8 دقائق قراءة

عين العرب (كوباني): ركود سوق العقار وإقبال على الهجرة بحثاً عن الأمان

منذ عام 2019 حتى الآن، خسرت العقارات في عين العرب (كوباني) نحو 50 بالمئة من قيمتها، نتيجة التهديدات التركية للمناطق الواقعة تحت سيطرة "قسد"، وتراجع الطلب على العقارات مقابل ازدياد العرض.


بقلم سلام علي

30 أبريل 2024

أربيل- منذ ثمانية أشهر يحاول بوزان شيخو، 44 عاماً، بيع عقاراته في مدينة عين العرب (كوباني)، الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، شمال سوريا، لتمويل هجرته إلى أوروبا، لكنه لم يجد مشترياً رغم تخفيض سعرها، ويخشى أن يضطر إلى بيعها في نهاية المطاف بـ”رخص التراب”.

يملك شيخو محلين تجاريين، أحدهما يقع في أحد شوارع “كوباني” الرئيسية، تبلغ مساحته 12 متراً، عرضه للبيع باثني عشر ألف دولار أميركي، بينما يُقدر سعره قبل عام 2019 بحوالي 22 ألف دولار، بينما تبلغ مساحة الآخر 25 متراً لكنه يقع في شارع فرعي، فطلب به عشرة آلاف دولار بينما سعره في الواقع 15 ألف دولار، كما قال لـ”سوريا على طول”.

اضافة إلى ذلك، يملك شيخو هكتار أرض (عشرة دونمات) في ريف “كوباني”، عرضها هي الأخرى للبيع بخمسة آلاف دولار، بينما كان سعرها قبل عام 2019 بنحو تسعة آلاف دولار.

شهد سوق العقار في “كوباني” تحسناً نسبياً إبان طرد تنظيم داعش في عام 2015، لكنه عاد إلى التراجع في “كوباني” منذ عملية نبع السلام، التي أطلقتها تركيا بمشاركة الجيش الوطني (المعارض) ضد “قسد”، في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وانتهت بسيطرة القوات المهاجمة على رأس العين في محافظة الحسكة وتل أبيض في محافظة الرقة.

ومع استمرار التهديدات التركية ضد “كوباني”، التي تعرضت للقصف مراراً وتكراراً، آخرها في الثالث من الشهر الحالي، وفي ظل الحديث عن أن المدينة ضمن أهداف أنقرة في عملية “مخلب-السيف” التي أعلنت عنها في أواخر 2022، صار حلم الهجرة إلى أوروبا يراود العديد من سكان المدينة.

وعلى خطى شيخو، عرض العديد من سكان كوباني عقاراتهم للبيع، كما قال بركل مصطفى، صاحب مكتب عقاري في مدينة كوباني، مشيراً إلى أن لديه قائمة عقارات معروضة للبيع، منها: نحو عشرة أحواش (بيوت عربية)، و25 قطعة أرض سكنية، و15 شقة سكنية، وثلاثة محلات، جميعها لأشخاص يسعون لتأمين تكاليف الهجرة “بحثاً عن حياة أكثر استقراراً وأماناً”، لكن شكى من “تراجع حركة بيع العقارات. لم أبع أو أشتري أي عقار منذ شهرين”.

أثناء حديث مصطفى لـ”سوريا على طول” مطلع نيسان/ أبريل الحالي، سُمع صوت انفجار، ليتبين لاحقاً أنه ناجم عن استهداف مسيرة تركية لسيارة وسط المدينة، ما دفع الرجل الأربعيني إلى قطع الاتصال وهرع إلى منزله. وفي اليوم ذاته، تعرضت قرية ديكمداش غرب كوباني لقصف بقذائف المدفعية التركية، ما تسبب بدمار في بعض منازل القرية.

في اليوم التالي للقصف، عزا مصطفى -الذي بدا مستاءً من حال مدينته- تراجع سوق العقار إلى “التهديدات التركية، وانسحاب القوات الأميركية من كوباني عام 2019”.

نصف السعر

“يخلق القصف والتهديدات التركية حالة خوف لدى السكان”، لذلك “لا يغامر أحد بشراء عقار في كوباني نظراً لضبابية مصيرها، بينما تتزايد عروض البيع من أشخاص في سبيل الهجرة”، وهو ما يعرف تجارياً بـ”زيادة العرض مقابل تراجع الطلب، وهذا بدوره يؤدي إلى تراجع الأسعار”، بحسب مصطفى.

