14 دقائق قراءة

الأنين بصمت: مرضى السرطان في شمال سوريا تحت رحمة المعابر

يعاني مرضى السرطان في مناطق سيطرة المعارضة السورية، ومناطق سيطرة الإدارة الذاتية، شمال سوريا، من شح الأدوية والافتقار لمراكز ومستشفيات متخصصة ومتكاملة تعنى برعايتهم، وتزيد معاناتهم بسبب إغلاق المعابر الحدودية مع دول الجوار بين فترة وأخرى. يسلط هذا التحقيق الضوء على معاناة مرضى السرطان، الذين يدفعون ضريبة التراجع الكبير في المنظومة الصحية السورية.


لم يعلم محمد جلمود، 18 عاماً، أن الموت ينتظره خلف بوابات معبر باب الهوى الحدودي، عندما كان يناشد من أجل الدخول إلى تركيا لتلقي العلاج من مرض السرطان، بعد أن أغلقت أنقرة معابرها مع سوريا في أعقاب زلزال السادس من شباط/ فبراير المدمر.

“لم يتم تشخيص إصابة ابني بسرطان القولون حتى آذار/ مارس 2023، ومنذ هذا التاريخ بدأت رحلته مع العلاج الكيميائي، الذي لم يكن متوافراً بشكل مجاني بالمنطقة”، كما قال طه جلمود، والد محمد من مكان إقامته في محافظة إدلب، مقدراً تكلفة علاجه بين 18 و20 ألف دولار أميركي (245 مليون و 273 مليون ليرة سورية، بحسب سعر الصرف الحالي في السوق الموازية، البالغ 13,650 ليرة للدولار الواحد).

كان أمام طه ثلاثة خيارات؛ “معالجته في مستشفى خاص بمحافظة إدلب على نفقتنا الخاصة، أومعالجته في دمشق، وهو خيار غير ممكن خشية اعتقالي على يد قوات النظام، أما الخيار الأخير فهو علاجه في تركيا”، وفقاً لقوله.

خيار تركيا هو الأنسب، ولكن “إغلاق المعبر أعاق وجهتنا، لذا طلبنا المساعدة من شخصيات عسكرية في المنطقة”، أي شخصيات محسوبة على المعارضة السورية، وفعلاً دخل محمد الأراضي التركية قبل استئناف دخول مرضى السرطان إلى تركيا، في السادس من تموز/ يوليو 2023، بوساطة من أحد قياديي الجيش الوطني بريف حلب الشمالي، لكن لم يسمح لأخيه الدخول معه كمرافق، ما اضطره إلى “اللحاق به عبر طريق التهريب”، بحسب والده.

فور وصول محمد إلى مستشفى متخصص بمدينة كلس، جنوب تركيا، أُدخل إلى قسم العناية المركزة، لكنه “لم يستجب لجرعات العلاج الكيميائية، لأنه وصل بعد فوات الأوان، وانتهى الحال بوفاته في 16 تموز/ يوليو 2023″، وفقاً لرواية والده.

يوجد في شمال غرب سوريا حوالي 3500 مريض سرطان، منهم 608 مرضى تم تشخيص إصابتهم بعد زلزال السادس من شباط/ فبراير، أي “بمعدل 4 إلى 5 إصابات يتم اكتشافها يومياً”، وفقاً للدكتور حسين بازار، وزير الصحة في حكومة الإنقاذ، مشيراً إلى أن مرضى السرطان في مناطق نفوذ حكومته بمحافظة إدلب ومناطق نفوذ الحكومة المؤقتة في ريف حلب الشمالي يحتاجون دخول الأراضي التركية لتلقي العلاج.

بانتظار المساعدات

خوفاً من مصير مشابه لجلمود، حصل محمد العمر، 58 عاماً، مريض سرطان في محافظة إدلب، على جرعة كيميائية واحدة، “بعد أن حصل على تبرعات بقيمة 1200 دولار أميركي”، ومن المفترض أن يحصل على 24 جرعة مناعية لمدة عام، بواقع جرعة كل أسبوعين، “لكن لم آخذ إلا جرعة واحدة حتى الآن”، بحسب قوله.

