8 دقائق قراءة

السوريون في مخيمات لبنان يواجهون كابوس الكوليرا

في ظل صعوبة تأمين المياه النظيفة وتفشي الفقر، لا سيما في المخيمات، يواجه السوريون في لبنان وباء الكوليرا، الذي أصاب أكثر من 3000 شخص حتى الآن.


14 نوفمبر 2022

سعدنايل- في صبيحة يوم ماطر، كان محمود ذو الخمسة أعوام يلعب بركة في إحدى البرك الموحلة المنتشرة في مخيم سعدنايل بوادي البقاع شرقي لبنان، في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد أيام من نقله إلى أحد المستشفيات جرّاء معاناته من الإسهال الحاد والغثيان والحمى.

محمود واحد من أصل 3,369 مُشتبه بإصابته بالكوليرا، التي سجلها لبنان منذ 5 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، التاريخ الذي وُثِّق فيه أول الحالات بأحد مخيمات اللاجئين السوريين في شمال لبنان.

منذ ذلك الحين، اكتُشفت بكتيريا عصيات الكوليرا، أو ما يطلق عليه بـ”ضمة الكوليرا” (Vibrio cholerae) في محافظات لبنان الثمانية، ما أدى إلى وفاة 18 شخصاً.

الكوليرا مرض بكتيري معدي، ينتقل بشكل أساسي عبر المياه، أو الطعام الملوث، أو ملامسة قيء أو براز شخص مصاب، والعرَضُ الأساسي للإصابة به هو الإسهال الحاد، يُمكن علاجه بسهولة من خلال محلول الإماهة الفموي لتعويض نقص السوائل، ولكن إذا لم يُعالج، يمكن أن يؤدي إلى الموت خلال ساعات بسبب الجفاف.

رُبع الحالات التي أُبلِغ عنها في لبنان تعود لأطفال دون سن الرابعة، وفقاً لليونيسيف. علماً أنّ الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية أكثر عرضة للخطر مقارنةً بأقرانهم بسبب نقص السوائل في أجسامهم.

ذكرت عائلة محمود أنّ إصابته بالكوليرا جاءت بعد تناوله فاكهةٍ لم يغسلها، إذ “أكل تفاحةً وبعد يومين أصيب بالمرض”، بحسب عمته فريال أحمد، لاجئة سورية من حمص. وعليه، عانى محمود من جفافٍ شديد. “وأُدخل المستشفى لمدة أربعة أيام، ووضعوا له القسطرة الوريدية”، كما أوضحت لـ”سوريا على طول”.


استقبل مستشفى العبد الله في وادي البقاع محمود، بعد أن رُفض في مستشفى البقاع، لكنهم طلبوا 50 دولاراً أميركياً للتحليل و250,000 ليرة لبنانية للعلاج (ستة دولارات تقريباً بسعر الصرف في السوق الموازي)، وفقاً لفريال، مشيرة إلى أن “ابنتي وحفيدتي تتقيئان وتعانيان من الإسهال لأربع أيام”.

من جهتها، ذكرت نادين مظلوم، المتحدثة الرسمية باسم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان لـ”سوريا على طول”، أنّ المفوضية “تغطي تكاليف دخول المستشفى للاجئين المصابين بالكوليرا أو المُشتبه بإصابتهم بنسبة 100%”، غير أنّ عائلة محمود اضطرت للدفع لأجل علاجه.

تنتشر عدوى الكوليرا بسهولة في المناطق التي تفتقر لأنظمة الصرف الصحي، والمياه النظيفة، ويمكن الوقاية منها من خلال المطعوم الفموي وضمان الحصول على مياه نظيفة. 

عاد وباء الكوليرا مجدداً إلى لبنان بعد ثلاثين عاماً من القضاء عليه، وقد انتشرت الموجة الجديدة منه من أفغانستان، في حزيران/ يونيو الماضي، ثم تفشى في باكستان وإيران والعراق وسوريا المجاورة. تفشّى الوباء في 29 دولة في جميع أنحاء العالم، منها ثمانية بلدان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في “ارتفاعٍ غير مسبوق”، وفق ما أفادت المنظمة العالمية للصحة (WHO).

