12 دقائق قراءة

ارتدادات انفجار بيروت تهدد اللاجئين السوريين بفقدان مساكنهم

27,410 سورياً يواجهون خطر الإخلاء، فيما تم فعلياً إخلاء 4,613 فرداً. وهو ما يمثل ارتفاعاً حاداً مقارنة بالعام الماضي


4 أكتوبر 2020

بيروت- في صبيحة يوم من الشهر الماضي، عاين ميسر السليمان وزوجته حسناء سريعاً غرفة الجلوس، مستعيدين على عجل بعض الملابس والوثائق وصورةً لأحد ابنائهم. فجدران المنزل الحجرية صدعها انفجار بيروت في 4 آب/أغسطس الماضي، وبقايا خزان تتدلى من بين أنقاض السطح المتهاوي، ما يحمل نذر سقوط وشيك للسقف على رؤوسهم.

لاحقاً، أمام المنزل الواقع في حي الكرنتينا على بعد 500 متر من المستودع الذي شهد انفجار 2,700 طن من نترات الأمونيوم كانت مخزنة فيه بإهمال، محولاً المنزل إلى أنقاض، يُخرج ميسر ورقة نفيسة من جيبه: إيصال يحمل وقت وتاريخ موعد فحص الحمل لزوجته، الحادية عشرة من صباح يوم 4 آب/أغسطس، في مستشفى على الجانب الآخر من المدينة. 

يومها استغرقت المراجعة الطبية أكثر مما توقعت العائلة. وبعدها قرروا تناول الغداء في وقت متأخر في منزل الزوجة حسناء القريب من المستشفى، منتهين من ذلك في الساعة السادسة مساء، أي قبل الانفجار بدقائق. “لو أننا لم نزر المستشفى ومن ثم نتناول الغداء في منزل شقيق زوجتي، لكنا جميعاً في عداد الموتى”، قال ميسر، البالغ اثنين وأربعين عاماً واللاجئ من ريف محافظة دير الزور شرق سوريا، لـ”سوريا على طول”.

لكن رغم أن الانفجار لم ينل من أجساد أفراد هذه العائلة السورية، فلم يصبهم خدش، لكن الزلزال الصامت الذي هزهم كان الطلب منهم إخلاء منزلهم. 

يعمل ميسر الذي لجأ وأسرته إلى لبنان العام 2016، في تنظيف المنازل بأجر يومي مقداره 20,000 ليرة لبنانية (نحو 13 دولاراً بسعر الصرف الرسمي، و3 دولارات بسعر السوق الموازي). لكن الأب لستة أولاد وينتظر ولده السابع بعد أقل من شهر، بلا عمل منذ عدة أشهر، واصفاً حال الأسرة بالقول: “نحن جائعون. لا نملك حتى ثمن الزيت، وأحياناً يبحث الأطفال عما يأكلونه في القمامة. إنهم منهارون نفسياً”.

وقد تخلف ميسر عن سداد إيجار منزله منذ سبعة أشهر(400,000 ليرة شهرياً)، كان خلالها صاحب المنزل “صبوراً”، كما ذكر. إذ رغم أنه طالب الأسرة بإخلاء المنزل قبل الانفجار، فإن ذلك لم يحدث فعلياً. لكن بعد أن تهاوى المنزل وصار متاهة من الأنقاض، أصبح الإخلاء أمراً واقعاً لا مفر منه. لقد “تدمر المنزل. وحتى لو كان إصلاحه ممكناً، فإن مالكه لن يسمح لنا بمواصلة العيش هنا”، كما قال ميسر.

وقد انتقلت العائلة للعيش مؤقتاً مع عائلة شقيق حسناء بضواحي بيروت، حيث “نجلس جميعنا في غرفة واحدة”، كما اشتكى الأب بمرارة، معتبراً أنه “حتى الفئران تعيش أفضل منا”. 

ارتفاع معدلات إخلاء السوريين من مساكنهم

كشف انفجار بيروت عن الحالات المتصاعدة لإخلاء المنازل، خلال العام الحالي، في أوساط الأسر السورية المقيمة في لبنان. إذ بحلول منتصف العام الحالي، كان 27,410 سورياً يواجهون خطر الإخلاء، فيما تم فعلياً إخلاء 4,613 فرداً. وهو ما يمثل ارتفاعاً حاداً مقارنة بالعام الماضي، حين بلغ عدد السوريين الذين تلقوا إشعاراً بإخلاء منازلهم 8,649 شخصاً، فيما مسّت عمليات الإخلاء الجماعي 4,409 أفراد، بحسب أرقام الأمم المتحدة.

