7 دقائق قراءة

عفرين تحصد زيتونها وتواجه موسماً جديداً من التحديات والهواجس

شهد موسم قطاف الزيتون لهذا العام، في منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية شمال سوريا، تراجعاً مقارنة بالأعوام السابقة بسبب الجفاف والانتهاكات التي وقعت خلال الأعوام السابقة، ورغم أن هذه الانتهاكات أقل في هذا الموسم إلا أن أصحاب الأراضي ما زالوا متوجسين من السلطات الجديدة


29 أكتوبر 2025

جنديرس- تحت ظل شجرة زيتون معمّرة، يجثو عكيد أحمد، 66 عاماً، وزوجته فاطمة خليل، 58 عاماً، (اسمان مستعاران)، في يوم مشمس من أيام تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، ليجمعا ثمارها السوداء الصغيرة من التراب الأحمر. كانا يتبادلان أطراف الحديث بالكردية، لغتهما الأم، وهما يفرزان حبات الزيتون الناضجة ويضعانِها في دلو كبير بجانبهما.

إنه موسم القطاف في عفرين، المنطقة ذات الغالبية الكردية في شمال غربي سوريا، التي تضم نحو 15 مليون شجرة زيتون، يشكّل إنتاجها نصف زيت الزيتون في البلاد، بحسب مسؤولين محليين في القطاع الزراعي. الزيتون ليس عصب اقتصاد عفرين فحسب، بل رمز المنطقة وسبب ارتباط سكانها العميق بأرضهم.

يمتد موسم القطاف عادةً من منتصف تشرين الأول/ أكتوبر حتى كانون الأول/ ديسمبر، لكن أحمد وخليل يتوقعان أن يقتصر موسمهما على أسبوع واحد فقط، وأن لا يتجاوز إنتاج أرضهما 200 إلى 250 كيلوغراماً من الزيتون، مقارنة بنحو ثمانية آلاف كيلوغرام حصيلة الإنتاج قبل الحرب. تراجعت غلتهما تدريجياً بسبب تداعيات الحرب والتغير المناخي.

انعكست رمزية الزيتون في عفرين على اسم العملية العسكرية، التي شنتها القوات المدعومة من تركيا ضد القوات الكردية في عفرين عام 2018 وانتهت بالسيطرة عليها. تسببت عملية غصن الزيتون بتهجير مئات آلاف المدنيين، وتركَت من بقي منهم يعيش تحت سلطة فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من أنقرة، التي استولى بعضها على ممتلكات المدنيين وضيّقت عليهم وابتزّتهم.

وكان موسم قطاف الزيتون، على وجه الخصوص، مصدر دخلٍ رئيسي لتلك الفصائل عبر “ممارسات ممنهجة وواسعة النطاق من النهب والابتزاز”، كما جاء في تقرير منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، الذي نشر هذا الشهر، إذ كان على المزارعين دفع إتاوات – يختلف اسمها ومقدارها بحسب القرية والفصيل المسيطر – مقابل السماح لهم بجني محاصيل أراضيهم وبيع زيتهم.

ومنذ سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وإعادة تنظيم فصائل “الجيش الوطني السوري” ومقاتليه ضمن وزارة الدفاع ووزارة الداخلية في الحكومة الانتقالية، تحسّنت الأوضاع بشكل واضح في أجزاء واسعة من عفرين. ومع ذلك، أشارت منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة إلى أن الفصائل السابقة ما تزال “تمارس سيطرة فعلية على مساحات واسعة من عفرين” وسط “تفشٍ واسع لحالة الإفلات من العقاب”.

قالت خليل لـ”سوريا على طول”: “كانت الفصائل تسرق، لكن الآن أقل بكثير”. ومع ذلك، ما تزال تتوجس هي وزوجها من السلطات الحالية، كما هو حال العديد من سكان عفرين الكرد، إذ أُبلغ عن وقوع سرقات خلال موسم القطاف الحالي. ناهيك عن أن “قوات الأمن، المحاكم، كلها بيدهم، ولا يوجد أحد منّا فيها، وبالتالي لا يمكننا اتخاذ أي قرار”، أضاف زوجها أحمد.

