7 دقائق قراءة

من لبنان إلى إدلب: طرق التهريب مكلفة ومحفوفة بالمخاطر

بالتزامن مع ارتفاع خطاب الكراهية في لبنان ضد اللاجئين السوريين، رسمياً وشعبياً، تنشط عمليات التهريب العكسية إلى مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا


28 يونيو 2024

إدلب- قبل نحو شهرين، عاد علي سامر (اسم مستعار)، 18 عاماً، من لبنان إلى مدينة إدلب، شمال غرب سوريا، عبر ما وصفه بـ”طريق عسكري”، في رحلة استغرقت أربعة أيام، وكلفة مقدارها 800 دولار أميركي دفعها للمهربين، كما قال الشاب الذي ينحدر من محافظة حمص لـ”سوريا على طول”.

بالتزامن مع ارتفاع خطاب الكراهية في لبنان ضد اللاجئين السوريين، رسمياً وشعبياً، التي بلغت ذروتها بعد مقتل باسكال سليمان، مسؤول في حزب القوات اللبنانية، بدأت عمليات التهريب العكسية تنشط إلى مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا.

وعدا عن التكاليف المرتفعة، يسلك العائدون طرقاً خطرة بين البلدين، يستخدمون خلالها وسائل نقل متنوعة: سيارات، دراجات نارية، وأحياناً يتخفون بين البضائع في شاحنات النقل، ناهيك عن المشي سيراً على الأقدام في بعض الأجزاء من طريقهم المنتهية بالشمال السوري، بحسب ما أوضحت عدة مصادر لـ”سوريا على طول”.

تتعامل عشرات مكاتب السفريات مع شبكات المهربين، التي تنسق مع شخصيات حكومية وأمنية، لتسهيل عملية التهريب مقابل حصولها على مقابل مادي (رشاوى)، على طرفي الحدود، وفق شهادات عائدين من لبنان، حصلت عليها “سوريا على طول”.

لا توجد إحصائيات رسمية، لكن أبو عبدو، صاحب مكتب سفريات في إدلب، قدر عدد العائدين من لبنان إلى مدينة حلب، الواقعة تحت سيطرة النظام، عبر مكتبهم، بنحو 200 شخص أسبوعياً، بكلفة 350 دولاراً للشخص الواحد، ولكل ثلاثة أطفال أجرة تعادل أجرة الراكب الواحد، وهذا المبلغ خاص بـ”غير المطلوبين للنظام”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.

أما بالنسبة للمطلوبين أمنياً أو المتخلفين عن الخدمة العسكرية الإلزامية، تتراوح تكاليف رحلتهم بين 600 و800 دولار للشخص الواحد، “بحسب طبيعة المشكلة الأمنية والوسيط”، على حد قوله.

طرق محفوفة بالمخاطر

يدخل السوريون غير المطلوبين للأجهزة الأمنية السورية بلادهم من المعابر الرسمية، ومن الأراضي السورية يستكمل البعض رحلاتهم إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرقي البلاد أو مناطق سيطرة المعارضة في شمالها الغربي بعد التنسيق مع مهربين لنقلهم.

يسيّر مكتب أبو عبدو رحلات من عدة محافظات سورية إلى مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا، مقابل 250 دولاراً للشخص الواحد.

 في المقابل، يعتمد المطلوبون للنظام في رحلاتهم من نقطة الانطلاق إلى الوصول على “الخط العسكري”، بمساعدة “عسكريين من البلدين”، لقاء حصولهم على مبالغ مالية متفق عليها، كما في حالة علي سامر.

انطلق سامر مع عائدين آخرين من منطقة وادي خالد في لبنان، عبر دراجات نارية أوصلته إلى نقطة قريبة من الحدود، ومنها تابعوا طريقهم مشياً على الأقدام إلى قرية حدودية سورية تابعة لمحافظة حمص، لم يذكر اسمها، وبعد المبيت فيها ليومين، أقلتهم سيارة تابعة للفرقة الرابعة في جيش النظام إلى مدينة الرستن بريف حمص الشمالي.

من الرستن، عاودوا ركوب الدراجات النارية بين الجبال، لمدة نصف الساعة، إلى أن وصلوا إلى أوتستراد دمشق-حلب الدولي، وهناك “رافقنا عناصر يتبعون لحزب الله اللبناني إلى  منطقة قريبة من معبر التايهة”، بحسب سامر، ومن ثم دخلوا مناطق سيطرة “قسد” عبر المعبر، الذي يفصل بين مناطق سيطرة الأخيرة والنظام.

وبالقرب من معبر التايهة، ينتظر المسافرون في غرف صغيرة، يطلق عليها محلياً “مطبّات”، ريثما يسيرون في رحلة أخرى من مناطق “قسد” إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية في شمال غرب سوريا، كما قال عائدون من لبنان.

في معبر التايهة، ارتدى المسافرون، بما فيهم سامر، بدلات عسكرية بناء على طلب شخص متعاون مع المهرب، تجهيزاً لعبورهم خط التماس بسيارات عسكرية تارة، والمشي على الأقدام تارة أخرى، إلى أن وصلوا إلى مناطق سيطرة الجيش الوطني (المعارض) المدعوم من تركيا، وهناك “استلمنا عسكريون من المعارضة ورتبوا نقلنا إلى إدلب”، كما قال.

