8 دقائق قراءة

سوء أوضاع اللاجئين السوريين في قبرص تدفع العشرات منهم إلى العودة

مع صعوبة حياة طالبي اللجوء في قبرص، يتزايد عدد السوريين الذين يلتحقون ببرنامج "العودة الطوعية" الذي أطلقته الحكومة القبرصية. عاد 114 سورياً في هذا العام حتى الآن، مقارنة بنحو 30 فقط في عام 2023.


4 يونيو 2024

نيقوسيا- على بعد دقائق -سيراً على الأقدام- من المقاهي ذات التراسات في مدينة نيقوسيا التاريخية، عاصمة قبرص، يركن عشرات السوريين فراشهم وبطانياتهم في فناء أحد المساجد، لأن معظم بلا مأوى منذ أشهر أو سنوات.

يخرج إيهاب الفياض، 24 عاماً، ومحمد أحمد 28 عاماً، من المسجد بخطى متعبة وعيون مُجهدة من الإرهاق. فكلا الشابين بلا مأوى منذ سنوات، أحمد منذ وصوله وتقديمه طلب اللجوء في نيسان/أبريل 2021، والفياض منذ تشرين الثاني/ نوفمبر من العام ذاته.

“في قبرص، يعاملوننا معاملة الحيوانات وليس البشر”، قال أحمد لـ”سوريا على طول”. وأشار الفياض إلى وعاء مفتوح فيه بقايا من الرز المتناثر على العشب في فناء المسجد، ثم قال: “تعيش الكلاب أفضل من السوريين هنا”. طعام كهذا أحياناً هو الوجبة الوحيدة المتاحة لهم.

بينما يخاطر آلاف السوريين بحياتهم للوصول إلى قبرص عبر القوارب من لبنان وسوريا، يعاني طالبو اللجوء المقيمون فيها الأمرين، في ظل غياب الدعم الكافي وتزايد صعوبات الحياة في هذه الجزيرة لدرجة لا تطاق، ما دفع أعداداً متزايدة من الأشخاص إلى الالتحاق ببرنامج المساعدة على العودة الطوعية (AVR)، الذي أطلقته الحكومة القبرصية لدعم العودة إلى البلدان التي فروا منها.

منذ مطلع عام 2024 حتى الآن، عاد 114 طالب لجوء طوعياً إلى سوريا، مقارنة بـ 30  تقريباً في عام 2023، كما قال أندرياس جورجياديس، رئيس دائرة اللجوء القبرصية لـ”سوريا على طول”.

فرَّ الفياض من القتال في محافظة إدلب شمال غرب سوريا في عام 2018، أما أحمد، وهو كردي، فرَّ من منطقة عفرين في محافظة حلب عام 2013، بعد تعرضها لهجوم من قبل فصائل الجيش السوري الحر. توجه كلاهما أولاً إلى تركيا، حيث أقام الفياض لمدة ثلاث سنوات تقريباً، وأحمد لنحو ثماني سنوات، ومن ثم اتجها إلى قبرص عبر “قوارب الموت” في عام 2021، أملاً في العثور على مستقبل أفضل في قبرص، وهي من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

إيهاب الفياض (على اليمين)، 24 عاما، ومحمد أحمد (على اليسار)، 28 عاماً،  يجلسان خارج المسجد حيث ينامان  في نيقوسيا، 29/ 03/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

إيهاب الفياض (على اليمين)، 24 عاما، ومحمد أحمد (على اليسار)، 28 عاماً،  يجلسان خارج المسجد حيث ينامان  في نيقوسيا، 29/ 03/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

خلال السنوات القاسية في قبرص، حيث التقى الشابان ببعضهما، توطدت علاقة الصداقة بينهما، وقلما يترك أحدهما الآخر. قال أحمد: “هو من محافظة مختلفة، ولكننا التقينا هنا وقضينا ثلاث سنوات برفقة بعضنا”، حتى “صار بمثابة أخي”.

تراكم الطلبات

تتلقى قبرص، التي يسكنها نحو 1.2 مليون نسمة، أكبر عدد من طلبات اللجوء بالنسبة للفرد الواحد في أوروبا. وذلك لأنَّ الجزيرة المتوسطية هي أقرب دولة عضو في الاتحاد الأوروبي إلى سوريا ولبنان، اللتين يفر منهما الكثير من السوريين، بسبب الفقر والعنف المتفاقمين.

