“ندفع ثمن صراعهم”: المدنيون في شمال سوريا تحت قصف دمشق وأنقرة
رغم اختلاف الفاعلين والخصوم في محافظة إدلب، الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام شمال غرب سوريا، والمناطق المستهدفة شمال شرقي البلاد، الواقعة تحت سيطرة "قسد"، إلا هناك ما يجمع بين المنطقتين، من حيث استهداف المدنيين وإلحاق أضرار بالبنى التحتية في الجانبين.
13 أكتوبر 2023
باريس- في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، نجت عائلة نديم برهوم العمر، 42 عاماً، بأعجوبة من قصف النظام السوري لمنزلهم في الحي الشمالي بمدينة إدلب، شمال غرب سوريا، ليجد نفسه -رغم دمار منزله- محظوظاً مقارنة بـ46 مدنياً قتلوا في المنطقة.
عند الساعة السابعة والنصف صباحاً، من ذلك اليوم “استيقظنا على صوت انفجار في المنزل، للوهلة الأولى لم ندرك ما حدث، لكن سرعان ما شاهدنا النار تشتعل في المنزل مع انتشار غبار كثيف”، كما قال العمر لـ”سوريا على طول”، مستذكراً “كيف اهتز البناء بفعل القصف، وحالة الفزع التي أصابت أطفالي وزوجتي”.
قبل يومين من نجاة عائلة العمر، قتل محمد العليوي، طبيب الطب العربي، بقصف تركي لمنشآت نفطية قريبة من منزله في ريف بلدة القحطانية شمال الحسكة، بالقرب من الحدود التركية، وأصيب أفراد عائلته بجروح متفاوتة، في إطار الحملة العسكرية التي تشنها أنقرة ضد حزب العمال الكردستاني التركي (ب ك ك) وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في العراق وسوريا.
بدأت العملية العسكرية التركية مطلع الشهر الحالي، على خلفية تفجير استهدف مديرية الأمن في العاصمة أنقرة، في الأول من الشهر الحالي، وتبنى حزب العمال مسؤوليته عن العملية. بينما بدأت حملة النظام السوري على شمال غربي البلاد، في الخامس من الشهر ذاته، على خلفية استهداف طائرات مسيرة مجهولة حفل تخريج في الكلية الحربية بحمص.
رغم اختلاف الفاعلين والخصوم في محافظة إدلب، الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، والمناطق المستهدفة شمال شرقي البلاد الواقعة تحت سيطرة “قسد”، التي تتهمها أنقرة بالتبعية لحزب العمال الكردستاني، المصنف على قوائم الإرهاب التركية، إلا هناك ما يجمع بين المنطقتين، من حيث استهداف المدنيين وإلحاق أضرار بالبنى التحتية في الجانبين.
منذ مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، قتل 46 مدنياً في محافظة إدلب شمال غرب سوريا، وأصيب 213 آخرون بجروح، بينهم عنصرين من الدفاع المدني السور، كما قال منير المصطفى، نائب مدير الدفاع المدني لـ”سوريا على طول”.
على الضفة الأخرى، شرقي البلاد، قتل تسعة مدنيين، وأصيب 15 آخرون، بينهم أربعة أطفال وثلاث نساء، فيما بلغ عدد القتلى من العسكريين 39 شخصاً، بحسب أرقام حصلت عليها “سوريا على طول” من الناطق باسم لواء الشمال الديمقراطي التابع لـ”قسد”، محمود حبيب.
شمال غرب سوريا
بعد تهدم جدران منزل عائلة نديم برهوم العمر في إدلب، وتضرر النوافذ والأبواب والأرضيات، صار البيت “غير صالح للسكن”، ما دفعهم لـ”النزوح إلى المزارع المحيطة بمدينة إدلب”، لتتحول حياته إلى فوضى “بعد أن كنا نعيش حالة هدوء”، في إشارة إلى الاستقرار النسبي التي شهدته مناطق هيئة تحرير الشام منذ اتفاق الهدنة بين أنقرة وموسكو، الموقع في آذار/ مارس 2020.