يعيش قرابة 21٪ من اللاجئين السوريين في لبنان، الذين يُقدر عددهم بنحو مليون ونصف المليون، في مخيمات عشوائية، تفتقر هذه المخيمات بمجملها إلى المياه النظيفة وأنظمة الصرف الصحي المناسبة.

تشتري عائلة فريال، المؤلفة من ستة أفراد، الماء المنقول إلى المخيم عبر الصهاريج، لأنّه الخيار المتاح بسعر مقبول بالنسبة لهم. يتلقون ثلاثة ملايين ليرة لبنانية (76دولار) شهرياً من مفوضية شؤون اللاجئين، “كل شيء يرتفع ثمنه” بحسب ما قالت، حتى المياه “يبلغ سعر الجالون 20 ألف ليرة لبنانية [0.50 دولار]، وهو ما لا يمكننا دفع ثمنه. في كل شهر نشتري مياه الشرب من الشاحنة لنملأ خزاننا [سعة خمسة غالون] بـ 150,000 ليرة لبنانية [4 دولار]”. ومع ذلك “لا يمكنك التأكد من جودته”، وفق ما قال أحمد، ابن فريال. 

“يعتمد نصف سكان المخيم تقريباً على المياه المنقولة بواسطة الشاحنات، في حين تصل شبكات المياه إلى بعضهم، ويعتمد الآخرون على ترتيباتٍ بديلة”، بحسب ما أوضحت نادين مظلوم، المتحدثة الرسمية باسم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

نبعة موحلة هو البديل عن شراء المياه في مخيمٍ عشوائي آخر بجوار المخيم الذي تقيم فيه عائلة محمود، كما أوضحت ربيعة حرفوش، 27 عاماً، لاجئة من القصير أنّ مياه النبعة، التي تتجمع فيها مياه الأمطار أيضاً كانت تستخدم لري حقول البطاطا المحيطة بالمخيم، ولكن نظراً للحاجة اضطرت عائلتها وغيرها من العائلات لاستخدام مياهها في الاستحمام وغسل الأواني.

ربيعة حرفوش وابنتها بجوار نبعة مياه خلف خيمتهما في سعدنايل، لبنان، 10/ 11/ 2022 (أليثيا مدينا/ سوريا على طول)

لا تتلقى ربيعة مساعدات من المفوضية، وتعمل مع زوجها في حقول البطاطا ليؤمنا إيجار خيمتهما، البالغ 500 ألف ليرة لبنانية (12 دولاراً) وفاتورة الكهرباء: مليون ليرة (24 دولاراً).

“قدّم لنا المجلس النرويجي للاجئين القليل من الماء، لذا فنحن حالياً لا نستخدم مياه النبعة، ولكن حينما تنفد لدينا المياه المقدّمة من المجلس نلجأ إلى النبعة، لأننا لا نستطيع دفع ثمن المياه [المستخدمة لأغراض منزلية]”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

تنفق عائلتها 100 ألف ليرة لبنانية (2.50 دولاراً) أسبوعياً على مياه الشرب المنقولة بالصهاريج. تضاعفت تكلفة تأمين المياه في لبنان ثلاثة عشر ضعفاً منذ عام 2019، في وقتٍ يعيش فيه ثلاثة أرباع السكان في حالة فقر. 

منذ بداية عام 2022 حتى الآن، تلقى قطاع المياه 107.3 مليون دولار في إطار خطة لبنان للاستجابة للأزمة، وهي خطة إغاثية للأمم المتحدة تستهدف اللاجئين والفئات السكانية اللبنانية الهشة، وذلك من أصل 247 مليون دولار طلبها من الدول المانحة. كما أطلقت اليونيسف مناشدة لتقديم مساعدات إضافية بقيمة 38 مليون دولار لمكافحة تفشي وباء الكوليرا في لبنان، وتقوم حالياً بتوزيع 32 ألف كيس من أملاح الإماهة الفموية على الأفراد الذين تظهر عليهم الأعراض أو المعرضين جداً لخطر الإصابة، و400 ألف قرص كلور لتعقيم خزانات المياه، و1,026 مجموعة تطهير في مخيمات اللاجئين التي تنتشر فيها الكوليرا. 