قبل عدة أشهر، اكتشف العمر بأنه مصاب بسرطان الجلد (الميلانوما) درجة ثالثة، وكان المعبر مغلقاً مع تركيا. 

تقرير طبي حصل معد التحقيق على نسخة منه يوضح أخذ عينة (خزعة) من المريض محمد العمر 

تقرير طبي حصل معد التحقيق على نسخة منه يوضح أخذ عينة (خزعة) من المريض محمد العمر

تعليقاً على حالة العمر، قال الطبيب أيهم جمو، في مستشفى المحافظة بإدلب، أن “العلاج المناعي هو العلاج الوحيد لمحمد”، موضحاً أنه “مكلف جداً ولا يتوفر بشكل مجاني في سوريا ولا حتى في تركيا، إذ تبلغ تكاليف كل ست جرعات 6400 دولار أميركي”، أي ما يعادل 87 مليون ليرة سورية، ما يعني أن العمر غير قادر على الاستمرار بعلاجه من دون مساعدات.

لا يختلف وضع الطفل محمد صطوف، ذو التسعة أعوام، كثيراً عن وضع محمد العمر، فهو أيضاً يبحث عن تأمين ثمانية آلاف دولار أميركي، من أجل إجراء عمل جراحي في مستشفى خاص، “بعد أن أنهى 12 جرعة كيميائية و28 جلسة إشعاعية في تركيا، على مدار أربع سنوات، على أمل أن يعود إلى مدرسته ويتابع تعليمه”، كما قال والده هيثم.

صورة عن "بطاقة مسافر" صادرة عن معبر باب الهوى الحدودي للمريض الطفل محمد صطوف، ووالده هيثم بصفة مرافق

صورة عن “بطاقة مسافر” صادرة عن معبر باب الهوى الحدودي للمريض الطفل محمد صطوف، ووالده هيثم بصفة مرافق

“أنا مشلول”

في 25 تموز/ يوليو 2023، أعلنت إدارة معبر باب الهوى الحدودي، التابعة للمعارضة، استئناف إدخال مرضى السرطان إلى تركيا لتلقي العلاج، لأول مرة منذ إغلاقه بعد زلزال السادس من شباط/ فبراير، شريطة أن يدخل المريض، فوق الثماني سنوات، من دون مرافق.

“أنا مشلول لا حول لي ولا قوة، وأحتاج إلى مرافق”، قال محمود فتاح، 51 عاماً، وهو مريض سرطان مقيم في مدينة أريحا بريف إدلب، لا يمكنه الجلوس أو القيام بأي شيء “من دون مساعدة”، متسائلاً  باستنكار: “لماذا يصعّبون الأمور علينا؟ هذا إذلال لنا”.

وأضاف فتاح: “أنا طريح الفراش منذ خمسة أشهر، لم يسمحوا لي بدخول مرافق معي”، وعندما ألح على الجهات المعنية أخبره موظفو المكتب الطبي في معبر باب الهوى بأن “السلطات التركية سيمزقون أوراقي إذا لم أستطع تأمين شخص في تركيا بإمكانه مساعدتي ورعايتي”.

وحتى إن توفر المرافق هناك “لا أستطيع دخول تركيا من دون توفر سيارة إسعاف ونقالة”، لكن السلطات التركية تمنع دخول سيارات الإسعاف السورية إلى أراضيها، ويتم نقل مرضى السرطان عبر الباصات حصراً.

أوضح الدكتور بشير الإسماعيل، مدير المكتب الطبي في معبر باب الهوى، أن دخول مرافقي المرضى إلى تركيا متوقف منذ آذار/ مارس 2019 “بسبب عدة مشاكل؛ أبرزها: عودة المريض إلى سوريا، وبقاء المرافق في تركيا لأجل العمل أو السفر إلى دول الاتحاد الأوروبي”.