ارتفع عدد السوريين الذين وصلوا إلى قبرص خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024، إذ وصل أكثر من 3,400 حتى نهاية نيسان/ أبريل. ولكن، بعد قرار قبرص في 13 نيسان/ أبريل وقف معالجة طلبات اللجوء المقدَّمة من السوريين، وبالتضافر مع مساعيها المستمرة لتشديد الرقابة على البحر، انخفض عدد الوافدين السوريين في أيار/ مايو.

اقرأ أكثر: موت في طريق النجاة: آلاف السوريون يبحرون إلى قبرص وسط مساعي الأخيرة للحد من الهجرة

بلغ عدد الطلبات المستلمة في أيار/ مايو نحو مئة طلب، بحسب أندرياس جورجياديس، رئيس دائرة اللجوء القبرصية، وهذا العدد أقل بكثير مقارنة بـ 944 طلباً مقدماً  في نيسان/ أبريل. 

إيقاف معالجة طلبات اللاجئين السوريين “سيسهم بلا شك” في زيادة تراكم الملفات مع توافد المزيد من طالبي اللجوء، قالت كورينا دروسيوتو، المستشارة القانونية في مجلس اللاجئين القبرصي، لـ”سوريا على طول”. حتى قبل قرار 13 نيسان/ أبريل، كان متوسط وقت الانتظار لتحديد صفة اللجوء يستغرق نحو عامين، وفقاً لها.

إذا استطاع السوريون تحمّل الانتظار الطويل، فإن نحو 90 بالمئة منهم سيحصلون في نهاية المطاف على صفة الحماية المؤقتة (الثانوية)، كما ذكرت ممثلة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في قبرص، كاتيا ساها سافاريموثو، لـ”سوريا على طول”. الحماية المؤقتة هي نوع من أنواع الحماية الدولية التي تُمنح للذين لا يحققون شرط صفة اللجوء، وتمنح عادة للسوريين في قبرص.

تقدِّم الحكومة القبرصية مساعدة مالية مقدارها 300  يورو لطالبي اللجوء ريثما تصدر نتائج طلباتهم، لكن إن كانوا بلا مأوى كحال الفياض وأحمد، وليس بإمكانهم إثبات عنوان سكن لهم، يفوتهم هذا المعاش. وفي الوقت نفسه، لا يمكنهم العمل بصفة قانونية خلال الأشهر التسعة الأولى في قبرص، ومن ثم يمكنهم العمل بعد ذلك في قطاعات محدودة  فقط إلى أن يتم البت في طلبات لجوئهم. 

إيهاب الفياض يشير إلى عبوة مهملة فيها بقايا من الرز، مرمية على العشب بجوار المسجد. طعام كهذا أحياناً هو الخيار الوحيد لطالبي اللجوء أمثاله، 27/  03/  2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

إيهاب الفياض يشير إلى عبوة مهملة فيها بقايا من الرز، مرمية على العشب بجوار المسجد. طعام كهذا أحياناً هو الخيار الوحيد لطالبي اللجوء أمثاله، 27/  03/  2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

الإعادة إلى الوطن؟

في أيار/ مايو، كشفت قبرص عن سعيها، كما العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إلى الاعتراف بـ “مناطق آمنة” في سوريا، لتُتاح عمليات إعادة اللاجئين. وقال وزير الداخلية “كونستانتينوس إيوانو” آنذاك “إنَّ إعادة المواطنين السوريين بموجب شروط صارمة من شأنها أن تخفف من الازدحام في مراكز استقبال المهاجرين لدينا وتسهم في الاندماج الناجح للمهاجرين”.

​​وجاء تصريح “إيوانو” بعد أيام من إقرار الاتحاد الأوروبي، المكوَّن من 27  دولة، إصلاحاً تاريخياً واسعاً لسياسات الهجرة واللجوء ينص على تشديد إجراءات ضبط الحدود، وضمان تقاسم الأعباء بين الدول الأعضاء. ورأى منتقدو الميثاق أنه يرمي إلى إبعاد الناس عن أوروبا وينتهك حقوق اللاجئين في طلب اللجوء.