في السنوات الماضية، كان يتم تنفيذ إخلاء اللاجئين السوريين من قبل السلطات اللبنانية لقضايا أمنية أو بيئية، على نحو ما حدث، مثلاً، في رياق حيث توجد قاعدة جوية، أو مخيمات اللاجئين المحاذية لنهر الليطاني. أما هذا العام، فقد ازدادت عمليات الإخلاء في أوساط السوريين الذين لم يعد بإمكانهم تسديد إيجار مساكنهم.

ومنذ تفشي وباء كورونا المستجد (كوفيد-19)، فقد 90% من السوريين في لبنان مصدر رزقهم، أو انخفضت مداخيلهم، فيما بات 76% من المقيمين في منازل منفصلة غير قادرين على دفع الإيجار، وصولاً إلى 81% في حالة أولئك الذين يعيشون في ملاجئ جماعية، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة

وبحسب منسقة الحماية وسيادة القانون في منظمة لجنة الإنقاذ الدولية، ناتشا ساكس، فإن انفجار بيروت سيفاقم مكامن الضعف الاقتصادية الاجتماعية الموجودة سابقاً، إذ نتوقع ازدياد في نسبة أولئك المعرضين لخطر الإخلاء”. مضيفة في تصريح لـ”سوريا على طول”، أن “من المتوقع لجوء البعض إلى مساكن بإيجار أرخص أو الانتقال إلى مخيمات عشوائية. 

علاوة على ذلك، تم إخلاء بعض الأسر من خيمهم المقامة ضمن مخيمات العشوائية. وكان المجلس النرويجي للاجئين قد توسط  في حالة شاب سوري يبلغ من العمر 32 عاماً، ويعيش في مخيم بوادي البقاع طُلِب منه الإخلاء. إذ لم يكن  بمقدور “م. م” سداد الإيجار السنوي البالغ 800,000 ليرة لبنانية بعد أن فقد عمله في البناء منذ قرابة عشرة أشهر، يضاف إليها ما مجموعه 700,000 ليرة ديناً لمحل البقالة الذي تعود ملكيته أيضاً لصاحب الأرض المقام عليها المخيم. فنظراً إلى المبالغ المستحقة غير المدفوعة، قام المالك بطرد الشاب وعائلته المكونة من ثلاثة أفراد. لكن بعد عشرة أيام من ذلك، توسط المجلس النرويجي بين الطرفين، وتم السماح للعائلة بالعودة شريطة الالتزام بسداد الديون المستحقة عليها على أقساط. 

“فرصة” الانفجار

نسف انفجار بيروت الجدار الفاصل بين مسكن فاطمة (اسم مستعار) المكون من غرفة واحدة، وغرف منزل مالكة المسكن الواقع في حي الكرنتينا، ما أجبر فاطمة الحامل في شهرها التاسع، وزوجها وابنهما ذو السبعة أعوام، على المغادرة لأجل ترميم مسكنهم من قبل منظمة غير حكومية. لكن ما لبثت المالكة أن أخبرتهم أنها لا تريد عودتهم. علماً أن “صاحبة المنزل كانت لطيفة معي، وكانت علاقتنا جيدة جداً”، كما قالت فاطمة البالغة 29 عاماً، واللاجئة من محافظة الرقة شرق سوريا، لـ”سوريا على طول”. 

ورغم كون مبلغ 600,000 ليرة لبنانية الذي يتقاضاه زوج فاطمة من عمله سائق شاحنة في مرفأ بيروت ضئيلاً، فقد كان كافياً لتسديد إيجار الغرفة البالغ 400,000 ليرة. لكن “مع الوضع القائم نتيجة انتشار فيروس كورونا، لم نستطع الدفع لثلاثة أشهر، قبل أن نعاود ذلك، إنما على أقساط”، كما أضافت. وهم يقيمون حالياً في منزل شقيق فاطمة، الواقع أيضاً في حي الكرنتينا. 