أشار مصطفى إلى أن تجارة العقارات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتهديدات الخارجية، “فبما إن تتعرض كوباني لقصف تركي حتى تتوقف عمليات البيع والشراء كلياً لثلاثة أشهر على الأقل”.

منذ عام 2019 حتى الآن، خسرت العقارات نحو 50 بالمئة من قيمتها، بينما الأبنية التي تأثرت بزلزال شباط/ فبراير 2023، الذي ضرب شمال سوريا وجنوبي تركيا، خسرت من 65 إلى 70 بالمئة من قيمتها، بحسب مصطفى.

قبل 2019، وصل سعر المتر المربع الواحد للعقارات السكنية في بعض الشوارع إلى 200 دولار، بينما يبلغ سعره حالياً 75 دولاراً أو أقل، وهذا الفرق غير مرتبط بتدهور سعر الليرة السورية، أما بالنسبة للأراضي خارج المخطط التنظيمي، القريبة من المدينة، كان سعر مترها المربع يتراوح بين 25 و60 دولاراً، بينما سعرها حالياً يتراوح بين 5 و20 دولاراً “ومع ذلك الطلب عليها قليل”، بحسب مصطفى، واصفاً العقارات بـ”الميتة”.

أما الأسعار سعر المتر المربع للعقارات في وسط المدينة كانت تتراوح بين 700 و800 دولار، لكن انخفض سعرها إلى 350 دولار للمتر المربع، رغم أن هذه العقارات “ممتازة من حيث الموقع”.

ولفت مصطفى إلى أنه، كما أقرانه من أصحاب المكاتب العقارية، كانوا يبيعون الأراضي والعقارات بعد أيام من شرائها وبـ”أرباح جيدة”، بينما اليوم لا يجد راغباً لأرضٍ اشتراها منذ عدة أشهر بهدف التجارة، وفي حال وجد زبوناً “سوف أخسر بها لأن الأسعار انخفضت”.

ومع فقدان العقارات لقيمتها وتراجع سوقها، خسر مصطفى هامشاً كبيراً من أرباحه، إذ كانت تصل نسبة أرباحه من شراء بعض العقارات وبيعها إلى 30 بالمئة من قيمة العقار، بينما حالياً لا تتجاوز نسبة الأرباح عشرة بالمئة بالنسبة للعقارات التي يشتريها بحسب السعر السائد حالياً، أما نسبة عمولة الوساطة بين البائع والمشتري فهي واحد بالمئة من الطرفين، على حد قوله.

ومع أن نسبة أجور المكتب العقارية ثابتة لم تتغير، إلا أن انخفاض أسعار العقارات إلى النصف يعني أن نسبة مصطفى انخفضت إلى النصف أيضاً. بينما كان يحصل على 200 دولار من كل طرف، كنسبة “سمسرة” على بيع شقة قيمتها الحقيقية 20 ألف دولار، صار يحصل على 100 دولار من كل طرف من أطراف عملية البيع (البائع والمشتري).

وأوضح مصطفى أن عمليات شراء العقارات، التي تشهدها “كوباني” حالياً، هي لأبناء المنطقة من المغتربين في أوروبا وتركيا، والطلب على العقارات من هؤلاء “قليل” رغم الانخفاض الكبير في الأسعار.

انعكس ركود العقارات في “كوباني” على مهن البناء ولوازمها، التي شهدت ركوداً هي الأخرى، كما قال فاضل شاهين، 28 عاماً، الذي يعمل في قطاع الإنشاءات لـ”سوريا على طول” من مكان إقامته الحالي في ليبيا.

بين عامي 2016 و2019، ازدهر سوق العقارات والإنشاءات في “كوباني”، التي شهدت آنذاك حركة بناء نشطة، وكان هذا القطاع يدرّ دخلاً جيداً على شاهين آنذاك، لكن أعمال البناء تراجعت بعد عام 2019، في أعقاب الهجوم التركي لمدينتي رأس العين (سري كانيه) وتل أبيض، وفقاً لشاهين.

اقتصر عمل شاهين بعد العملية التركية على عمليات الترميم وصيانة المباني، وهو حال غالبية ورشات البناء في “كوباني”، التي صارت تعمل بـ”الحد الأدنى”، إلى أن “توقفت بشكل شبه كامل بعد عام 2021، بسبب تزايد التهديدات التركية لكوباني”، وهو ما دفع السكان إلى “التريث وإيقاف عملية البناء والترميم”، بحسب شاهين، الذي قرر مغادرة البلاد إلى ليبيا.