سيواجه أحمد والفياض خطراً جسيماً إن عادا إلى سوريا. وقد حذَّر والدا أحمد إياه من العودة إلى مسقط رأسه في عفرين، التي تقع تحت سيطرة القوات التركية وفصائل المعارضة المدعومة منها، المتهمة بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، بحق المكون الكردي الذي ينتمي إليه.

علم الفياض مؤخراً أنَّ والديه وأخته الأكبر منه قُتِلوا في قصف استهدف محافظة إدلب. كانت عائلته تعيش في مخيم للنازحين في المحافظة منذ تدمير منزلهم في عام 2020. لم يبق له الآن سوى شقيقين:  أخ يبلغ من العمر 26 عاماً وأخت تبلغ من العمر 38 عاماً، وكلاهما يعيشان في إدلب.

“فقدت كل شيء. هناك[في سوريا] قتل، بينما هنا [في قبرص] لا يوجد قتل، ولكن يوجد ظلم. ولم يعد يمكنني احتمال الظلم أكثر في هذه الجزيرة”، قال الفياض.

هل العودة طوعية حقاً؟

انتقد نشطاء حقوق الإنسان سياسة “العودة الطوعية” في قبرص، مشيرين إلى أن الظروف المعيشية السيئة تضع طالبي اللجوء أمام خيارات محدودة جداً. 

“كيف تكون طوعية إن كانوا يعيشون في فقر مدقع؟”، تساءلت دروسيوتو، معربةً عن قلقها بشأن الحوافز المالية المقدَّمة للعائدين، وكذلك إعادة طالبي اللجوء من مراكز الاحتجاز في قبرص. وأضافت: “إن عدم وجود آلية فعّالة لمراقبة عمليات العودة، تجعل من الصعب معرفة وجود إشكاليات أو نفي وجودها”. 

خلال العام الماضي، طبقت قبرص عدة سياسات من شأنها زيادة صعوبة حياة طالبي اللجوء واللاجئين، لاسيما في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، عندما مددت فترة الانتظار المفروضة على طالبي اللجوء قبل أن يتسنى لهم إمكانية العمل بصورة قانونية، من شهر إلى تسعة أشهر، وكان ذلك “نكسة كبيرة”، على حد وصف دروسيوتو.

بعد شهرين، عدَّلت قبرص قواعدها لمنح الجنسية، إذ وضعت “الدخول غير النظامي” كمعيار لتقييم “حسن السلوك” للمتقدمين. وبما أن الغالبية العظمى من طالبي اللجوء يتوافدون إلى الجزيرة بشكل غير نظامي، فإن هذا التعديل يحول دون حصولهم على الجنسية فيما بعد.

“أولوية الحكومة هي ردع الناس عن القدوم وحثهم على المغادرة”، قالت دروسيوتو، مضيفة: “الاندماج هو دائماً آخر الأولويات. هي رسالة واضحة مفادها: ليس لك أي آفاق على المدى الطويل في هذا البلد، أو أنك إن اخترت البقاء، فستبقى دائماً على الهامش”.

ارتفاع حالات التشرد

يصطدم طالبو اللجوء، الذين ما زالوا يتوافدون إلى قبرص، بنظام دعم متهالك وموارد قليلة أثناء انتظارهم الطويل. ولذلك  يجد الكثير منهم أنفسهم  بلا مأوى

في نهاية آذار/ مارس، بلغ عدد المستفيدين من الحماية الدولية الموجودين في قبرص 43 ألفاً، بما في ذلك الذين يتمتعون بصفة اللجوء والحماية الفرعية. هناك نحو 30 ألف شخص لديهم طلبات لجوء أو طعون استئناف معلَّقة، حسب المفوضية. لا توجد إحصائيات بشأن عدد طالبي اللجوء المشردين في قبرص حالياً.

“رغم تراجع أعداد القادمين مقارنة بالسابق، وزيادة أعداد العائدين والمستقرين في أماكن جديدة، إلا أنَّ القادمين يواجهون نظاماً [إنسانياً] مجهَداً ومشبعاً أصلاً”، كما قالت إليزابيث كاسينيس، رئيسة كاريتاس في قبرص لـ”سوريا على طول”، مشيرة إلى البلد بأنه “مكان صغير جداً وآفاقه الاقتصادية محدودة جداً”.