بعد أكثر من عامين على تلقي العلاج في تركيا، عادت إسلام سليمان، 46 عاماً، المصابة بسرطان الثدي، إلى إدلب، بعد أن شهدت كارثة الزلزال في مدينة أنطاكيا التركية، حيث كانت تتلقى العلاج، وهذه المدينة من أكثر المدن تضرراً بالزلزال، الذي حصد أرواح عشرات الآلاف في تركيا وسوريا. 

حصلت سليمان خلال رحلة علاجها على 32 جرعة إشعاعية، ولم تنته من علاجها، لكن حادثة الزلزال ما تزال ترافقها، قائلة: “أخاف العودة إلى تركيا من أجل استكمال علاجي خوفاً من الزلزال، كما أنني أخشى أن أترك أطفالي وحيدين في سوريا، فأنا منفصلة عن زوجي منذ تسع سنوات، ولا يمكنني اصطحابهم معي”، نظراً لعدم السماح بدخول المرافقين.

مرضى سرطان وذووهم داخل قسم الأورام في مشفى المحافظة بإدلب، 26/ 07/ 2023، (علاء الدين اسماعيل)

مرضى سرطان وذووهم داخل قسم الأورام في مشفى المحافظة بإدلب، 26/ 07/ 2023، (علاء الدين اسماعيل)

يقدم مستشفى المحافظة بإدلب، الممول من الجمعية الطبية السورية الأمريكية (سامز)، الجرعات الكيميائية لستة أنواع من السرطان، كما أوضح رئيس قسم الأورام في المستشفى، وهي: “سرطان الثدي، المبيض، القولون، اللمفومة اللاهودجكينية الذي يصيب الجهاز اللمفاوي، ابيضاض الدم اللمفاوي الحاد عند الأطفال، وسرطان الخصية”، بالإضافة إلى “تسريب جرعات مجانية في الوريد لباقي أنواع السرطان، بواقع 1200 جرعة شهرياً تقريباً”، بحسب قوله.

ويوفر المستشفى “قسماً من الأدوية مجاناً، بينما بعض الأدوية يتم شراؤها من المرضى على نقفتهم”، أما بالنسبة لأجهزة العلاج الشعاعي والمناعي “غير متوفرة، لأنها مكلفة جداً، ما يضطرنا إلى تحويل المرضى لتلقي العلاج في تركيا”، وفقاً للطبيب.

على خلفية إغلاق معبر باب الهوى أمام مرضى السرطان، أطلق ناشطون سوريون حملة على وسائل التواصل الاجتماعي، في 27 شباط/ فبراير 2023، تحت اسم “أنقذوا مرضى السرطان”، لحث السلطات التركية على السماح لحوالي 3300 مريض سرطان في شمال غرب سوريا بدخول أراضيها لتلقي العلاج، ولاقت الحملة تفاعلاً كبيراً محلياً وإعلامياً.

جانب من اعتصام مرضى السرطان في ساحة باب الهوى بالقرب من المعبر الحدودي، 22/ 07/ 2023، (الناشط الإعلامي مصطفى حلاق)

جانب من اعتصام مرضى السرطان في ساحة باب الهوى بالقرب من المعبر الحدودي، 22/ 07/ 2023، (الناشط الإعلامي مصطفى حلاق)

ستة مصابين بمرض السرطان، بينهم أطفال، فقدوا حياتهم خلال فترة إغلاق معبر باب الهوى الحدودي، ومن بين الوفيات اثنان من المرضى، فقدوا حياتهم بعد مقابلتهم لغرض إنتاج هذا التحقيق، وهما: محمد جلمود، ومحمود محمد من مدينة عفرين.

تناول أدوية منتهية الصلاحية

لا يختلف وضع مرضى السرطان في مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كثيراً عما هو الحال في شمال غربي البلاد، إذ تفتقد المنطقة أيضاً لمراكز أو مستشفيات متخصصة ومتكاملة خاصة بمرضى السرطان، ما يفاقم من معاناة المرضى، ويدفعهم إلى البحث عن علاج خارج حدود مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، سواء في مناطق الحكومة السورية أو إقليم كردستان العراق، مع استثناء تركيا، كون معابرها مغلقة مع مناطق الإدارة الذاتية.

