8 دقائق قراءة

موت في طريق النجاة: آلاف السوريون يبحرون إلى قبرص وسط مساعي الأخيرة للحد من الهجرة

تزايد أعداد السوريين الذين يحاولون عبور مياه البحر الأبيض المتوسط إلى قبرص، ما دفع حكومتها إلى الإعلان عن تجميد طلبات اللجوء التي يتقدم بها السوريون، غير أن هذا الإجراء لم يثن العديد من السوريين واللبنانين عن ركوب الأمواج للوصول إلى الجزيرة الأوروبية.


2 مايو 2024

بورنارا/نيقوسيا- عندما انطلق قارب الصيد الصغير، الذي يحمل على متنه رحاب الأحمد وزوجها وأطفالها الأربعة، قبالة الساحل السوري مبحراً نحو قبرص،  في 20 شباط/ فبراير، ضمت السيدة ابنها الأصغر سيف الدين إلى صدرها.

تراءى للعائلة أن رحلتهم تحمل لهم مستقبلاً أفضل، لكن بعد تسعة أيام دفنت صغيرها في مياه البحر.

“منذ اللحظة التي صعدنا فيها على متن القارب كان سيف بين ذراعي”، قالت الأم البالغة من العمر 31 عاماً لـ”سوريا على طول” من كرفانها الصغير في مركز استقبال بورنارا في قبرص.

كان من المفترض أن لا تستغرق الرحلة إلى جزيرة قبرص سوى يوم واحد، ولكن بعد أقل من 24 ساعة، نفد وقود القارب، وصارت تتلاطمه أمواج البحر. وسرعان ما استُهلك المخزون القليل من الطعام والماء، وأنهك العطش والجوع الشديد الركاب الذين يتجاوز عددهم 31 شخصاً. 

“لم أكن أخشى على نفسي، ولكني كنت فزعة على طفلي الذي كان في حضني”، قالت الأم مشيرة إلى أن ابنها “كان جائعاً وعطشاً، ولم يكن بإمكاني أن أطعمه وأسقيه”. 

رحاب الأحمد تعرص صورة ابنها سيف الدين، صاحب الست سنوات،  على هاتفها. لقي حتفه في البحر المتوسط أثناء ركوب العائلة قارباً من سوريا إلى قبرص، 27/ 03/ 2024 (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

رحاب الأحمد تعرص صورة ابنها سيف الدين، صاحب الست سنوات،  على هاتفها. لقي حتفه في البحر المتوسط أثناء ركوب العائلة قارباً من سوريا إلى قبرص، 27/ 03/ 2024 (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

بعد عدة أيام في البحر من دون غذاء أو ماء، بدأت صحة سيف الدين بالدهور، إلى أن شخص بصره وسكن بين ذراعي والدته، وأخذت أنفاسه تتلاشى تدريجياً.

“لم يعد يحتمل أكثر، كان جسده ضعيفاً جداً”، قالت الأحمد، والدموع تملأ عينيها. صمتت قليلاً ثم تنهدت وتابعت: “فارقت روحه جسده في الساعة الثانية فجراً تقريباً، وهو ما يزال في حضني”.

بقيت الأم تحمل ابنها، الذي تحول لونه إلى الأصفر المزرق، لأيام بعد وفاته، وهم ما يزالون تائهون في البحر، ثم سلّمت أمرها للإرادة الإلهية. ودعت هي وزوجها صغيرهما، وألقيا سيف الدين في مياه البحر وغطته الأمواج.

لا يجدون فيها طوق نجاة

تزايد أعداد السوريين الذين يحاولون عبور البحر الهائج من سوريا ولبنان إلى قبرص، أحد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. خلال الأشهر الأولى من عام 2024، وصل 50 قارباً على الأقل، مقارنة بعشرة قوارب فقط خلال المدة نفسها عام 2023، وفقاً لبيانات مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في قبرص. 

وتقدَّم نحو ثلاثة آلاف سوري بطلب اللجوء في قبرص بين شهري كانون الثاني/ يناير وآذار/مارس من هذا العام، بحسب وكالة الأمم المتحدة. ردا على هذا الارتفاع الحاد، أعلنت  قبرص، في 13 نيسان/ أبريل، أنها لن تعد تنظر في طلبات اللجوء التي يتقدم بها السوريون.