يذكر أن مجلس اللاجئين القبرصي، وفيه 18 موظفاً، هو الشريك المنفذ الوحيد للمفوضية على الجانب اليوناني القبرصي الجنوبي من الجزيرة، حيث يوجد معظم طالبي اللجوء. وبالمجمل، تعمل 14 منظمة غير حكومية وجمعية على مساعدة عشرات الآلاف من طالبي اللجوء واللاجئين بكوادر محدودة جداً في الغالب.

“هناك العديد من الأماكن التي يُقصّر فيها النظام، والمجتمع عموماً”، قالت كاسينيس، مضيفة: “بعض نقاط الضعف لا تُقيَّم بشكل صحيح أو يُغَض الطرف عنها، وأحياناً لا يمتلك [طالبو اللجوء] المهارات اللغوية أو الموارد الأساسية لمتابعة أمورهم”.

في الوقت ذاته، تواجه قبرص أزمة سكن. ومن أجل مغادرة مركز استقبال بورنارا، الذي يُزج به طالبي اللجوء عند وصولهم، يتعين عليهم إثبات عنوان سكنهم. ونظراً لعدم توفر مساكن بأسعار معقولة في قبرص، يلجأ العديد من طالبي اللجوء إلى شراء عناوين مزيفة للخروج، كما فعل الفياض، الذي دفع نحو 100 يورو مقابل عنوان مزيف في عام 2021.

“لا نملك حلاً فورياً لمشكلة الإيواء”، قالت دروسيوتو، مشيرة إلى عدم وجود ملاجئ للمشردين في الجزيرة. وقد اعتمدت العائلات القبرصية تاريخياً على الروابط الأسرية بدلاً من شبكة رعاية تديرها الحكومة.

تعمل قبرص على توسيع مركز بورنارا وبناء مركز استقبال جديد للاجئين بدعم من منح الاتحاد الأوروبي .غير “أنّها  مسألة مكلفة للغاية”، بحسب دروسيوتو. 

​​إيهاب الفياض، 24 عاما، قال أن أمله بمستقبل أفضل في قبرص تلاشى بعد عامين ونصف من وصوله إلى الجزيرة، 28/  03/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

​​إيهاب الفياض، 24 عاما، قال أن أمله بمستقبل أفضل في قبرص تلاشى بعد عامين ونصف من وصوله إلى الجزيرة، 28/  03/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

تلاشي الأمل

يتمشى الأحمد والفياض بعيداً عن السياح الذين يرتشفون المشروبات الربيعية وقهوة اللاتيه، ويميلون إلى التجول في الشوارع الجانبية الأقل ازدحاماً، تفادياً لجذب الانتباه غير المرغوب أو إثارة المشاكل مع القبرصيين.  

تتصاعد حدة التوترات بين اللاجئين والمجتمع القبرصي المضيف، ويتفاقم الوضع بسبب ضعف مساعي الاندماج وخطاب التحريض العنصري المعادي للاجئين، الذي يدلي به السياسيون اليمينيون المتطرفون في الجزيرة. في كانون الثاني/ يناير، تم تفجير عبوة ناسفة في نيقوسيا أمام مكاتب منظمة KISA المعنية بحقوق الإنسان، التي تعمل مع طالبي اللجوء. 

“هناك زيادة في التوجهات السلبية… لقد تجرأ الناس أكثر على التصرف بعنصرية وتعصب”، قالت دروسيوتو.

أما عن الفرص المتاحة لطالبي اللجوء كدروس اللغة الإنجليزية، التي تديرها منظمة غير حكومية في نيقوسيا، فهم يشعرون أنَّها ليست لهم. “كيف أذهب بهذا الشكل؟” تساءل الفياض، ويقصد أن ثيابه رثة.

يأمل الفياض بمستقبل أفضل، غير أن الأمل الذي دفع به للمخاطرة بحياته في البحر الأبيض المتوسط ليصل إلى قبرص قبل سنتين ونصف تلاشى، لدرجة أن تجول في خاطره أفكار تصل حدّ إنهاء حياته، معبراً عن حالة الغليان بداخله بالقول: “قلبي يحترق”.

عندما أجرت “سوريا على طول” مقابلة صحفية مع أحمد والفياض في أواخر آذار/ مارس، كان لهم على الأقل مكاناً ينامون به في فناء المسجد. ولكن بعد شهر، أجبرتهم الشرطة القبرصية على مغادرة المبنى، ومن حينها ينام الصديقان في الشوارع.

نُشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور

شارك هذا المقال