على بعد بضع مبان، تجلس وعد ياسين الحريري البالغة من العمر 28 عاماً، في غرفة المعيشة في مسكنها، يعتريها القلق من أن المنزل الذي يضمها وأسرتها الآن، سيضطرون إلى إخلائه قريباً. إذ “منذ يومين”، كما قالت الأم  لثلاثة أبناء لـ”سوريا على طول”، “أتى مالك المنزل وأخبرنا أنه لا يريد إيجار شهر أيلول/سبتمبر، لأنه يريدنا أن نخرج في نهاية الشهر”. مضيفة: “صدقاً لم نتوقع طرده لنا بهذه الصورة”.

رضا الحريري، زوج وعد ياسين الحريري، يحمل ابنه في  شقتهم في حي الكرنتينا ببيروت، 9/ 9/ 2020 (سوريا على طول)

وكان المنزل قد تأثر بالانفجار، وقامت منظمة غير حكومية بإصلاح أبوابه ونوافذه. وتعيش العائلة اللاجئة من محافظة درعا، جنوب سوريا، في هذا المسكن منذ أربعة أعوام. وكانت قد أجرت منذ ثلاث سنوات بعض الإصلاحات في الحمامات والنوافذ من خلال معونة نقدية قدمتها الأمم المتحدة، و”اشترينا سخّان مياه”، بحسب وعد التي يعمل زوجها منذ ستة عشر عاماً في مرفأ بيروت وسوق السمك. الآن، وعلى حين غرة، يخبرهم صاحب المنزل أن ابنته تريد أن تعيش هنا، “فأين نذهب نحن؟” تساءلت وعد.

لكن فاطمة ووعد ليستا حالتان فريدتان. فقد كشف المجلس النرويجي للاجئين عن عشرين حالة لأسر سورية لاجئة تعرضت لخطر التهديد بالإخلاء بعد انفجار آب/أغسطس الماضي، في حيي الكرنتينا ومار مخايل وحدهما. وأعربت ليانا بادامو، مسؤولة المعلومات والاستشارات والمساعدة القانونية في المجلس عن قلقها من أن “بعض المالكين ربما يريدون ترميم وتجديد أبنيتهم بأنفسهم أو بمساعدة المنظمات غير الحكومية، وهذا ما قد يؤدي إلى زيادة الإيجار، فيعجز المستأجرون عن دفعه ويُطردون”.

“لا ينبغي استغلال الانفجار لإخراج المستأجرين”، كما شددت نادين بكداش، المؤسسة المشاركة لاستديو أشغال عامة، المصنف شركة مدنية غير تجارية، تُعنى بقوانين الإيجار والسكن. موضحة أن الحكومة يمكن أن تفرض سياسة  تقوم على “تجديد عقود جميع أولئك المقيمين في المناطق المتضررة بالانفجار تلقائياً، لمدة خمس سنوات”. كما أيدت بكداش قيام المنظمات غير الحكومية بترميم المنازل المتضررة “شريطة إعادة ساكنيها إليها”.

وكانت الهيئة العليا للإغاثة التابعة لرئاسة مجلس الوزراء اللبناني، طلبت إلى المواطنين بعد الانفجار، تقديم  إثبات ملكيتهم للشقق والأضرار التي لحقت بها، إلى المخاتير. وأعلنت أنه يمكن للأشخاص المتضررين البدء بالإصلاحات على نفقتهم الخاصة مع الاحتفاظ بالفواتير الرسمية ليتم سدادها لاحقاً. ووفقاً لبادامو، فإنه في حين بدأ البعض ترميم منازلهم، “ما يزال آخرون مترددين وينتظرون زيارة الجيش اللبناني لهم، ليتأكدوا من إمكانية إظهار الأضرار”. وهو ما أكد عليه فضل فقيه، المدير التنفيذي للمركز اللبناني لحقوق الإنسان، إذ إن “المالكين يخشون إصلاح منازلهم، ولاحقاً عدم دفع الحكومة لهم. لذلك، هم ينتظرون أيضاً”. مضيفاً لـ”سوريا على طول”: “من المهم جداً تسريع هذه العملية من جانب الحكومة حتى يتمكن الناس من معرفة آليتها”.

وبحسب فقيه، فإنه في حال عدم قدرة المالك على تحمل نفقات إصلاح المنزل، فليس أمام المستأجر سوى “خيار وحيد، هو استرداد ما دفعه للمالك [مقدماً] والمغادرة إلى منزل آخر”. وهو ما أيدته بادامو، بأنه إذا كان من غير الممكن ترميم المنزل لما لحق به من أضرار جسيمة، فيمكن إنهاء عقد الإيجار. أما إذا  كان بالإمكان ترميمه، فإنه “يحق للمالك إجراء الإصلاحات خلال فترة زمنية معقولة، ويبقى المستأجر ملتزماً بعقد الإيجار”. مضيفةً أن عمليات الإخلاء “يجب أن تتبع إجراءات قانونية، ضمن آلية مناسبة”. لكن هذا نادر الحدوث في لبنان.