ثمار الزيتون المقطوفة في منطقة جنديرس بريف عفرين شمال غربي سوريا، 16/ 10/ 2025، (ناتاشا دنون/ سوريا على طول)

ثمار الزيتون المقطوفة في منطقة جنديرس بريف عفرين شمال غربي سوريا، 16/ 10/ 2025، (ناتاشا دنون/ سوريا على طول)

تراجع الإنتاج

وجّه الجفاف التاريخي ، الذي ضرب سوريا هذا العام، ضربة قاسية لمزارعي الزيتون الذين يعانون أساساً من صعوبات متراكمة. قالت مديرية الزراعة في عفرين لـ”سوريا على طول” أن محصول هذا العام لا يتجاوز 10 بالمئة من معدله المعتاد بسبب تراجع كميات الأمطار التي تقلّ عاماً بعد عام.

جفّت الآبار، وسجّلت مستويات الهطول أدنى معدلاتها على الإطلاق. وإلى جانب ذلك، لم يتمكن كثير من المزارعين تأمين تكاليف الزراعة من أسمدة ومبيدات.

وقالت خليل: “في السنوات الماضية، قامت الفصائل بقطع 30 بالمئة من أشجار زيتوننا وبيعها حطباً للتدفئة. اختفت غابات كاملة، وجفّت بحيرة ميدانكي، التي كانت تغذي كل منطقة جنديرس”. وبعد زلزال السادس من شباط/ فبراير 2023 المدمّر، تخلصت السلطات المحلية المدعومة من تركيا من نصف المياه المخزّنة خلف سد ميدانكي، مبرّرة ذلك بتخوفها من تضرر بنية السد.

وأضافت خليل: “نقص المياه أضعف الأشجار على مرّ السنين وأتعبها”.

لم يتعرض أحمد وخليل هذا العام لأي مضايقات، لكن محصولهما القليل لا يكفي إلا لتأمين زيت الزيتون لعائِلتهما المكونة من ثمانية أفراد، ولن يتمكنا من بيع أي كمية منه لسداد ديونِهما.

في السنوات الأخيرة، اقترض الزوجان مبلغ 12 ألف دولار لدفع رشاوى إلى أحد فصائل الجيش الوطني السوري في محاولة يائسة للإفراج عن ابنهما، الذي اعتُقل عام 2019، عندما كان في السادسة عشرة من عمره. وقد اتُّهم حينها بالانتماء إلى حزب العمال الكردستاني (ب ك ك)، المصنف لدى تركيا بأنه منظمة إرهابية، وما يزال محتجزاً حتى الآن.

الجدار الخارجي لمقرّ الشرطة العسكرية في جنديرس، وقد رُسمت عليه الأعلام التركية والسورية، 16/ 10/ 2025، (ناتاشا دنون/ سوريا على طول)

الجدار الخارجي لمقرّ الشرطة العسكرية في جنديرس، وقد رُسمت عليه الأعلام التركية والسورية، 16/ 10/ 2025، (ناتاشا دنون/ سوريا على طول)

انتهاكات أقل

من أصل 120 ألف نسمة كانوا يعيشون في جنديرس ومحيطها، لم يعد سوى 30 بالمئة منهم منذ سقوط النظام، بحسب تقديرات المجلس المحلي. وقال شمس الدين حوطو، رئيس المجلس المحلي، وهو من أبناء جنديرس وتسلّم منصبه في تموز/ يوليو: “كثيرون لم يعودوا، بعضهم لأسباب اقتصادية، وآخرون لأسباب تعليمية، وغيرهم بسبب ظروف المعيشة”.

وأوضح حوطو أن “معظم منازل جنديرس تضررت أو دُمّرت، إما بسبب الحرب أو بسبب زلزال 2023″، إذ أدى الزلزال الذي بلغت قوته 7.8 درجات وضرب جنوب شرق تركيا وشمال غرب سوريا إلى تسوية أحياء كاملة بالأرض في جنديرس، التي كانت من أكثر المناطق تضرراً في البلاد. كما خلّف القصف خلال عملية غصن الزيتون وما تلاها من أعمال نهب ارتكبتها الفصائل المدعومة من تركيا، العديد من المنازل مدمّرة وخالية.