في اليوم ذاته، الذي قصف فيه منزل نديم، أصيب أنور الديك، 48 عاماً، إلى جانب عاملين اثنين، بشظايا قذيفة سقطت على بعد 10 أمتار عنهم، أثناء عملهم بتعبئة صهاريج نقل المياه، في مدينة أريحا، كما قال لـ”سوريا على طول”.
“عندما سقطت القذيفة على الإسفلت، اشتعلت نار حمراء، ومن ثم امتلأ المكان بدخان أسود، وقتها شعرت وكأن أحداً ضربني بمطرقة وزنها 200 كيلوغراماً على يدي وقدمي”، قال الديك، الأب لخمسة أطفال، وهو مهجر من قرية محمبل، عام 2019، إلى مدينة أريحا بريف إدلب الجنوبي، مضيفاً: “فقدت الإحساس بأطرافي، كأنني شللت”، وهو على هذه الحال سمع شخصاً بجانبه ينادي “قدمي، قدمي”.
تحامل الديك على إصابته، وحاول الوقوف والابتعاد عن المكان، لكن “بعد خطوات وقعت على الأرض، وبقيت حتى وصل الناس لإسعافي إلى المستشفى”، بحسب قوله.
تتعرض مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا، أي محافظة إدلب وأجزاء من محافظة حلب واللاذقية، لقصف يومي من قوات النظام السوري والطيران الروسي، منذ حادثة الكلية الحربية في حمص، وذلك بعد اتهام النظام للهيئة وفصائل المعارضة في إدلب بتنفيذ العملية، رغم أن المتهمين بالعملية لم يتبنوها.
شمال شرق سوريا
خلافاً للمرات السابقة، تركز القصف التركي، هذا الشهر، على البنى التحتية، من قبيل: محطات الكهرباء والمياه، وصوامع الحبوب، إضافة إلى المنشآت النفطية ومقرات عسكرية وأمنية تابعة لـ”قسد”، كما قال اثنين من المصادر لـ”سوريا على طول”، مشيرين إلى انخفاض وتيرة القصف التركي للمنطقة خلال الأربعة أيام الأخيرة.
يتوافق ذلك، مع تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر، بأن بلاده أنهت المرحلة الأولى من عملياتها في شمالي سوريا والعراق بـ”نجاح”، مشيراً إلى أنهم دمروا 194 هدفاً، قتلوا 162 “إرهابياً”، خلال العملية، بحسب وصفه.
تتناقض المجريات على الأرض مع تصريحات أردوغان، إذ “في غضون دقيقة ونصف أحرقت الطائرات التركية أربعة مواقع نفطية في قرية القحطانية، وقتلت محمد العليوي وأصابت أفراد أسرته”، كما قال قريبه أبو عدي، لـ”سوريا على طول”، لافتاً إلى أن “الانفجار كان كبيراً، ولا يتجاوز توقيت الغارة عن التي تليها 17 ثانية فقط”، وأضاف: “كاميرات المراقبة في محيط منزلي وثقت لحظات القصف”.
وفي مدينة عامودا، الحدودية مع تركيا، شمال الحسكة، قصفت المقاتلات التركية خلال الأيام الأولى من الحملة محطات الكهرباء والمياه ومعمل النسيج وصوامع الحبوب في المدينة، إضافة إلى النقاط العسكرية والأمنية، كما قال قاسم عدنان (اسم مستعار)، 63 عاماً، لـ”سوريا على طول”، من مكان إقامته في المدينة، شريطة عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية.
وعلى بعد 400 متر من بيت عدنان، قصفت المقاتلات التركية صوامع الحبوب مرتين، و”تسببت بحالة هلع ونزوح لأهالي الحي”، قائلاً: “في البناية التي أسكنها، وهي مكونة من خمسة طوابق، نزح الجميع منذ الضربة الأولى في الحي، ولم يتبقِ في البناية إلا أنا وعائلتي”، رافضاً مغادرة المكان “حتى لو وصل الأتراك إلى باب شقتي”، بحسب قوله.
بعد أيام من نزوح عائلة العليوي -الذي قتل بالقصف- إلى الأراضي الزراعية، عادوا إلى منازلهم في العاشر من هذا الشهر، أي بعد إعلان انتهاء المرحلة الأولى من العملية التركية، وهذا لا ينفي تخوفهم من القصف، الذي “ربما يتجدد مرة أخرى، لكن لا يمكننا البقاء في الأراضي الزراعية”، بحسب أبو عدي.