جاءت بعض العائلات، كعائلة أحمد من سوريا مباشرةً، غير أنَّ معظمهم جاء من لبنان، البلد الذي يعاني من انهيار اقتصادي ويتصاعد فيه العنف ضد اللاجئين، كما قال أندرياس جورجياديس، رئيس دائرة اللجوء القبرصية لـ”سوريا على طول” من مكتبه في العاصمة نيقوسيا، الذي كان يقف أمام بابه نحو عشرين طالب لجوء في طابور للاستفسار عن وضع طلباتهم. 

منذ كانون الثاني/ يناير حتى 17 نيسان/أبريل، وثقت المفوضية في لبنان إبحار أو محاولة إبحار 59  قارباً من لبنان، تحمل على متنها 3,191 راكباً، معظمهم سوريين، كما قالت ليزا أبو خالد، المتحدثة باسم مفوضية لبنان لـ”سوريا على طول”، مشيرة إلى أن أعداد الوافدين أعلى بنحو 60 مرة مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2023، عندما وثقت المفوضية تحرك ثلاثة قوارب فقط تحمل على متنها 54 راكباً.

“من الواضح أنها رحلات يائسة شرع بها أشخاص لا يجدون في لبنان طوق نجاة، في ظل الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردي”، بحسب أبو خالد. 

طالبو لجوء واصلون حديثاً يستظلون من الشمس في مركز استقبال بورنارا بجزيرة قبرص، 27/ 03/ 2024 (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

طالبو لجوء واصلون حديثاً يستظلون من الشمس في مركز استقبال بورنارا بجزيرة قبرص، 27/ 03/ 2024 (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

“بدلاً من دفع هؤلاء الناس للركوب في القارب، يتعين على الاتحاد الأوروبي مساعدة لبنان”، قال جورجياديس. في الثاني من نيسان/ أبريل، قال رئيس جمهورية قبرص نيكوس كريستودوليدس أنَّه طلب شخصياً من المفوضية الأوروبية أن تحث السلطات اللبنانية على وقف حركة الهجرة.

ومن المقرر أن يزور كريستودوليدس لبنان اليوم، الموافق الثاني من أيار/ مايو، ليتوسط اتفاق بين الاتحاد الأوروبي ولبنان يرمي إلى إيقاف حركة المغادرة من الشواطئ اللبنانية. ومن المتوقع أن يتضمن الاتفاق دعماً مالياً من الاتحاد الأوروبي للسلطات اللبنانية، كالجيش لإدارة حركة الهجرة. 

ضبط  البحر

مع استمرار ارتفاع أعداد طالبي اللجوء السوريين في هذا الشهر، كثفت قبرص من دورياتها البحرية بالتنسيق مع لبنان.

في 17 نيسان/أبريل، حالت الشرطة البحرية القبرصية دون وصول خمسة قوارب، أقلعت من لبنان تحمل على متنها مئات السوريين، إلى المياه القبرصية. قبل يوم واحد، أكدت الشرطة أنَّ قبرص تعتزم نشر زوارق دورية لخفر السواحل قبالة الساحل اللبناني لاعتراض المهاجرين بموجب اتفاق أُبرِم في الثامن من نيسان/ أبريل، كما ذكرت صحيفة بريد قبرص اليومية، الناطقة بالإنجليزية.

ذكر هاتف الإنذار/Alarm Phone، خط ساخن للمهاجرين الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، أنَّ القوارب كانت عالقة في البحر لأيام بين لبنان وقبرص دون مؤونة كافية. وأشار أيضاً إلى أنَّ الشرطة البحرية القبرصية رفضت أن تُقدِّم للركاب على متن هذه القوارب أي مساعدة وهددتهم باستخدام السلاح والعنف. 

وفي هذا السياق، قال محمد صبلوح، محامي ومدافع عن حقوق الإنسان في مركز سيدار للدراسات القانونية أنَّ أحد القوارب عاد إلى مدينة طرطوس الساحلية، في ليلة 17 نيسان/أبريل، بينما رجعت القوارب الأربعة الأخرى إلى مدينة طرابلس الساحلية شمال لبنان في اليوم ذاته، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.

اعترض الجيش أحد القوارب الأربعة العائدة إلى لبنان قبل وصولها. قال صبلوح وركاب كانوا على متن القارب أنَّ الجيش رحلَّ سبعة أو ثمانية ركاب إلى سوريا، لأنَّهم لا يملكون أوراق إقامة، حالهم حال غالبية السوريين.

في الأشهر الأخيرة، احتجزت السلطات اللبنانية اللاجئين تعسفياً وأقدمت على تعذيبهم وإعادتهم قسرياً إلى سوريا، في إطار موجة قمع و عنف موجهة ضد السوريين في البلد، كما ذكرت هيومن رايتس ووتش في 25 نيسان/أبريل. 