هدى خالد تتحدث مع فوزة العلاوي وصديقة أخرى في مخيم سعدنايل بلبنان، 10/ 11/ 2022 (أليثيا مدينا/ سوريا على طول)

في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، جلست هدى خالد، التي تنحدر من ريف حلب، تتبادل أطراف الحديث مع جارتها فوزة العلوي، التي تعود أصولها إلى إدلب، في مخيم سعدنايل، حيث تقيمان. كلاهما تتلقيان المساعدات الغذائية ومجموعات النظافة الصحية من المفوضية، ولكن المساعدات “غير كافية”، كما قالتا لـ”سوريا على طول”، إذ تنفق هدى 200 ألف ليرة لبنانية (5 دولارات) شهرياً لتعبئة خزانها الذي يتسع لخمسة جالونات بالمياه الصالحة للشرب.

“في كل أسبوع، نحصل على خزان مياه (لأغراضٍ منزلية) من المفوضية. [كانوا قد] قلصوا كميات الماء التي يزوّدوننا بها، ولكن حين تفشت الكوليرا، صاروا يعطوننا أكثر”، قالت هدى. ينبغي ألاّ يقل الحد الأدنى المُخصّص للفرد للشرب والطهي والنظافة والاحتياجات المنزلية في مخيمات اللاجئين، عن 35 لتر يومياً، ولكن بسبب القيود التمويلية، اقتصرت حصة الفرد في بعض المخيمات على 7.5 لتر، وفق دراسة للأمم المتحدة

تشكل مسألة الصرف الصحي هاجساً مستمراً في المخيمات العشوائية، حتى عندما تمطر “تختلط [مياه الأمطار] بمياه المجاري، فتتسخ وتفوح رائحة كريهة منها، ويصاب الناس بالحساسية”. على بعد أمتار من مكان جلوس هدى، تختلط المياه المستخدمة مع القمامة في قناة مفتوحة.

لم تسمع فوزة وهدى بوجود إصابات بالكوليرا في المخيم الذي تقيمان فيه، لكن ابن فوزة نُقل إلى المستشفى مؤخراً لإصابته باليرقان، وهو مرض ناجم عن الجفاف أو قلة استهلاك السعرات الحرارية.

القمامة مع مياه المجاري بجوار خيمةٍ في مخيم سعدنايل بلبنان، 10/ 11/ 2022 (أليثيا مدينا/ سوريا على طول)

خلفهنّ، مجموعة من النساء يقفن أمام سيارة فان (عيادة متنقلة) تابعة لمنظمة “إندلس ميديكال أدفانتج” (EMA) للحصول على العلاج الطبي، حيث تغطي المنظمة “40 مخيماً ونعالج حوالي 150 شخصا يوميا مجانا”، كما قال مهند غضبان، العضو في الفريق، مشيراً إلى وجود “العديد من حالات الإسهال، ولكن لا يمكن البتّ بأنها مصابة بالكوليرا، لذلك نقوم بمتابعتها، وإذا كانوا بحاجة إلى علاج في المستشفى نحيلهم إليه”.

في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، على بعد عشرين دقيقة بالسيارة من مخيم سعدنايل، كان القسم المخصص لعلاج مرضى الكوليرا في مستشفى “أطباء بلا حدود” في بر الياس خالياً من المرضى.

فتح المركز أبوابه لمعالجة مرضى الكوليرا في 31 تشرين الأول/ أكتوبر، وهو يؤمن العناية المجانية لجميع المرضى بصرف النظر عن جنسيتهم، كما قال الدكتور وائل حرب، نائب المدير الطبي في مستشفى “أطباء بلا حدود” لـ”سوريا على طول”، إذ بدأ المستشفى بـ”عشرة أسرّة، ولدينا القدرة على زيادتها إلى عشرين سريراً”.

وأضاف حرب: “لدينا حتى الآن 14 حالة مشتبه بإصابتها بالكوليرا، تم إدخال حالتين، وأرسلت الحالات الأخرى إلى منازلها مع علاج الإماهة الفموي”.