وفقاً للقانون اللبناني، إذا تخلف المستأجر عن الدفع لمدة ثلاثة أشهر، يحق للمالك رفع دعوى إخلاء، ويصدر القرار بشأن ذلك عن المحكمة. لكن الوضع المتزعزع للاجئين السوريين في لبنان يجعلهم “تحت رحمة المالك”، وغالباً ما يُطردون “بطرق غير قانونية”، وفق بكداش.  

إذ يقيم 88% من اللاجئين السوريين في لبنان بشكل غير قانوني. بمعنى أن وجودهم هناك بحد ذاته مٌجرَّم، وليكونوا معرضين لخطر الاعتقال على الدوام. لهذا، حين يُهدَّدون بالإخلاء، فإن قلة بينهم فقط تتجرأ على الشكوى لذات السلطات التي يخشونها. وكما أوضح فقيه: “هم أصلاً يخافون من اتصال المالك بالشرطة لأنهم لا يملكون أوراق [إقامة] قانونية، ما قد يُقحِمهم في مشاكل أخرى. ومن ثم، فإنهم يؤثرون الامتثال لما يطلبه المالك”.

فضلاً عن ذلك، فإن معظم السوريين لا يملكون عقد إيجار خطي. لكن هذا لا ينفي أن “العقود الشفوية مُلزِمة أيضاً بموجب القانون في لبنان”، بحسب ساكس. مستدركة بأن “غالبية عمليات الإخلاء التي نراها لا تتبع أي إجراءات رسمية”. 

ميسر يسير في غرفة الجلوس بمنزله المدمر في حي الكرنتينا ببيروت، 9/ 9/ 2020 (سوريا على طول)

وكان المركز اللبناني لحقوق الإنسان قد أنشأ خطاً ساخناً للمستأجرين والمالكين ممن ترتبت عليهم قضايا قانونية إثر الانفجار. كما لدى لجنة الإغاثة الدولية فريق من المحامين يتوسطون بين الأسر المستأجرة والمالكين، ويقدمون مساعدات نقدية طارئة لإرجاء دفع مستحقات الإيجار. فيما يقدم المجلس النرويجي للاجئين استشارات بخصوص حقوق السكن، بالإضافة إلى مبلغ نقدي لدفع الإيجار لأولئك المهددين بالإخلاء. وخلال الفترة الممتدة ما بين آذار/مارس وحزيران/يونيو 2020، توسط فريق النهج التعاوني لفض النزاعات، التابع للمجلس النرويجي للاجئين، في 127 حالةً، بما أدى إلى منع الإخلاء في 69% من الحالات.

صراع البقاء في بيروت

يخشى الخبراء أن تؤدي عملية إعادة الإعمار التالية لانفجار مرفأ بيروت إلى نتائج مشابهة لتلك التي أعقبت الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990)، لاسيما إعادة إعمار وسط بيروت من قبل شركة سوليديرالعقارية، التي كان يملكها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري وعائلته فيما بعد؛ أي أن تغدو بيروت مدينة بمبان مضيئة راقية، لكن لا طاقة لسكانها على تحمل تكلفة العيش فيها.

إذ عبرت منى فواز، أستاذة الدراسات والتخطيط الحضري في الجامعة الأميركية ببيروت عن خشيتها “من تكرار النمط نفسه [في الأحياء المدمرة بانفجار المرفأ] الذي اتبعته شركة سوليدير، والذي يتجلى بشراء المستثمرين للشقق لادخار رأس المال، عوضاً عن الانتفاع من هذه الشقق لتكون سكناً أو أماكن عمل”. متوقعة “قيام جهات متفرقة بشراء المباني واحداً تلو الآخر”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، إلى أن تصبح مصفوفة من “المباني المهجورة المجمدة كأصول عقارية بانتظار تغير في الاقتصاد يُحوِّل ما اشتروه إلى أرباح”. أما في الوقت الحالي، وسواء كان ساكنوا تلك المباني لاجئين أم لبنانيين أم عمالة مهاجرة، فإنهم جميعاً سيُطردون”، بحسب ما حذرت فواز.