وبالتالي، يدفع المرضى عموماً، ومرضى السرطان خصوصاً، في مناطق الإدارة الذاتية، ضريبة التراجع الكبير في المنظومة الصحية السورية، والتجاذبات السياسية محلياً وإقليمياً، وقد يضطرون إلى تناول أدوية منتهية الصلاحية، كما هو حال عبد الرحمن علي رسول، 67 عاماً، المقيم في مدينة عامودا بريف الحسكة، وهو مصاب بالسرطان.

شدد الأطباء على ضرورة تناول عبد الرحمن أدويته بشكل منتظم، للحفاظ على نظامه الدوائي وخوفاً من حصول تداعيات صحية، ونظراً لإغلاق معبر سيمالكا الحدودي مع العراق، في 11 أيار/ مايو 2023، اضطر إلى “تناول أدوية منتهية الصلاحية”، بحسب قوله، لكن النتيجة جاءت عكس المأمول، إذ صار يعاني من “فقدان التوازن”، لذا أوقف الدواء فوراً.

عبد الرحمن رسول، مريض سرطان، يجلس على كرسي في حديقة منزل بمدينة عامودا في ريف الحسكة، شمال شرق سوريا، ويضع أمامه دواء منتهي الصلاحية، 06/ 06/ 2023، (مصطفى مصطفى)

عبد الرحمن رسول، مريض سرطان، يجلس على كرسي في حديقة منزل بمدينة عامودا في ريف الحسكة، شمال شرق سوريا، ويضع أمامه دواء منتهي الصلاحية، 06/ 06/ 2023، (مصطفى مصطفى)

قبل 12 عاماً، لاحظ رسول وجود بقع سوداء على قدمه، وبعد الكشف على حالته تم تشخيص إصابته بسرطان الدم، ليبدأ حينها رحلة العلاج، متنقلاً بين دمشق وتركيا وإقليم كردستان العراق من أجل ذلك، حتى “صار عندي ثلاثة دفاتر جرعات، كل دفتر بلغة وصادر عن جهة مختلفة عن الأخرى”.

بعد نحو عامين ونصف، توقفت رحلة رسول العلاجية في تركيا، نتيجة إغلاق معبر الدرباسية، المعروف باسم معبر الشهيد غمكين من الجانب السوري، شانيورت من الجانب التركي، لأسباب “أمنية”، وهو معبر مخصص للحالات الإنسانية، وبالتالي تحولت وجهة رسول إلى إقليم كردستان العراق، وهي وجهته الوحيدة حتى الآن.

لكن إغلاق معبر سيمالكا، الذي يصل مناطق الإدارة الذاتية بإقليم كردستان العراق، بين فترة وأخرى لأسباب جلها خلافات سياسية بين الجانبين، ينعكس على الرحلة العلاجية لأصحاب المرضى المزمنة، بما فيهم مرضى السرطان، كما في حالة رسول.

تعليقاً على ذلك، قال رسول بنبرة تشر إلى خيبة أمل: “حالة معبر سيمالكا لا تختلف عن حالة معبر درباسية، فعند إغلاق الأخير كنت اجتاز الحدود بطريقة غير شرعية من أجل الحصول على جرعاتي  في تركيا”، لكن طرق التهريب إلى إقليم كردستان “مكلفة جداً، تترواح بين ثلاثة وأربعة آلاف دولارأمريكي، إضافة إلى أن حالتي الصحية حالياً لا تسعفني بالذهاب عبر طرق التهريب”.

صورة أرشيفية لمعبر سيمالكا الحدودي مع كردستان العراق (نورث بريس)

صورة أرشيفية لمعبر سيمالكا الحدودي مع كردستان العراق (نورث بريس)

بعد سنوات من مرضه غدا رسول عاطلاً عن العمل، كما أنه يعيل ابنته المقعدة، ولولا “أصحاب الأيادي البيضاء”، كما وصفهم رسول، في إشارة إلى المساعدات الأهلية، لعجز عن تأمين تكاليف علاجه.