خلال العملية العسكرية عام 2018، فرّ أحمد وخليل مع عائلتهما من جنديرس لمدة شهرين. قالت خليل: “عدنا إلى لا شيء، كل شيء كان مسروقاً”، وحتى اليوم، لم يتمكنا من تعويض ما خسراه. أما المنازل التي لم يعد أصحابها، فقد شغلها مقاتلو الجيش الوطني السوري أو سكنها نازحون من مناطق سورية أخرى لسنوات.

وقال مصطفى عليكو، 62 عاماً، (اسم مستعار) إن منزل شقيقه صودر عام 2019 وما يزال مشغولاً حتى الآن، مضيفاً: “لم أتقدّم بشكوى لأن الجيش والشرطة والمحاكم كلهم منهم. ما أريده هو الأمن والأمان وسيادة القانون في عفرين للجميع”.

ومع ذلك، أقرّ عليكو بأنّ الأوضاع تحسنت عموماً منذ سقوط النظام، قائلاً: “الوضع الأمني أفضل من قبل، والانتهاكات ليست مفرطة”.

في الأشهر الأخيرة، ومع عودة عشرات الآلاف من سكان عفرين، طالب بعض شاغلي المنازل النازحين أصحاب المنازل من أهالي عفرين بمبالغ كبيرة مقابل إخلائها، وهي مبالغ لا يستطيعون دفعها. وقد تحركت السلطات السورية لإخلاء بعض المنازل من شاغليها في عفرين، ما أثار حالة من التوتر والاحتجاج.

رغم التحديات المستمرة، تحسنت سبل العيش في جنديرس “نسبياً”، بحسب حوطو، قائلاً: “في السابق، حُرمنا من أراضينا، أما اليوم فقد تمكن كثيرون من العودة إليها”. 

وأشار إلى أن أكثر من 30 حاجزاً كانت تقيمها الفصائل لابتزاز السكان تم إزالتها، باستثناء تلك الموجودة عند مداخل جنديرس، متابعاً: “الوضع تغيّر، يمكننا الذهاب والعودة إلى حلب، وهذا كان مستحيلاً من قبل”.

يعمل حوطو بشكل وثيق مع محافظ حلب لتسهيل عودة السكان إلى جنديرس والقرى الكردية المجاورة في عفرين، موضحاً أن “المحافظ يقول إنه سيحاول خفض الضرائب قدر الإمكان وإعادة الناس إلى أراضيهم”.

“رسمياً، لا توجد ضرائب، لكن اللجنة الاقتصادية في المنطقة قد تأخذ جزءاً من محصول الغائبين عن أراضيهم بدعوى حماية المحصول، أو قد تصادر الأراضي بالكامل إذا وُجهت إليهم تهم بالانتماء إلى حزب العمال الكردستاني”، بحسب حوطو، موضحاً: “المحافظ يقول أنه يجب عدم أخذ أي شيء، لكن الواقع مختلف”.

وفي مناطق أخرى من عفرين، أفادت تقارير بأن اللجان الاقتصادية المرتبطة بالفصائل السابقة تواصل فرض الإتاوات على إنتاج الزيتون لهذا العام، إضافة إلى مصادرة الممتلكات.

أشجار زيتون في أحد أراضي منطقة جنديرس بعفرين، 15/ 10/ 2025، (ناتاشا دنون/ سوريا على طول)

أشجار زيتون في أحد أراضي منطقة جنديرس بعفرين، 15/ 10/ 2025، (ناتاشا دنون/ سوريا على طول)

“تجاوزات فردية”

في وقت سابق من هذا الشهر، كان إبراهيم علي (اسم مستعار) يحرس أرض عائلته المزروعة بأشجار الزيتون لحمايتها من اللصوص المحتملين، عندما اقترب منه ثلاثة مسلحين.