لن يفكر سامر وأمثاله قطع هذه المسافات، بما تحمله من مخاطر تهدد حياتهم، لولا الممارسات التي يتعرض لها اللاجئون السوريون في لبنان -البالغ عددهم نحو 1.5 مليون لاجئ- من تضييق: كإغلاق محالهم التجارية، ومنعهم من التجول في عدة مدن لبنانية، وانتهاكات وصلت حدّ الاعتداء والاختطاف، ما أجبر بعضهم التزام منازلهم نأياً بأنفسهم عن العنف الممارس ضدهم.

اقرأ المزيد: سجناء في بيوتهم: الخوف يلازم السوريين بعد تجدد العنف ضدهم في لبنان

قبل أن تصاعد حملة العنف الأخيرة في لبنان، عاد شاهر كمال (اسم مستعار)، 47 عاماً، رفقة زوجته وأطفاله إلى مسقط رأسه في إدلب، شمال غرب سوريا، منتصف العام الماضي، في رحلة استمرت أسبوعين، على عكس ما اتفق به مع المهرب، الذي وعده بأن تكون الرحلة “من دون مشقة أو مصاعب”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

دخل كمال إلى سوريا عبر معبر المصنع الحدودي “دون أي مضايقات” لأنه غير مطلوب للنظام، لكن مشكلته كانت في دخول مناطق المعارضة، إذ بقي في منطقة معبر التايهة لمدة أسبوعين، بسبب “خلاف بين المهربين”، توقع أن يكون هذا الخلاف “بهدف الابتزاز والحصول على مزيد من المال”.

لكن كان الأمر “أخطر من ذلك”، إذ وصلته رسالة من المهرب الذي اتفق معه في لبنان أخبره بـ”ضرورة الهروب من المكان، لأنني بحكم المخطوف”، بحسب كمال.

تمكن كمال الخروج من المنطقة  متذرعاً بـ”مرض ابنتي، ذات الثمانية أعوام، التي أصيبت بوعكة صحية بسبب ارتفاع درجات الحرارة وقذارة المكان الذي كنا نبيت فيه”، ولكنه غير وجهته إلى حي الشيخ مقصود بحلب، وهناك اتفق مع مهرب آخر نقلهم إلى إدلب.  

“الكل يقول لنا الطريق لوز، ولن تسيروا على أقدامكم”، في إشارة إلى أن الطريق ميسر، لكنه اصطدم بخداع المهربين وغشهم، لذلك كان عبور طريق التهريب “كالعابر إلى جنهم لا إلى الوطن”، على حد وصفه.

وفي أواخر العام الماضي، وصلت سماح، 32 عاماً، رفقة بناتها الثلاث، إلى إدلب، قادمة من لبنان، على أن يلتحق زوجها وابنها فيما بعد، لأن عودة الزوج بحاجة لتنسيق مع مهرب، كونه مطلوب للنظام السوري، كما قالت السيدة لـ”سوريا على طول”.

كان طريق سماح وبناتها “محفوف بالمخاطر”، تعرضت خلاله لـ”إطلاق نار، وسرقة أغراضنا الشخصية ومبلغاً من المال”، واستدعيت لأحد أفرع النظام الأمنية وخضعت للتحقيق، وأثناء ذلك “تعرضتُ لألفاظ نابية”، قبل أن تصل إلى وجهتها الأخيرة.

دخلت سماح سوريا عبر أحد المعابر الرسمية، وواصلت رحلتها إلى مدينة حلب، الواقعة تحت سيطرة النظام، ومنها اتفقت مع أحد المهربين، من أجل نقلها إلى إدلب، عبر معبر التايهة في منبج بريف حلب. وصلت السيدة إلى الغرف الصغيرة (المطبات)، وكان الاتفاق على أن يسلموا أمتعتهم وهواتفهم النقالة للمهربين قبل الصعود إلى السيارة “على أن يعيدوها لنا على الطرف الآخر”، حيث مناطق سيطرة المعارضة، وفقاً لها.

أثناء محاولة الخروج من مناطق النظام ليلاً، تعرضوا لإطلاق نار، ومن ثم اقتيد أغلبهم، بما فيهم سماح وبناتها، إلى أحد الفروع الأمنية التابعة للنظام في حلب، لكنها خرجت من المأزق بعد ادعائها بأنها كانت متجهة لزيارة أختها المقيمة في منبج، فأفرج عنها “بعد التعهد بأن لا أسلك هذا الطريق مرة ثانية”.

نجحت سماح في المحاولة الثانية، حيث اتجهت من المعبر ذاته -أي التايهة- إلى جرابلس، ومنها إلى مدينة الباب، وصولاً إلى مدينة إدلب، مقابل دفع 1100 دولار أميركي دفعتها للمهرب. 