أكثر الفئات هشاشةً وعرضةً للإصابة بالمرض هم “الأطفال، والمرضى المسنّون، ومرضى الاعتلال المشترك مثل السكري، ارتفاع ضغط الدم، أو قصور القلب”، وفقاً لحرب. مشدداً على أن الاستجابة السريعة  في مسألة علاج الكوليرا أمرٌ في غاية الأهمية “لأن المريض يفقد الكثير من السوائل والشوارد” التي يمكن أن “تؤدي إلى الجفاف الشديد وربما الموت”.

وأوصى حرب بضرورة طلب الرعاية الطبية بعد حدوث الإسهال المائي لثلاث مرات، موضحاً أن بكتيريا الكوليرا “تبقى في براز المرضى من سبعة إلى 14 يوماً، لذلك بعد تخريجهم من المستشفى، يتعين عليهم تناول الدواء لمنع انتقال العدوى”.

قدَّمت منظمة الصحة العالمية كواشف مخبرية طبية ومجموعات علاج واختبارات تشخيصية سريعة إلى إثني عشر مستشفى في لبنان، المخصصة لعلاج الكوليرا، وكذلك إلى ثلاثة مرافق طبية في السجون. غير أنّ “هجرة العاملين في مجال الرعاية الصحية وتعطل سلاسل التوريد وحلول الطاقة المكلفة جداً لدرجة لا يمكن تحملها، أضعفت بشدة قدرة المستشفيات على الاستجابة، ومرافق الرعاية الصحية الأولية المهدّدة الآن بسبب تفشي الوباء وزيادة عدد الحالات”، وفق ما ذكرت وكالة الأمم المتحدة لـ”سوريا على طول” في بيان مكتوب.

تلقى لبنان من منظمة الصحة العالمية 600 ألف لقاح للكوليرا خلال الأسبوع الماضي، ومن المقرر أن تستمر حملة تطعيم لمدة ثلاثة أسابيع انطلاقاً من يوم السبت، الموافق 12 تشرين الثاني/ نوفمبر، وتستهدف الحملة اللاجئين والمقيمين في المجتمعات اللبنانية المحيطة التي تبلغ أعمارهم عاماً واحداً فما فوق في المناطق التي يكثر فيها انتشار الحالات.  

نظام ماء متهالك

لا يهدد وباء الكوليرا اللاجئين في المخيمات اللبنانية فحسب وإنما البلد بأكمله، فالبنية التحتية للمياه في لبنان متهالكة أصلاً، تآكلت بفعل الأزمة الاقتصادية التي يرزح البلد تحت وطأتها. 

انقطاع التيار الكهربائي وأسعار الوقود العالية تعني أنّ محطات المياه التي تديرها الحكومة عاجزة عن ضخ المياه الكافية عبر شبكة المياه، ما يدفع الناس إلى شراء المياه من الشاحنات، بسعر أعلى وتحكم أقل بجودته. تأثرت أيضاً محطات معالجة المياه العادمة والتخلص من مياه الصرف الصحي بالعوامل ذاتها. 

“البنية التحتية المائية في لبنان ضعيفة أصلاً، وزد عليها انقطاعات التيار الكهربائي، وعدم التخلص من مياه الصرف الصحي ومعالجتها بطريقة سليمة، كل ذلك يجعل الوضع أكثر تعقيداً”، كما قالت بسمة طباجة، نائب رئيس البعثة اللبنانية للجنة الدولية للصليب الأحمر لـ”سوريا على طول”.

للحيلولة دون انهيار أكبر في البنية التحتية للمياه في لبنان، تقوم منظمات دولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر واليونيسف بتأمين الوقود لمحطات ضخ المياه ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، وتوزيع اختبارات المياه على السلطات اللبنانية ومشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية للمياه.

لكن الوضع أقسى في مخيمات اللجوء التي تواجه الأزمة الاقتصادية ذاتها ببنية تحتية أسوأ، وخيارات ساكنيه محدودة بين المرّ والأمرّ.

تم نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية سلام الأمين.

شارك هذا المقال