ألحق التصعيد التركي أضراراً بالغة جداً في قطاع الكهرباء والمياه والمحروقات. في القحطانية حيث يقيم أبو عدي، ما تزال الكهرباء مقطوعة منذ أكثر من أسبوع، مشيراً إلى أن شركة الكهرباء أمنت لهم مولدة بديلة عن التي دمرها الطيران التركي، في التاسع من هذا الشهر، لكن “بعد أقل من 24 ساعة قطع التيار الكهربائي، وما يزال مقطوعاً لعدم توفر المحروقات اللازمة لتشغيل المولدة”، بحسب قوله.
وفي عامودا، انقطعت الكهرباء كلياً، إضافة إلى توقف عملية ضخ مياه الشرب، “بسبب تدمير محطات الضخ وعدم توفر المحروقات”، وفقاً لعدنان.
ينعكس تضرر الواقع الخدمي على “الحركة الاقتصادية، التي شُلت”، بحسب عدنان، مشيراً إلى أن “الناس تحاول توفير نقودها، ولا تشتري إلا الضروريات تحسباً للأسوأ”.
تقاذف للتهم؟
تذرعت تركيا بهجومها على شمال شرق سوريا، أن منفذي عملية أنقرة تسللوا على أراضيها من مناطق سيطرة “قسد”، في سوريا، لكن الناطق باسم لواء الشمال الديمقراطي، محمود حبيب، قال أن “في الرواية التركية نقاط ضعف كثيرة”، وما هي إلا “اتهامات تتذرع بها لبدء الهجوم”.
وأضاف حبيب: “من المستحيل أن ينتقل أشخاص يحملون السلاح والمتفجرات من مناطقنا باتجاه تركيا، لأن الشريط الحدودي محصن بجدار عازل، وهذا الجدار مزود بنقاط مراقبة وكاميرات حرارية، ومن يقترب منه يتعرض لإطلاق النار”.
وفي تصعيدها الأخير، الذي استخدمت تركيا فيه المقاتلات الحربية لضرب أهداف في شمال شرق سوريا، “كسرت اتفاقيات وقف إطلاق النار الموقعة في العام ٢٠١٩ مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا”، بحسب حبيب، معتبراً أن على قوات التحالف “التدخل لوقف هذه الجريمة النكراء”.
رداً، على ذلك، قال محلل السياسة الخارجية والأمن التركي، عمر أوزكيزيلجيك، أن قوات بلاده “تستهدف الموارد المالية لوحدات حماية الشعب، وتحاول تقليص نظامها المالي في سوريا”، عازياً استهداف المنشآت النفطية إلى أن “نحو 75% من موازنة ما يسمى بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا تأتي من عائدات النفط”.
وشبه أوزكيزيلجيك، في حديثه لـ”سوريا على طول”، الاستراتيجية التركية، بالاستراتيجية التي اتبعها التحالف الدولي لتجفيف موارد تنظيم الدولة، متوقعاً “استمرار الغارات الجوية التركية وضربات الطائرات المسيرة، لكن مع انخفاض في وتيرتها”.
في شمال غرب سوريا، قال جلال الدين الحموي، قائد عسكري في هيئة تحرير الشام، أن “اتهام إدلب بتفجير الكلية الحربية، هو تبرير لحملة هستيرية يقوم بها النظام على المدن والقرى، بهدف إبقاء حاضنته الشعبية في حالة تأهب، وإيهامها أنها في خطر”.
واعتبر الحموي في حديثه لـ”سوريا على طول” أن النظام يرمي من افتعال حادثة الكلية الحربية إلى “صرف أنظار الموالين عن المشاكل الكبيرة التي يعانون منها، بعد بيع الأسد لجميع مقدرات وثروات سوريا للمحتلين”، مشيراً إلى أن “غرفة عمليات الفتح المبين، بدأت بالرد المباشر والقوي على مصادر النيران واستطاعت تدمير معظمها”.
“ندفع ثمن صراعهم”
في شمال غرب سوريا، استهدف القصف: تسع مدارس، مبنى مديرية التربية، خمسة مساجد، أربعة أسواق شعبية، خمسة مستشفيات، أربعة مراكز للدفاع المدني، محطة توليد طاقة كهربائية، وثلاث مزارع لتربية الدواجن، بحسب المصطفى، نائب مدير الدفاع المدني.