التهديدات مستمرة

في أعقاب تفجير إسطنبول، أواخر 2022، أعلنت السلطات التركية أن منفذة الاعتداء مواطنة سورية، تعمل لصالح حزب العمال الكردستاني (التركي)، تلقت تعليماتها من “كوباني”، الواقعة تحت سيطرة “قسد”، التي تصنفها أنقرة على قائمة الإرهاب، أعقب هذه التصريحات غارات جوية استهدفت مناطق حدودية في شمال شرق سورية، كانت أعنفها على “كوباني”.

واصلت أنقرة تهديداتها سواء بالتصريحات الرسمية أو بالعمليات العسكرية ضد أهداف في شمال شرق سوريا، بما في ذلك “كوباني”. في 18 آذار/ مارس الماضي، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه قواته ستؤمن حدود بلاده مع العراق بالكامل “وسنكمل حتماً ما تبقى من أعمالنا في سوريا”.

وفي مطلع العام الحالي، قال أردوغان في أعقاب اجتماعه مع حكومته: “لن نتوقف حتى ندمر كل أوكار الإرهابيين التي أقيمت بنوايا خبيثة في سوريا، من تل رفعت إلى عين العرب ومن الحسكة إلى منبج”.

في السابع من الشهر الجاري، قال المتحدث باسم “قسد”، فرهاد الشامي، للقناة الثامنة (مؤسسة إعلامية مركزها في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق)، أن “الحكومة التركية تخطط لمهاجمة المنطقة المحيطة بكوباني في الصيف المقبل”، ولأجل ذلك تنوي تركيا “تنفيذ هجوم بري في المناطق الواقعة بين كري سبي [تل أبيض] وجرابلس لتقترب من كوباني”. تهدف أنقرة من السيطرة على “كوباني” إلى ربطها بمناطق “درع الفرات” و”نبع السلام”، وذلك لإطالة “الاحتلال التركي” في الداخل السوري، بحسب “قسد”.

الوضع الأمني “الهش” والمخاطر المحدقة بـ”كوباني”، دفعت عادل رمو، 55 عاماً، إلى بيع أرض سكنية مساحتها 200 متر مربع بعشرة آلاف دولار، رغم أن سعرها وصل إلى 20 ألف دولار قبل عام 2019، كما قال لـ”سوريا على طول”.

قرر رمو التفريط بأرضه، في تموز/ يوليو 2023، لأجل تأمين تكاليف هجرة أحد أبنائه، البالغ من العمر 19 عاماً، إلى ألمانيا. العقارات هي “الورقة الأخيرة” التي يستخدمها العديد من السوريين لتأمين تكاليف السفر.

المدخل الجنوبي لمدينة عين العرب(كوباني)، 08/ 04/ 2024، (سوريا على طول)

بعد بيع أرضه بأشهر، باع رمو سيارته بخمسة آلاف دولار، لتمويل تكاليف هجرته هذه المرة، معللاً سبب اتخاذ قرار الهجرة بـ”التهديدات التركية وقصفها المتكرر للمنطقة، إضافة إلى تدهور الوضع المعيشي في كوباني”.

حاول رمو عبور الحدود إلى تركيا أكثر من مرة بنية مواصلة رحلته إلى أوروبا، لكن في كل المحاولات ألقى الأمن التركي القبض عليه ورحّله إلى سوريا، مشيراً إلى أن “هذه المحاولات كلفتني أربعة آلاف دولار دفعتها للمهربين”.

يعلم رمو أن رحلته محفوفة بالمخاطر، لا سيما عبور البحر من تركيا إلى أوروبا، حيث قضى العشرات من شبان “كوباني” أثناء محاولات الهجرة إلى أوروبا، لكن أمام الظروف الأمنية والاقتصادية التي يعيشها “سوف أبحث عن فرصة مناسبة ولن تتوقف محاولاتي حتى أصل إلى أوروبا”، على حد قوله.

وبينما فشل رمّو في الهجرة، تمكن فاضل شاهين، من الوصول إلى ليبيا، وهي محطته الثانية التي ينوي الانتقال منها إلى أوروبا، كما أوضح لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أنه ينوي ركوب مياه البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى أوروبا أملاً بأن تكون محطته الأخيرة “في ألمانيا أو بريطانيا”.