وقد سلط الانفجار الضوء على قضية الإخلاء المزمنة في بيروت. وهي عملية “كانت وما تزال قاسية على السكان، كون البقاء في بيروت أشبه بصراع يومي”، بوصف بكداش. وأن تكون نسبة عشرين بالمئة من مباني بيروت خالية، هو واقع “غير مقبول”، برأي هذه المصممة المعمارية التي تدعو إلى فرض ضرائب على الشقق الشاغرة ووضع سقف للإيجارات يمكن تحمله من قبل سكان بيروت الذين يعيشون في فقر مدقع واقتصاد مترد.

وفيما كانت الأمم المتحدة حذرت من أن 50% من السكان في لبنان قد يعجزون عن تأمين الاحتياجات الغذائية الأساسية نتيجة الانهيار الاقتصادي، أشارت فواز إلى أن “التحدي الأساسي هو الفقر الجماعي”. لافتة إلى أنه فيما يعود العديد من العمال المهاجرين إلى أوطانهم جراء الأزمات، فإن “اللاجئين لا يستطيعون العودة إلى ديارهم، بحيث يصبحون عالقين في مجتمع يُجرِّم وجودهم، وأعمالهم قد تصل إلى مستوى العبودية”. 

في المقابل، أصبح بعض أصحاب العقارات الصغيرة أسرى دوامة الانهيار الاقتصادي، ويعتمدون أكثر فأكثر على الإيجار المتأتي من تلك العقارات. وهذا الضغط المتزايد “على الملاك أنفسهم ليضمنوا مستحقاتهم من الإيجار، ربما أدى إلى زيادة عمليات الإخلاء بصورة لم نرها من قبل”، برأي ساكس. لافتة إلى حسن استضافة  مالكين لبنانيين في السنوات السابقة؛ إذ كان “العديد من الناس يمكثون في منازلهم الحالية (المستأجرة) وعليهم عدة دفعات إيجار متأخرة، وكثيراً ما كان المالكون يقبلون تأجيل دفع الإيجار أو تخفيضه”. 

لكن الكارثة الاقتصادية التي “تعتصر” المجتمع، ومعدلات الإخلاء المرتفعة، هي “أعراض لمرض أكبر يتمثل في الانهيار الاقتصادي-الاجتماعي وضعف شبكة الأمان الاجتماعي”، أضافت ساكس. 

في السياق ذاته، تدعو بكداش إلى برنامج يقوم على عدم دفع الملاك الفقراء الضرائب “مقابل تقديمهم سكناً بإيجارات معقولة”. فيما رأت فواز أن “الاستجابة الرئيسة يجب أن تشمل [برامج] النقد مقابل العمل، وتدابير الحماية الاجتماعية، والمبادرات المماثلة التي تُمكن العائلات من دفع الإيجار، لاسيما وأن معظم أصحاب العقارات ليسوا أثرياء”. لكن المشكلة الرئيسة، برأيها، أن “الهيئات التنظيمية العامة لا تُظهر اكتراثاً [بهذا الشأن]”.

ارتدادات أبعد من بيروت

عبد المنعم وزوجته ربيعة يقفان على شرفة شقتهما في مدينة حلبا بقضاء عكار، شمال لبنان، 14/ 9/ 2020 (سوريا على طول)

على بعد مائة كيلومتر إلى الشمال من مركز انفجار بيروت، تعاني عائلة سورية تداعيات الإخلاء. إذ لا يدري عبد المنعم وزوجته ما إذا كانت الشقة التي يقطنونها في مدينة حلبا بقضاء عكار ستبقى الشهر المقبل المنزل الذي يؤويهما وأولادهما.

قبل لجوئه وأسرته إلى لبنان قبل ست سنوات ونصف السنة، كان عبد المنعم مدرساً للغة العربية والتربية الإسلامية، فيما كانت زوجته معلمة للغة العربية، في مدرسة ثانوية بمدينة حمص. أما في لبنان، فقد تطوع الأب مع عدة منظمات غير حكومية، وعمل في صناعة العطور في بلدة مجاورة لطرابلس. 