في 11 أيار\ مايو 2023، نشرت إدارة معبر سيمالكا، التابع للإدارة الذاتية، بلاغاً، يفيد بأن إدارة معبر فيش خابور، أي سلطات إقليم كردستان العراق، قررت إغلاق المعبر بقسميه التجاري والإنساني حتى إشعار آخر دون ذكر أي سبب.

واتهم الطرف السوري إدارة كردستان العراق بربط المعبر بالأمور السياسية، دون ذكر تفاصيل إضافية. لكن قرار الإغلاق جاء على خلفية “منع الإدارة الذاتية عبور وفد المجلس الوطني الكردي إلى كردستان العراق” بحسب بيان رسمي لـ “المجلس الوطني الكردي”، واستأنف المعبر عمله بعد قرابة ثلاثة أسابيع من إغلاقه.

استذكر رسول حادثة إغلاق المعبر، قائلاً: “لقد كانت أياماً صعبة بالنسبة لي، وتأخر إعادة فتحه أثار مخاوف لديّ”، مشيراً إلى أنه طلب المساعدة من عدة جهات للدخول إلى إقليم كردستان، لكنهم أخبروه بأن الموافقة تتوقف على “الإقليم”، أي الجانب الآخر من المعبر.

أكدت لجنة الصحة في معبر سيمالكا، التابعة لهيئة الصحة في شمال وشرق سوريا، بأن الهيئة تمنح يومياً موافقة دخول إلى إقليم كردستان العراق لحوالي 10 إلى 15 مريض سرطان من مناطق مختلفة في شمال وشرق سوريا، لتلقي العلاج (بشكل مجاني عدا التحاليل)، مشيرة في تصريح خاص لمعد التحقيق بأن التأخير بسماح دخولهم يكون من جانب إقليم كردستان العراق.

وأضافت اللجنة أنه “أثناء إغلاق المعبر لم يكن لدينا أي إجراءات بديلة لمساعدة هؤلاء المرضى سوى انتظار استئناف عمل المعبر”.

انتشار السرطان في مناطق الإدارة الذاتية

عبد الرحمن رسول واحد من أصل سبعة آلاف مريض سرطان في شمال شرق سوريا مسجلة لدى هيئة الصحة التابعة للإدارة الذاتية، بحسب آخر أرقام حصل عليها معد التحقيق من الدكتور جوان مصطفى، الرئيس المشترك للهيئة، مشيراً إلى أن الأرقام “تقريبية” نظراً لعدم وجود مركز شامل ومختص بمرضى السرطان في المنطقة.

ومع تأكيده على عدم وجود أرقام دقيقة لأعداد المصابين في شمال شرق سوريا، أشار الطبيب آلان خلف، المختص في طب الأورام والمعالجة الكيميائية، إلى زيادة أعداد المصابين وانتشار أمراض الأورام، لا سيما مرض السرطان.

وقال الطبيب خلف، الذي عمل سابقاً في مستشفى البيروني الجامعي بدمشق، ويقيم حالياً في القامشلي أن “أورام الثدي هي النسبة الأعلى لدى النساء في المنطقة ونسبة الوفيات بهذا النوع مرتفعة بسبب تلوث البيئة والهواء”.

وأضاف الطبيب خلف: “لو افترضنا أن نسبة مريضات سرطان الثدي تشكل 30% من نسبة الأورام في المنطقة، وقارنا بين تلك النسبة ونسبة منطقة أخرى، فسيكون نسبة الوفيات هنا أكبر، لأن التلوث البيئي له دور رئيسي في تفعيل الطفرات التي تغذي الورم، وزيادة الشدة التأكسدية داخل الخلايا السرطانية وهناك دراسات عدة تؤكد ذلك”.

من جهتها، صنفت الوكالة الدولية لبحوث السرطان، التابعة لمنظمة الصحة العالمية، في بيان صحفي نشرته في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، ملوثات الهواء الطلق كمواد مسرطنة للإنسان، وسبب رئيسي لوفيات السرطان.