أما في شمال شرق سوريا، استهدفت تركيا خلال تصعيدها الأخير “نحو 55 منشأة تنوعت ما بين محطات نفط وغاز وكهرباء وأفران ومؤسسات في محاولة لضرب وتدمير إمكانية العيش ضمن هذه المناطق”، وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان.
من جهته، قال الناطق باسم لواء الشمال الديمقراطي، محمود حبيب، أن أنقرة “استهدفت 209 موقعاً، توزعت الضربات من ديريك شرقاً حتى ريف حلب الشمالي”، وفقاً للناطق باسم لواء الشمال الديمقراطي، محمود حبيب، منها “28 موقعاً للبنى التحتية، 136 مواقعاً سكنياً، سبعة أراضي زراعية، ثلاثة معامل صناعية، ومدرسة ومستشفيين، إضافة إلى 33 موقعاً عسكرياً بينها 20 موقعاً للقوات الحكومية”.
وبحسب أرقام “قسد”، تعرضت المنطقة لنحو 288 ضربة، منها 207 بالمدفعية والأسلحة الثقيلة، 25 ضربة بالطيران الحربي، و56 ضربة بالطائرات المسيرة”، كما أوضح حبيب.
التركيز على استهداف المنشآت الحيوية في شمال شرقي البلاد وغربها، من قبل تركيا والنظام السوري، وتعمد الأخير استهداف المدنيين بشكل مباشر، يحول حياة المدنيين إلى “جحيم”، ويجعلهم ورقة بيد الطرفين للضغط على الخصوم.
ومن مكان إقامته في عامودا، أرسل عدنان تسجيل فيديو لـ”سوريا على طول”، يقول فيه: “الله لا يعمر بيت جماعتنا [الإدارة الذاتية] الذين قاموا بعملية أنقرة وورطونا بهذه الحرب”، مؤكداً أن “الشعب غير راضٍ عن هذه العملية، ويسب الطرفين، نحن كلنا ضحايا في هذا الصراع بين حزب العمال وتركيا”.
اتفق مع ذلك أبو عدي، قائلاً: “المدنيون ضحية صراع كل الأطراف في سوريا، نحن ندفع ثمن صراعهم”، مضيفاً: “الطبيب محمد العليوي، كان رجلاً مسالماً خلوقاً لم يتدخل في الحرب، لكنه دفع ثمن صراعهم”.
رداً على ذلك، رفض حبيب، من لواء الشمال الديمقراطي، تصوير “قسد” على أنها طرف في إلحاق الضرر بحياة السكان.
لا تختلف مشاعر العديد من الأشخاص في شمال غربي البلاد عن شرقها، “إذا ضرب أحدهم رصاصة على النظام، فإنه يرد بقصف المدنيين، ليس ذنبنا ما حصل في الكلية الحربية”، قال أنور الديك متسائلاً باستنكار: “هل المدنيون من أطلق الصواريخ؟ هل أملك أنا وأطفالي صواريخ ومسيرات حتى يضربنا بصواريخه؟!”.
وأضاف الديك: “منذ سمعت خبر استهداف الكلية الحربية، عرفت أن النظام سوف يقوم باستهدافنا في إدلب، أنزلت أطفالي إلى القبو، ونبهت عليهم أن لا يخرجوا ومن ثم خرجت للعمل”.
في إدلب، لم يقتصر الأمر على قصف محدد، وهو ما تشير إليه أرقام الضحايا المدنيين مقارنة بشمال شرق سوريا، لدرجة أن عدة مدن وبلدات في شمال غرب البلاد “صارت شبه فارغة من سكانها بعد التصعيد الأخير، مثل: جسر الشغور، أريحا، مجدليا، وبزابور”، بحسب المصطفى، نائب مدير الدفاع المدني.
وأضاف المصطفى: “إلى جانب الهجمات الصاروخية وآلاف القذائف، نفذ النظام أربعة هجمات بقذائف فوسفور حارقة، وهجوماً بالذخائر العنقودية، وستة هجمات بغارات جوية”.