في العام 2016، تعرض ابنه لتحرش جنسي في الشارع. وقد دفعه هذا الحدث الصادم إلى الالتجاء لمركز لدعم السوريين في قضاء الكورة (شمال لبنان)، حيث تم تقديم سكن مجاني لهم. وقد “التحق أطفالي بالمدرسة، وكانوا يمارسون نشاطات كالسباحة وكرة القدم، ويتعلمون الإنجليزية”، كما روى لـ”سوريا على طول”.

لكن في العام 2019، “أهاننا جارٌ لنا، بدوافع عنصرية”، كما أضاف الأب، عارضاً في الوقت نفسه مقطع فيديو يُظهر رجلاً يشتمهم. ولم يكن الجيران اللبنانيون يرحبون بوجود السوريين في تلك المنطقة، و”علمت أنهم عرفوا بتصويري لهم، لذا كنت خائفاً”. 

لم تفكر العائلة بالتقدم بشكوى إلى السلطات عمّا حدث، فهم لا يقيمون بشكل قانوني في البلد، و”أنا أخشى نقاط التفتيش التابعة للجيش في لبنان”، بحسب عبد المنعم. بدلاً من ذلك، انتقلت العائلة، في شباط/ فبراير الماضي، إلى مدينة حلبا. 

لكن ما إن استقروا في حلبا، ودفعت العائلة إيجار الشهر الأول للمنزل، حتى تفشت جائحة كورونا المستجد (كوفيد-19) في لبنان. وبسبب إجراءات الحظر المفروضة لاحتواء الفيروس، تنازل المالك عن إيجار شهر نيسان/إبريل. ولاحقاً خفض الإيجار من 300,000 إلى 250,000 ليرة لبنانية. ورغم أن “المالك ذو قلب طيب”، كما قال عبد المنعم، فإنه “يختنق اقتصادياً. وقد طلب منا أن نغادر ليجد مستأجرين يمكنهم أن يدفعوا”. فالمالك جندي في الجيش اللبناني، وقد تضاءل راتبه مع انهيار قيمة الليرة اللبنانية.

فقد عبد المنعم عمله منذ سبعة أشهر، لكنه ظل يدفع الإيجار حتى استنفاد مدخرات العائلة، وبحيث يترتب عليهم اليوم إيجار ثلاثة أشهر متأخرة. وقد “أخبرني [المالك] الشهر الماضي أن هذا الشهر سيكون الأخير”؛ إذ تراكمت على  الأسرة ديون مقدارها 900 ألف ليرة لبنانية. 

ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة، فإن 97٪ من الأسر السورية في لبنان يُثقل كاهلها الدين، بمتوسط مليوني ليرة لبنانية، حتى أيار/مايو الماضي.

“انظري، تحدثت إليهم لنصف ساعة وقالوا إنهم سيساعدوننا، لكنهم لا يفعلون شيئاً، قال عبد المنعم وهو يعرض هاتفه الذي يظهر إجراءه عشرات المكالمات مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وكانت الأمم المتحدة قد أبلغت الأسرة في وقت سابق من هذا العام أن المساعدة النقدية لدفع إيجار غير ممكنة في الوقت الحالي، وعرضت عليهم الانتقال إلى مأوى مشترك. وهو ما رفضه الأب في حينها، لأن المأوى كان بعيداً، كما خشية أن لا يكون مناسباً لأطفاله. أما الآن، ومع التهديد الوشيك بالإخلاء، فإن العائلة ستقبل بأي خيار. “لقد وصلنا إلى مرحلة أشعر فيها بالاختناق”، بحسب رب الأسرة الذي أصبح يتلقى علاجاً نفسياً في مركز النسيم التابع للمركز اللبناني لحقوق الإنسان.

في المقابل، يعيش شقيق عبد المنعم لاجئاً في اسبانيا. وقد التمعت عيناه حين بدأ الحديث عن بنات أخيه اللواتي أتيحت لهن فرصة تعلم الكثير، وصرن يُتقن الإسبانية. ليخفض عينيه بعد ذلك مباشرة، مشيراً إلى أطفاله الثلاثة: “نحن لا نأكل حتى ما كنا نأكله. نأكل الخبز والبطاطا والخضار، فيما لا أستطيع شراء اللحم أو الدجاج لأطفالي”.

تم إنجاز هذا التقرير ضمن مشروع “تعزيز ترسيخ النوع الاجتماعي”، والذي ينفذه “سوريا على طول” بدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية، من خلال السفارة الكندية في عمان. 

نُشر هذا التقرير أصلاً  باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.

شارك هذا المقال