وأشارت الوكالة إلى وجود “علاقة إيجابية بين الملوثات وخطر الإصابة بسرطان المثانة. كما دلت الأبحاث على أن الجسيمات والتي تشكل عنصراً رئيسياً في تلوث الهواء الطلق تحتوي على مواد مسرطنة للبشر”.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، صدرت دراسة بعنوان “التكلفة الاقتصاديّة والمخاطر البيئيّة والصحية لعوادم السيّارات في شمال وشرق سوريا” عن مركز الفرات للدراسات في مدينة القامشلي، جاء فيها أنه تم إدخال 40 ألف و96 مركبة عبر معبري سيمالكا ومنبج إلى مناطق الإدارة الذاتية، خلال الخمس سنوات الماضية، ما يعني “غياب موضوع جودة الهواء عن آليات التخطيط، أو حتى التفكير في المؤسسات الإدارية المعنية”، وهذا بدوره أدى “زيادة الانبعاثات السامة إلى الجو، مما رفع معدلات تلوث الهواء”، وبالتالي “زيادة نسبة الأمراض الناتجة عنه”.

وأشارت الدراسة إلى أن “مسألة جودة الهواء في المدن لم تدخل في حسابات وخطط الإدارة الذاتية حتى الآن، الأمر الذي يدفع باتجاه تزايد الحالات المرضية في المنطقة، وخاصة تلك الأمراض الخطيرة والمستعصية، كالسرطانات أو السكتات الدماغية، التي من الملاحظ تزايدها خلال السنوات الأخيرة”. 

رحلة البحث عن علاج ودواء

“أنتي معج مرض السرطان، ولازم من هسع تروحين تعملين عملية، وإلا رح ينتشر بكل جسمك”، بلهجتها المحلية، استذكرت حميدة الحمود، 43 عاماً، من مدينة الرقة، ما قاله لها طبيبها قبل عام، بعد صدور نتيجة التحاليل الطبية آنذاك، وشكلت تلك اللحظة “صدمة غير متوقعة”، بالنسبة لها.

تعاني الحمود، الأم لأربعة أطفال، من ظروف مادية صعبة، خاصة أن زوجها مصاب بشلل نصفي، كما قالت لمعد التحقيق، لذا لم يكن عندها خيار سوى طلب المساعدة من أهلها لتأمين تكاليف رحلة العلاج في دمشق.

نظراً لغياب المراكز والمستشفيات المتخصصة بالسرطان في مناطق الإدارة الذاتية، شمال شرق سوريا، وعدم توفر العلاج اللازم، يضطر المرضى للسفر ساعات طويلة، وقطع مئات الكيلومترات، للحصول على علاج في المدن السورية الكبرى، كما في حالة الحمود، التي ترددت إلى دمشق، ويتحملون لأجل ذلك مشقة السفر، الذي يستمر في كثير من الأحيان لمدة يوم كامل للرحلة الواحدة.

“في أول زيارة لي إلى دمشق، كنت أبكي طول الطريق، ما كنت خايفة ع حالي بقدر خوفي على أطفالي”، بحسب الحمود، قائلة: “انحرمت من شوفة أولادي وهم انحرموا من شوفتي”، مشيرة إلى أنها كانت تحصل على جرعة كل ثلاثة أو أربعة أيام، ما يضطرها إلى الإقامة في العاصمة أثناء الجرعات لتقارب الجرعات وصعوبة التنقل بين الرقة ودمشق.

كان عند الحمود خوف من “الإهمال في المستشفيات العامة [الحكومية في دمشق”، ما دفعها إلى “إجراء عملية استئصال الثدي في مشفى دار الشفاء، وهو مستشفى خاص”، وما كان لها ذلك “لولا مساعدة أهل الخير، لأن العملية مكلفة جداً”، بحسب قولها.

