8 دقائق قراءة

العشيرة محل الدولة: الحل العشائري على حساب القضاء الرسمي في درعا

تعتمد حوران على الصلح العشائري في العديد من القضايا، لا سيما المعقدة منها. ولكن منذ العام 2011 تزايد الاعتماد على هذا الحل، وبلغ ذروته في السنوات الثلاث الماضية على حساب المحاكم المدنية السورية التابعة للنظام، وسط تشجيع ممثلي النظام في درعا للأهالي على حل مشاكلهم عشائرياً.


14 مارس 2024

باريس – يشارف أبو زكي الزعبي ومجموعة من وجهاء العشائر في حوران على إنهاء خلاف عشائري قديم بين ثلاث عائلات في مدينة طفس بريف درعا الغربي، استمر لسنوات وتحول إلى ثأر متبادل، راح ضحيته أكثر من 20 شخصاً.

وتأتي جهود أبو زكي، 60 عاماً، أحد وجهاء عشيرة الزعبي بريف درعا الغربي، في إطار جهوده مع وجهاء آخرين الرامية إلى “الإصلاح بين الناس وحل الخلافات العشائرية”، حيث يقضي ساعات طويلة من يومه لأجل ذلك. وتعد هذه المجموعة بمثابة لجنة أهلية لإصلاح ذات البين “غير رسمية”، تضم وجهاء عشائريين ومخاتير ورجال دين وقانونيين، كما قال لـ”سوريا على طول”.

كغيرها من المجتمعات العشائرية، تعتمد حوران على الحل أو الصلح العشائري في العديد من القضايا، لا سيما المعقدة منها، مثل قضايا الدم (جرائم القتل)، وقضايا العرض، ولكن منذ عام 2011 شهدت المحافظة تزايداً في الاعتماد على هذا الحل، وبلغ ذروته في السنوات الثلاث الماضية على حساب المحاكم المدنية السورية التابعة للنظام، كما قالت ثلاثة مصادر عشائرية محلية لـ”سوريا على طول”، مشيرة إلى تشجيع ممثلي النظام في درعا للأهالي على حل مشاكلهم عشائرياً.
في 9 آذار/ مارس الحالي، صدر بيان موقع من وجهاء عائلات وعشائر في قرى وبلدات بريف درعا الغربي، أعلنوا فيه تفويض “اللجنة الشرعية في المنطقة الغربية” بإدارة مناطقهم قضائياً، وأنها المخولة “في التصرف بالأمور القضائية، وهي الجهة التي يحق لها استدعاء أو جلب أي مطلوب من أبناء القرى المذكورة”، وجاء في البيان أنه “يحق لأي شخص الإدعاء على أي شخص آخر أو جماعة قامت بالعمل دون إذن اللجنة الشرعية”.

في منتصف شباط/ فبراير الماضي، عُقد صلحين عشائريين في محافظة درعا، بواسطة وجهاء وشيوخ عشائريين ورجال دين إضافة إلى قادة في المجموعات المسلحة المحلية، وأنهى الصلحان قضيتي قتل شهدتهما بلدة محجة بريف درعا الشمالي بعد منتصف عام 2023، ومدينة طفس بريفها الغربي في أواخر العام ذاته.

الصلحان هما من أصل 11 صلح عشائري تتعلق بقضايا الدم فقط، في محافظة درعا، رصدتها “سوريا على طول” منذ مطلع عام 2023 حتى لحظة نشر هذا التقرير.

العشيرة في مكان الدولة!

خلال السنوات الأخيرة ازداد دور الوجهاء في المجتمع الحوراني، حتى صار لهم الدور الأكبر في المجتمع في ظل “غياب دور الدولة”، الذي حلّ محله “زيادة دور العشائر، خاصة في المنطقة الغربية من درعا”، كما قال الزعبي.

منذ عام 2011 حتى اليوم “ذهب جزء يسير من القضايا باتجاه النظام بينما 99% منها حُلت عشائرياً، كما قال الزعبي، مشيراً إلى أن “كل ما يلامس حياتنا اليومية يحل عشائرياً ما عدا تلك المتعلقة بالأمور العقارية والأراضي”.

“في ظل غياب تطبيق القانون المدني السوري، وصعوبة القبض على الجاني من أجهزة الدولة المختصة، صار الصلح العشائري هو الخيار المتاح أمام الناس”، كما قال أحد وجهاء عشائر درعا لـ”سوريا على طول”.