قال مستذكراً: “قيّدوا معصميّ وكاحليّ، وغطّوا وجهي بسترتي، وضربوني”. لم يعبث الرجال بالأشجار، لكنهم سرقوا 300 دولار نقداً، وهاتفه المحمول، وبطاقته الشخصية، إضافة إلى الألواح الشمسية الجديدة التي كان يستخدمها لضخ المياه.

قال علي لـ”سوريا على طول”: “كانوا يرتدون بزّات عسكرية سوداء، لكنني لا أعرف إن كانوا يتبعون للأمن العام أم لا”، مضيفاً: “قدّمت بلاغاً إلى جهاز الأمن العام، لكنهم استغرقوا ست ساعات حتى وصلوا، ولم يحدث شيء بعدها”. 

كغيره من الأهالي الذين تحدثوا مع “سوريا على طول” لا يشعر علي بتمثيل له أو بوجود حماية حقيقية من الدولة.

وفي جنديرس وسائر مناطق عفرين، ينتمي معظم عناصر جهاز الأمن العام إلى فصائل الجيش الوطني السوري التي حُلّت شكلياً، بحسب شمس الدين حوطو، رئيس المجلس المحلي في جنديرس. ورغم أن الحكومة الحالية أعلنت في آب/ أغسطس الماضي عن فتح باب الانتساب أمام السكان المحليين، بما فيهم الأكراد، في صفوف قوات الأمن الجديدة، إلا أن المنتسبين لم يستلموا مهامهم حتى الآن.

قال أبو عمر (اسم مستعار)، أحد عناصر الأمن العام في عفرين، لـ”سوريا على طول” شريطة عدم الكشف عن هويته، أن عملية دمج السكان المحليين ما تزال جارية، مشيراً إلى “قبول 1200 كردي من أصل 3000 متقدم للانتساب إلى الأمن العام، بعد التأكد من عدم ارتباطهم بحزب العمال الكردستاني”.

ينحدر أبو عمر من إدلب، وهو مقاتل سابق في فيلق الشام التابع للجيش الوطني السوري، قبل أن ينضم إلى الشرطة المدنية التابعة للحكومة السورية المؤقتة المدعومة من تركيا عام 2018.

وقال أبو عمر موضحاً: “في السابق كانت هناك حالات سرقة كثيرة جداً بسبب عدد السكان الكبير، من بينهم نازحون، ولا أحد يعرف الآخر، وكان حينها كل فصيل يسيطر على قطاع خاصة به”.  لكن منذ سقوط النظام “لم تعد هناك انتهاكات عامة ضد الأكراد، بل تجاوزات فردية فقط”، لافتاً إلى أن عناصر الأمن العام الذين يرتكبون مخالفات “يُحاسبون ويُعاقبون”.

وأضاف أبو عمر: “إذا جاع الجندي يسرق، لذا أول ما يجب فعله هو رفع الرواتب”، موضحاً أن الرواتب الشهرية رُفعت بعد سقوط النظام من 80 إلى 200 دولار، مع ذلك فإنها غير كافية، إذ “يحتاج الفرد إلى نحو 500 دولار ليعيش مرتاحاً”.

واعترف بوجود منازل ما تزال مشغولة من قبل مقاتلين ونازحين، قائلاً: “العرب القادمون من شمال شرق سوريا وضعهم صعب لأنهم لا يستطيعون العودة إلى ديارهم، فقراهم ومدنهم محتلة من قبل قوات سوريا الديمقراطية المرتبطة بحزب العمال”، وأشار إلى أن جميع السكان في جنديرس ومحيطها تمكنوا من العودة إلى منازلهم “باستثناء عناصر قسد”.

وفي نهاية حديثه قال أبو عمر إنه هو الآخر يريد العودة إلى دياره في إدلب: “كل أفراد قوى الأمن يريدون العودة إلى منازلهم. وفي نهاية المطاف أهل جنديرس سوف يستلمون السلطة”.

شارك هذا المقال