من أصعب المواقف التي تواجه الحمود خلال رحلة علاجها، هي تأمين “حبوب العلاج الكيميائي”، التي تستخدمها حتى بعد عملية الاستئصال، لأنها غير متوفرة دائما في الأسواق، واصفة حالتها في تلك الأثناء: “أنا بتحطم لما ما لاقي الدواء، وأفكر يا ترى إذا ما أخذت الدواء، المرض رح ينتشر بجسمي؟! هيك رح تنتهي حياتي ببساطة؟! وولادي كيف رح يدبروا حالهم؟!”.

تعليقاً على ذلك، قال مصدر من الجمعية السورية لعلاج سرطان الأطفال ورعايتهم (C.C.S) التابعة للحكومة السورية، مركزها في القامشلي: “كان المفروض أن يتم تقديم خدمات أفضل في الجمعية من توفير الجرعات والأدوية وتسريب الجرعات والاستشارات الطبية بشكل مجاني، لكن بسبب صعوبات وصول الدواء ونقلها (في سوريا بشكل عام)، باتت الخدمة المقدمة من قبل الجمعية لا تتناسب مع نسبة الحالات الموجودة في المنطقة”، مشيراً في حديثه لمعد التقرير إلى أن “الأدوية المتوفرة في الجمعية قليلة”.

مدخل قسم الأورام في المشفى الوطني بمدينة الرقة، شمال شرق سوريا (إنترنت)

مدخل قسم الأورام في المشفى الوطني بمدينة الرقة، شمال شرق سوريا (إنترنت)

في 12 تموز/ يوليو 2023، اُفتتح قسم الأورام، التابع للجمعية السورية للسرطان (S.C.S) في المستشفى الوطني بمدينة الرقة، بالتعاون مع لجنة الصحة التابع للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

خلال الأيام الأولى من افتتاحه، استقبل القسم 125 مريض سرطان، بحسب الدكتورة أهين محمد، مديرة القسم، مشيرة إلى أنه يتم تقديم أدوية اسعافية وثمانية أنواع من الجرعات الكيميائية، إلى جانب خدمات أخرى.

وما زال القسم يفتقد لإجراء فحوصات خاصة بمرضى السرطان، وأنواع من الجرعات الكيميائية، وكادر طبي متخصص، وهو حال المنطقة بشكل عام، كما أوضحت الدكتورة محمد لمعد التحقيق.

أنواع الجرعات المتوفرة في قسم الأورام بالمشفى الوطني في الرقة، 22/ 07/ 2023، (أهين محمد – مديرة القسم)

أنواع الجرعات المتوفرة في قسم الأورام بالمشفى الوطني في الرقة، 22/ 07/ 2023، (أهين محمد – مديرة القسم)

وفي هذا السياق، قال الدكتور جوان مصطفى “إن الإمكانات المادية للإدارة الذاتية لا تكفي لفتح مركز متخصص ومتكامل في المنطقة، إلى جانب عدم وجود مختصين”، ومع ذلك “هناك محاولات ووعود لسد هذه الثغرة”.

كذلك، فإن “عدم الاعتراف بالإدارة الذاتية يشكل عائقاً أمام استيراد أدوية وجرعات مرضى السرطان إلى المنطقة”، لذلك تدخل بعض الأدوية إلى مناطق الإدارة الذاتية بطرق غير شرعية، وبالتالي لا تخضع للرقابة والإشراف الصحي”، ورغم مساعي التنسيق مع الحكومة السورية، “تسيّس الأخيرة الموضوع ولا تسمح بفتح قنوات تواصل إنسانية”، بحسب مصطفى.

“بطاقة عبور” للتنقل داخل سوريا!

على مدار عامين، عانت ناريمان مراد، 35 عاماً، المقيمة في منطقة الشهباء بريف حلب بعد تهجيرها من عفرين، عام 2018، من اضطرابات في الدورة الشهرية، وبعد الكشف الطبي على حالتها، تبين قبل أشهر أن “إصابتها بسرطان مبيضها الأيمن هو سبب الاضطرابات”، وليس “أسباباً نفسية” كما كان أخبرها الأطباء سابقاً.

“بسبب إهمال الأطباء، وعدم إجراء العملية اللازمة في وقتها المناسب، انفجر الكيس الموجود على المبيض، ما أدى إلى تدهور حالتي الصحية”، قالت مراد، وهي أرملة وأم لأربعة أطفال.