“الكثير من المخاطر”

معظم السوريين الذين تمكنوا من الوصول إلى قبرص لا يعتزمون البقاء فيها، كما قال محمد داوود، 26 عاماً، لـ”سوريا على طول” في نهاية آذار/ مارس،  من مكان إقامته في مركز بورنارا، مشيراً إلى أنه وصل قبل شهرين وكان ينوي مواصلة رحلته إلى بلد أوروبي آخر.

دفع داوود، الذي ينحدر من محافظة دير الزور، شرقي سوريا، آلاف الدولارات لمهرب أخبره “سنبقى هنا [في قبرص] لبعض الوقت ومن ثم ننطلق إلى ألمانيا”.

خلال رحلته من سوريا إلى قبرص، أصيب داوود وصديقه الذي رافقه في هذه الرحلة بعد أن اصطدم زورق للشرطة القبرصية بقارب صيد صغير كانوا على متنه. كُسرت قدم داوود، وأصيبت ساق صديقه بكسور، ومن ثم بترت إثر مضاعفات أعقبت عملية جراحية أجريت لها. 

محمد داوود هاجر من سوريا إلى قبرص مع صديق له (الموجود في الصورة)، وأصيب كلاهما إثر اصطدام زورق للشرطة بقاربهما، ما أدى إلى بتر ساق صديقه بسبب مضاعفات طبية، 27/ 03/ 2024 (هانا ديفيس/سوريا على طول)

محمد داوود هاجر من سوريا إلى قبرص مع صديق له (الموجود في الصورة)، وأصيب كلاهما إثر اصطدام زورق للشرطة بقاربهما، ما أدى إلى بتر ساق صديقه بسبب مضاعفات طبية، 27/ 03/ 2024 (هانا ديفيس/سوريا على طول)

“هناك الكثير من المخاطر [للهجرة غير النظامية عبر القوارب]”، قالت كاتيا ساها، ممثلة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لـ”سوريا على طول” من مكتبها في نيقوسيا. يترك المهربون مراكبهم تنجرف مع التيار “في منتصف الرحلة ويُترَك الركاب غير المجُهزين على الإطلاق ليواصلوا الإبحار بمفردهم”، كما أضافت.

يخاطر البعض بالصعود على متن القوارب لأنَّه “ليس هناك طريق قانوني للم شملهم مع أفراد العائلة في قبرص”، بحسب ساها.  80 بالمئة من السوريين في قبرص أُعطُوا صفة الحماية الفرعية (الثانوية)، التي تُمنح للذين لا يستوفون المعايير الحكومية لصفة اللجوء، وفي الوقت ذاته هم عرضة للأذى إن عادوا إلى بلدهم الأصلي. 

في قبرص، لا يحق لأولئك الذين مُنحوا صفة الحماية الفرعية لم شمل العائلة،  في حين يتسنى لأولئك الذين يتمتعون بصفة اللجوء التقدم بطلب لضم أفراد أسرهم قانونياً.  

مع تزايد عدد السوريين الواصلين إلى قبرص عبر القوارب، ارتفع عدد القاصرين السوريين غير المصحوبين بذويهم، بحسب ساها، وهذه من الآثار الجانبية الأخرى لعدم وجود طريقة رسمية للم شمل العائلات.

“رغم تحسن نظام استقبال [اللاجئين] تحسناً ملحوظاً، إلا أنه ليس وافياً بالنسبة للأطفال”، بحسب  قالت ساها. ملاجئ الأطفال غير المصحوبين بذويهم ممتلئة فوق سعتها القصوى، ولذلك يتم إيواء العديد منهم في فنادق شاغرة لفترات زمنية طويلة، بمنأى عن التعليم والخدمات المناسبة.

شباب سوريون، غالبيتهم سوريين، في مركز بورنارا ينتظرون لمعرفة ما إذا كانوا مدرجين ضمن القائمة التي تخولهم مغادرة المخيم، 27/ 03/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

شباب سوريون، غالبيتهم سوريين، في مركز بورنارا ينتظرون لمعرفة ما إذا كانوا مدرجين ضمن القائمة التي تخولهم مغادرة المخيم، 27/ 03/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

البحث والإنقاذ

بعد إلقاء رحاب الأحمد وزوجها ابنهما سيف الدين في البحر بوقت قصير، حدَّد رادار الشرطة البحرية القبرصية موقع قاربهم، في 29 شباط/ فبراير، على بعد نحو 67 ميل (حوالي 108 كيلو متر) جنوب الجزيرة. ونقلت سفينة دورية من كانوا على متن القارب إلى مدينة لارنكا الواقعة على الساحل الجنوبي ومن ثم إلى مركز الاستقبال في بورنارا.