في رحلتها الثانية، سُرق هاتفها المحمول وحقيبة سفر فيها ألبسة جديدة لبناتها، وحقيبة يد فيها مبلغ من المال، ومع ذلك “أحمد الله على نجاتي سالمة مع بناتي من الاعتقال أو التحرش، خاصة أنني أنتمي لعائلة معروفة من إدلب معروفة بمعارضتها للنظام”، قالت سماح.

أسباب العودة

منذ أن ضربت الأزمة الاقتصادية لبنان، عام 2020، لم يعد البلد خياراً مناسباً للسوريين، لا سيما مع تدهور أوضاعهم المعيشية وتصاعد خطاب الكراهية بحقهم.

فقد زوج سماح عمله، ما أدى إلى تردي وضعه الاقتصادي لدرجة أنه “لم يعد قادراً على دفع إيجار المنزل”، بحسب سماح، ناهيك عن تشديد إجراءات تجديد بطاقات الإقامة والتضييق على السوريين، وهو ما دفع العائلة إلى التفكير بالعودة.

السبب ذاته كان وراء عودة شاهر كمال، الذي يعمل بمهنة النجارة في لبنان منذ عام 2008، أي قبل اندلاع الثورة السورية، إذ “بعد تزايد المضايقات الأمنية وتأخر إجراءات تجديد بطاقات الإقامة لعائلتي، وما ترتب عليه من حرمان أولادي من التعليم، قررت العودة”، كما قال.

تشير إحصاءات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن نحو 80 بالمئة من اللاجئين السوريين في لبنان لا يملكون إقامات شرعية، بسبب عدم تمكن جزء كبير منهم من تلبية الشروط اللازمة للحصول على الإقامة، أو بسبب عدم قدرتهم على دفع التكلفة المطلوبة، وبالتالي غالبيتهم معرضون للترحيل أو التوقيف.

وفي هذا الصدد، قالت المحامية ديالا شحادة من لبنان، أن تأخر الأمن العام اللبناني في إجراءات تجديد الإقامة أو الكفالات الشخصية للسوريين “تعسفية في معظم الأحيان”، وعزت التأخير إلى “أسباب بيروقراطية هدفها تطفيش السوريين من لبنان، أو بسبب كثافة طلبات تجديد الإقامات للأجانب من جنسيات متعددة”.

ورغم تحذيرات منظمات حقوقية ودولية من تداعيات الترحيل، المتمثلة بالاعتقال والملاحقات الأمنية، تستأنف السلطات اللبنانية ترحيل لاجئين سوريين تحت ستار العودة الطوعية. هذا الواقع دفع بعضهم إلى ركوب مياه البحر الأبيض المتوسط أملاً بحياة أفضل في أوروبا، لكنهم صدموا بالإجراءات المشددة في قبرص، وهي من ضمن دول الاتحاد الأوروبي.

وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها، اعتقال 23 شخصاً من اللاجئين العائدين من لبنان والأردن، في شهر أيار/ مايو الماضي فقط، مشيرة إلى أن النظام يستهدف اللاجئين الذين تم ترحيلهم قسراً من لبنان بالاعتقال أو الإخفاء، وغالبيتهم تم توقيفهم عند معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسوريا.

ومن أصل 1100 لاجئ عادوا طوعاً إلى سوريا من لبنان، أغيد غالبيتهم إلى لبنان “بقرار رسمي من النظام”، بعد أن تم تصنيفهم بأنهم “غير مرغوب بهم، ويشكلون خطراً أمنياُ وديموغرافياً على بقائه”، بينما قُبل عودة 400 منهم فقط، كما نقلت صحيفة الشرق الأوسط عن مصدر نيابي لبناني هذا الشهر.

وأشارت المحامية شحادة في حديثها لـ”سوريا على طول” إلى أن بقاء اللاجئين السوريين، المطلوبين أو الفارين خوفاً من الاضطهاد أو التجنيد الإلزامي، في لبنان قانوني بموجب القانون العالمي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الخاص بمكافحة التعذيب والاختفاء القسري، لافتة إلى أنهم “يستطيعون الوقوف أمام القضاء اللبناني لشرح أسباب البقاء والتأكد منها، وبالتالي لبنان ملزم بحمايتهم”.

وتوقعت المحامية أن ينعكس تعهد الرئيس نجيب ميقاتي مؤخراً أمام وفد من المشايخ في طرابلس عدم تسليم المطلوبين بتهم سياسية وأمنية في السجون اللبنانية للنظام السوري إيجاباً على تكريس السياسات والمعايير المتبعة في حماية اللاجئين.

لكن بالنسبة لشاهر كمال “البقاء في لبنان كمن يحمل روحه على كفه”، لذا قرر بيع أغراض منزله في حي برج حمود في بيروت “بسعر بخس” لتمويل رحلة العودة، البالغة 2000 دولار أميركي عن خمسة أشخاص.

وفيما تمكنت عائلة سماح وكمال من تأمين تكاليف العودة، كان علي سامر عاجزاً عن ذلك، لكن “الخوف من إيذائي في لبنان دفع أهلي إلى إرسال المال لي من أجل العودة”، كما قال الشاب. 

شارك هذا المقال