العسكرية الصغيرة، الذي يتراوح عدد أفرادها بين ستة وعشرة أشخاص، يتمسكون بالسلاح لفرض الإتاوات على الفلاحين”، على سبيل المثال تلجأ هذه المجموعات إلى “فرض مبلغ على المزارعين لقاء قيامهم بحماية البساتين والمزارع من السرقة، وفي حال رفض المزارع الامتثال لهم يسرقون محاصيل أرضه”، على حد قوله.

وفي المقابل، يتمسك آخرون بالسلاح تحسّباً لـ”النزاعات العشائرية والثارات والخوف من اللصوص والزعران”، بحسب أبو عبد الرحمن.

مر جنوب سوريا بعدة مراحل فوضى خلال السنوات الماضية، انعكست بشكل مباشر على حياة الناس، وهذا “يدفع الأهالي إلى التمسك بالسلاح ورفض تسليمه في الوقت الراهن”، كما قال الصحفي من شرق درعا.

وبعد سقوط النظام البائد وإعادة تشكيل مؤسسات وزارة الداخلية، لم تنفذ قوى الأمن الداخلي حملات أمنية لتفتيش المنازل أو البحث عن السلاح بشكل واسع في مدن وبلدات حوران، بحسب ثلاثة مصادر تحدثت معهم “سوريا على طول” لغرض إنتاج هذه المادة. 

وقال الصحفي من شرق درعا: “لم تنفذ وزارة الداخلية أي حملات أمنية واسعة لجمع السلاح في درعا”، مشيراً إلى أن “ما يحدث هو فقط أعمال انتقائية محدودة يتم من خلالها جمع السلاح”. 

وأضاف: “قبل أيام كان هناك حفل زفاف في بلدتي واستمر إطلاق النار لساعات، ومع ذلك لم تتحرك أي دورية شرطة”، واصفاً ما يحدث بـ”الانتقائية”، إذ “لو كان إطلاق النار في حفل زفاف لعائلة أخرى غير محسوبة على مسؤولين في الإدارة الجديدة لرأينا تحرك رتل ضخم للأمن”.

“يجب أن يكون الأمن على مسافة واحدة من جميع الناس ويطبق القانون على الجميع”، قال الصحفي، مشدداً على ضرورة “محاسبة العناصر الأمنية ومنع التجاوزات والفساد في صفوفهم”. واقترح أن يتم “فرز العناصر للعمل خارج مدنهم وبلداتهم، إذ من غير المنطقي أن يعمل عنصر الأمن في نفس مدينته أو بلدته، لأن ذلك يتسبب في تضارب المصالح  وحالات تسلط وانحياز لغايات شخصية”.

إضافة إلى ذلك، يحتاج الأمن الداخلي إلى “قوة أمنية مركزية كبيرة ومراكز فرعية تنتشر في درعا، وهذا غير متوفر نتيجة نقص أعداد العناصر والإمكانيات”، ناهيك عن أن “بعض العناصر غير مؤهلة من ناحية أكاديمية وسلوكية”، قال الصحفي، واستدرك: “لكن لاحظنا أنه يتم متابعة العناصر المسيئة وتوقيفهم، ويبدو أنه بسبب ضعف الكوادر جرت عمليات تنسيب عشوائية ما سمح بدخول عناصر مسيئة للجهاز”. 

اقرأ المزيد: عناصر مثيرة للجدل في صفوف الأمن العام بدرعا عبر بوابة “خلف الخطوط”

تعليقاً على ذلك، عزا مسؤول في الأمن الداخلي بريف درعا الشمالي وقوع بعض التجاوزات والتحديات إلى أن “قوى الأمن الداخلي ما تزال في طور البناء، وتفتقد لكوادر شرطية مؤهلة، لذلك نقوم بعقد دورات تدريب وتأهيل مستمرة”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

وأكد المسؤول، شريطة عدم كشف هويته كونه غير مخول بالتصريح لوسائل الإعلام، على أنهم يعملون على ملاحقة العناصر المسيئة ومحاسبتهم، مشيراً إلى أنهم يقومون بـ”إعادة عمليات الدراسة الأمنية للمنتسبين ومتابعة الشكاوى المقدمة ضد العناصر”.

تداعيات الفوضى

تنعكس الفوضى الأمنية على حياة الناس اليومية، وتؤثر على أشغالهم، وتزيد من معاناتهم في البلد الذي ما زال يعاني اقتصادياً من سنوات الحرب. “عندما يحدث إطلاق نار في طفس يتوقف سوق الهال، وتُشلّ الحركة عند أول مشكلة صغيرة”، قال أبو عبد الرحمن، الذي طالب الحكومة بـ”إيجاد حلول سريعة لاستتباب الأمن حتى لو كان الحل باستخدام القوة”.

واشتكى أبو عبد الرحمن من مفرزة أمن طفس نفسها، واصفاً إياها بـ”بؤرة فساد، وتضم شخصيات سيئة”، واتهم شخصيات فيها بـ”لعب دور سلبي في حادثة ثأر أبناء العمومة”، لذا “الكثير من الأهالي، وأنا منهم، نذهب إلى مفرزة المزيريب أو مدينة درعا تجنباً لدخول مفرزة طفس”.

تأكيداً على تأثير الفوضى الأمنية على الاقتصاد، قال أبو محمد: “لم تشهد طفس تحسناً اقتصادياً ملحوظاً كما حصل في مدن وبلدات درعا [الأكثر استقراراً]، لأن رؤوس الأموال ما تزال تخشى الفوضى الأمنية”.

على النقيض منها، شهدت إنخل “تحسناً اقتصادياً ملموساً، إذ افتتحت العديد من المنشآت التجارية الكبيرة” بعد سقوط النظام، بينما كان أصحاب رؤوس الأموال “يخفون أموالهم أيام سيطرة النظام خشية تعرضهم للسرقة والابتزاز، أو لفت انتباه عصابات الخطف”، بحسب أبو محمد.

أمام تردي الواقع الأمني وتباينه بين مدينة وأخرى، يحاول الوجهاء والأعيان “تطويق المشاكل ومنع توسع الثارات وعمليات القتل، وحصر السلاح بيد الدولة”، إضافة إلى “توعية الأهالي بتحصيل حقوقهم عبر القانون والقضاء، لمنع تحول البلاد إلى غابة”، قال الفهيد.

وفي هذا الإطار، قال جاسم خلف المدالجة، أحد وجهاء العشائر في شرق درعا، أن “وجهاء العشائر يلعبون دوراً في التهدئة بين الأهالي وحثهم على التقيد بالقانون وأوامر الحكومة الجديدة”، إضافة إلى “العمل على تقييم المشاكل بالدم والقتل وحلها”.

وختم المدالجة حديثه مع “سوريا على طول” بالقول: “هناك تنسيق وتعاون بيننا وبين الحكومة في كل عمل نقوم به في سياق حل المشاكل والتهدئة”.

شارك هذا المقال