المأساة التي مرت بها العائلة ليست الأولى من نوعها. خلال العام الماضي، تقطعت السبل بالعديد من القوارب المحملة بالمهاجرين وطالبي اللجوء أو اختفت قبالة الساحل القبرصي. وتنتقد جماعات حقوق الإنسان فشل قبرص في حماية طالبي اللجوء والمهاجرين في البحر.

رحاب الأحمد تجلس مع أحد أطفالها داخل كرفانها في مركز استقبال بورنارا للاجئين في قبرص، 27/ 03/ 2024، (هانا ديفيس/سوريا على طول)

رحاب الأحمد تجلس مع أحد أطفالها داخل كرفانها في مركز استقبال بورنارا للاجئين في قبرص، 27/ 03/ 2024، (هانا ديفيس/سوريا على طول)

اتهمت منظمة “كيسا” القبرصية غير الحكومية، التي تُعنى بحقوق الإنسان، فرق الإنقاذ في قبرص بتأخير عمليات البحث عن المهاجرين الذين تقطعت بهم السبل وعدم توظيف “كل الوسائل التقنية الموضوعة تحت تصرفهم”. 

في إحدى الحالات، أخطرت “كيسا” السلطات البحرية القبرصية، في 20 كانون الثاني/يناير، عن توقف محرك قارب بعد انطلاقه من لبنان بيومين. غير أنَّ السلطات البحرية القبرصية لم تصل إلى القارب إلا بعد أربعة أيام، ما أسفر عن موت طفل ونقل ثلاثة آخرون إلى المستشفى. 

“هؤلاء الأشخاص [خفر السواحل القبرصي] يتقاضون رواتبهم مقابل مراقبة البحار، إذا كنت تريد إنقاذ الناس اعتماداً على تقييم المياه والرياح، فأنا واثق أنه يمكنك تحديد موقع القارب بالضبط”، قال دوروس بوليكاربو، الرئيس التنفيذي لمنظمة “كيسا” لـ”سوريا على طول”. 

وانتقدت منظمة “كيسا” الحكومة القبرصية أيضاً، التي تنحو إلى سياسات “مجرمة وقمعية” لردع السوريين وثنيهم عن القدوم، بدلاً من تعزيز آليات الاستجابة للإنقاذ. وترى المنظمة الحقوقية أنَّ قبرص تنتهك التزامات البحث والإنقاذ الدولية وتعيق الوصول إلى اللجوء والحماية من الإعادة القسرية.

تواصلت “سوريا على طول” مع مركز تنسيق الإنقاذ المشترك في قبرص (JRCC)، الذي ينسق مع شرطة الموانئ والبحرية، عدة مرات للتعليق على الموضوع، لكنها لم تتلق رداً حتى تاريخ النشر. 

رحاب الأحمد تتصفح صور ابنها سيف الدين عبر شاشة هاتفها، الذي توفي أثناء هجرة العائلة من سوريا إلى قبرص عبر البحر الأبيض المتوسط، 27/ 03/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

رحاب الأحمد تتصفح صور ابنها سيف الدين عبر شاشة هاتفها، الذي توفي أثناء هجرة العائلة من سوريا إلى قبرص عبر البحر الأبيض المتوسط، 27/ 03/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

ليالي الأرق

أمضت الأحمد العديد من الليالي دون أن يغمض لها جفن، وتشعر بالحسرة والأسى على ما قاساه أطفالها خلال رحلتهم، مشيرة إلى أن مشاهد الرحلة “لا تفارقني”.

“أطفالي هم سبب مجيئي إلى قبرص، لأخرجهم من البيئة في سوريا على أمل أن يعيشوا [حياة أفضل] ويتعلموا”، قالت الأحمد. 

أمسكت جوالها، وفتحت ألبوم صور لابنها سيف الدين، وبدأت تمرر يدها على الشاشة، تتأملها بحرقة ولهفة.

في إحدى الصور، يلعب سيف الدين مع شقيقه الأكبر خارج منزلهم في ريف حلب. في صورة أخرى، يرتدي زيّ سبايدرمان، ويمد يديه مقلداً الحركة المميزة لشخصية مارفل، البطل الأسطوري. تتابع الأم ضحكات صغيرها ومرحه صورة تلو أخرى، حيث تبدو وجنتاه متوردة وعلامات الفرح بادية على محياه.

تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور

شارك هذا المقال