كان لمراد معاناة من نوع آخر، تتمثل في حاجتها لـ”بطاقة عبور”، تسمح بموجبها الحكومة السورية عبورها من مناطق الإدارة الذاتية في الشهباء إلى مناطق نفوذ الحكومة في حلب لتلقي العلاج هناك، وهي أشبه بـ”جواز سفر” لا يمكن التنقل بين منطقتين سوريتين من دونها، بحسب قولها، مشيرة إلى أن تكاليف استصدارها قد يصل إلى 400 ألف ليرة سورية (30 دولاراً تقريباً).

وفي هذا السياق، قال مصدر من داخل منطقة الشهباء، شريطة عدم ذكر اسمه لدواع أمنية، أن المنطقة محاصرة من “الفرقة الرابعة” التابعة لقوات الحكومة السورية منذ آب/ أغسطس 2022، وهو ما “يدفع الكثير من الأشخاص في الشهباء إلى الوصول إلى حلب عبر طرق غير شرعية، تفادياً للمرور عبر حاجز الفرقة الرابعة، الذي يفرض مبالغ مالية لقاء عبور الشخص، ناهيك عن المضايقات التي يتعرض لها على الحاجز”.

وتتحكم الحكومة السورية بدخول الإمدادات الأساسية والمساعدات الإنسانية للجيب التابع للإدارة الذاتية في شمال غرب سوريا، الذي يضم الشيخ مقصود والأشرفية شمال مدينة حلب، وأكثر من  50 قرية في منطقة الشهباء.

ثمن تأخر العلاج

غالباً ما يكتشف مرضى السرطان السوريون إصابتهم بهذا المرض “الخبيث”، كما يطلق عليها، بالصدفة أثناء إجراء فحوصات لأمراض أخرى، لذلك يكون اكتشاف المرض في مرحلة متأخرة، ما يتطلب سرعة في تلقي العلاج لمنع انتشاره أو خطورة حالته، وهذا غير متاح للعديد من المرضى في ظل تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ، ما يحد من حركة السوريين داخل أرضهم أو انتقالهم إلى خارجها.

نشاط ينظمه "مركز فرح لأطفال السرطان"في بلدة معبدة (كركي لكي) بشمال شرق سوريا، 24/ 06/ 2023، (مصطفى مصطفى) 

نشاط ينظمه “مركز فرح لأطفال السرطان”في بلدة معبدة (كركي لكي) بشمال شرق سوريا، 24/ 06/ 2023، (مصطفى مصطفى)

فقدان البصر هو أغلى فاتورة دفعها الطفل “حمودي”، ذو 13 عاماً، بسبب تأخر عملية علاجه من مرض سرطان الدم، بعد “نكس الخلايا السرطانية وإصابته بارتشاح الدماغ، ثم ضمور العصب البصري”، كما قالت أمه لمعد التحقيق.

بحسرة، قالت مها الأحمد، 39 عاماً، والدة الطفل وهي تحاول التغلب على دموعها: “حمودي فقد دراسته ومستقبله بسبب فقدانه لبصره، هو بحاجة زرع خلايا جذعية، وهذا العلاج غير متوفر إلا بألمانيا”، وهو خيار بالغ الصعوبة، نظراً لأن “وضعنا المادي لا يسمح بالسفر”، إضافة إلى القيود المفروضة على سفر السوريين.

اليوم، يمثل مركز فرح لأطفال السرطان” في بلدة معبدة (كركي لكي) المتنفس الوحيد لـ “حمودي”، يشغل نفسه عن المرض الذي ينخر جسده بقضاء وقته فيه، ويعود إلى منزله حاملاً معه الأمل بأن يجد يوماً ما شعلة تعيد النور إلى عينيه.

هذة المادة واحدة من ست مواد أُعدت ضمن برنامج تدريبي على الصحافة الاستقصائية العابرة لمناطق النفوذ المختلفة في سوريا

شارك هذا المقال