في مطلع العام الحالي، سافر شاهين من “كوباني” إلى لبنان بطريقة غير شرعية، وفيها حصل على جواز سفر من السفارة السورية في بيروت، وبعدها سافر إلى ليبيا، مكان تواجده الحالي.

تراجع الوضع المعيشي وحركة الهجرة الجماعية من “زملاء عمل وأصدقاء وجيران”، دفعت شاهين للهجرة، ومن أجل تأمين تكاليفها باع منزله، مساحته 160 متراً مربعاً، الكائن في حي بوطان غربي بمدينة كوباني، الذي كلّفه عشرين ألف دولار بنصف قيمته تقريباً، كما باع سيارته بستة آلاف دولار، ومصاغ زوجته، لتأمين تكاليف الهجرة له ولعائلته المكونة من زوجته وأطفاله.

رد بوزان شيخو على دوافع تفكيره في الهجرة بسؤال مستدركاً بالإجابة قائلاً: “ما الذي لا يدفعنا إلى الهجرة؟. لا فرص عمل، ولا يوجد عندي ثقة بمدارس ومناهج الإدارة الذاتية، وليس عندي قدرة مادية لأرسل أطفالي إلى مناطق النظام للالتحاق بمدارسه، ونعاني من ضعف الخدمات وتراجع مستواها، وخاصة الكهرباء”.

وأضاف متذمراً: “لا توجد قوانين لدى الإدارة الذاتية تشجع على الاستقرار والعمل”، ناهيك عن أزمة المحروقات التي تعاني منها “كوباني”، ويتمثل ذلك في “طوابير السيارات على محطات المحروقات، ورفع أسعار ثمن أسطوانة الغاز المنزلي من عشرة آلاف ليرة إلى عشرة دولارات تدفع بالليرة السورية”، أي بمبلغ 151 ألف ليرة تقريباً بحسب سعر الصرف الحالي في السوق السوداء شمال شرق سوريا، البالغ 15100 ليرة للدولار الواحد.

“كل فترة يُفقد نوع من المواد الأساسية في الأسواق ويرتفع سعرها”، قال شيخو، لذلك “نريد التخلص من هذا الوضع المعيشي الصعب والهجرة إلى أوروبا ليعيش أطفالنا بعيد عن هذه المصاعب”.

تعليقاً على ذلك، قال عدنان بوزان، رئيس المجلس المحلي في كوباني، التابع للمجلس الوطني الكردي: رغم أن “التهديدات التركية تتسبب بحالة من عدم الاستقرار الأمني، إلا أنه لا يمكن إغفال ممارسات سلطات الأمر الواقع من حيث المضايقات السياسية، والتقصير في تقديم الخدمات، وخطف القاصرين، ومنع التعليم المعترف به، وفرض مناهج مؤدلجة غير معترف بها” كأسباب أسهمت في الهجرة ومنعت عودة قسم الكبير من المهاجرين إلى “كوباني”. 

وأضاف بوزان في حديثه لـ”سوريا على طول” أن “إيقاف ممارسات التجويع المتعمدة من قبل سلطة الأمر الواقع، وإشراك كل المكونات السياسية والاجتماعية في إدارة المنطقة، وعدم إعطاء ذرائع للأتراك بتهديد المنطقة ومهاجمتها، وتوفير الخدمات، من شأنه أن يوقف نزيف الهجرة من كوباني”.

“وإذا كانت تركيا تتذرع بوجود كوادر من حزب العمال الكردستاني في كردستان سوريا، وهؤلاء يديرون المنطقة”، فإن رفع شعارات حزب العمال وصور أوجلان في شمال سوريا، هو “بمثابة تقديم خدمة مجانية للأتراك، ويقوي من موقفهم أمام المجتمع الدولي”، بحسب بوزان، معتبراً أن “الشعب الكردي دفع ويدفع فاتورة الصراع التركي مع حزب العمال الكردستاني”.

وسط غموض مستقبل مدينة “كوباني” الحدودية مع تركيا، يخطط شيخو على مغادرتها “قبل أن أجبر على تركها قسراً”، متأملاً أن يجد من يشتري ممتلكاته لتمويل هجرته إلى أوروبا بمفرده، ومن ثم يعمل على لم شمل العائلة “لأن ثمن ما أعرضه للبيع لا يكفي لتغطية تكاليف سفر العائلة كلها”، بحسب قوله.

شارك هذا المقال