من جهته، قال أبو خالد، أحد وجهاء مدينة جاسم بريف درعا الشمالي أن “الأهالي يفضلون الأحكام العشائرية لأنها لا تستغرق وقتاً طويلاً مقارنة بمحاكم النظام”، وأسهم في ذلك أيضاً “فساد قضاء النظام، من ناحية الرشاوى، وفساد القضاة أو نقص خبراتهم، ناهيك عن أن بعضهم يكون من خلفية عسكرية وليس قانونية”.

وأوضح أبو خالد في حديثه لـ”سوريا على طول” أن “لجنة الحل العشائري تتشكل بموافقة الطرفين، ومن شخصيات معروفة ومقبولة للطرفين، والقرار الصادر عنها ملزم لطرفي الخصام، فكل عائلة وعشيرة لديها شيخ أو وجيه أو شخص كبير يكفلها ويلزمها بالمثول للقرارات الصادرة عن اللجنة”. 

وعدا عن “فساد القضاء، الذي يدفع الناس إلى الحل العشائري كونه عادلاً للطرفين”، فإن “وجود مطلوبين للنظام في طرفي الخصام نتيجة معارضتهم له أو نشاطهم ضده، يعني أنهم مهددون بالخطر في حال دخول أي مؤسسة من مؤسسات الدولة”، بحسب أبو حيان، أحد وجهاء ريف درعا الشمالي.

ويعزز ثقة الناس بـ”الصلح العشائري” أنه كان ركناً مهماً في حوران حتى قبل اندلاع ثورة آذار/ مارس 2011، ومن شأنه أن يعالج جذر المشكلة، كما قال عدد من الوجهاء الذين تحدثوا لـ”سوريا على طول”. إذ من وجهة نظر أبو خالد، من مدينة جاسم، يستحيل أن يحل الحكم القضائي قضايا الدم والعرض “حتى لو أخذت المحكمة قراراً قضائياً فإن الخلاف لا ينتهي إلا بصلح عشائري، والقضاة يعرفون أن حكم القضاء لا يجدي نفعاً من دون حل عشائري، الذي ينتج عنه ما يعرف بالصك العشائري بين طرفي الخصام”.

توضيحاً لذلك، قال أبو خالد: “محاكم الدولة لا تنهي المشكلة، هي تحكم لطرف على طرف، وبالتالي القضية ستبقى مفتوحة عشائرياً لسنوات، لكن الصلح العشائري ينهي جذور المشكلة بقبول الطرفين”.

“هذه أعراف وعادات حوران، الصلح العشائري كان وما زال هو الأساس”، بحسب الوجيه من درعا البلد، مؤكداً أنه “حتى عند وجود قانون فعال، قبل الثورة، لم يغني القضاء عن الصلح”، بل “الحل العشائري أقوى من قضاء الدولة، لأن العشيرة أقوى، إضافة إلى وجود كفلاء عشائريين لتنفيذ الصلح”، ما يجعل من الصعب نقض الصك “لأن النقض يعني تقطيع الوجه، وعواقبه كبيرة جداً في المجتمع العشائري”.

وتقطيع الوجه، هو أحد الأعراف العشائرية العربية، والتي تعني خرق الاتفاق، فبعد اختيار لجنة الإصلاح أو ما تعرف بـ”الجاهة”، تطلب الجاهة “عطوة” (مهلة) من ذوي الضحية لذوي المتهم، وبموافقة الطرف الأول على العطوة، يصبح الطرف الثاني “في وجه شيخ الجاهة” أي بحمايته، لذا فإن خرق الاتفاق يعني “تقطيع وجه شيخ الجاهة”.

الفصائل المحلية ترفع الراية البيضاء!

في العديد من المرات، ظهر الرجل الثاني في اللواء الثامن علي المقداد، المعروف “علي باش” وهو يحمل الراية البيضاء المعقودة (راية الصلح)، ويتوسط عدداً من الشيوخ والوجهاء العشائريين أثناء عقد صلح عشائري في حوران.

اللواء الثامن هو مجموعة عسكرية يقودها أحمد العودة، القيادي السابق في المعارضة السورية، وتتبع حالياً لشعبة الاستخبارات العسكرية لدى النظام. رعى اللواء عدداً من عمليات الصلح العشائري التي جرت في حوران خلال السنوات الماضية، وفي بعض الأحيان كان ضامناً لتنفيذ بنود الصلح.

في ريف درعا الغربي، شكلت اللجنة المركزية -وهي لجنة محلية تشكلت في أعقاب تسوية 2018 تتولى إدارة ريف المحافظة الغربي ودور التفاوض مع النظام وتتبع لها قوة عسكرية من فصائل المعارضة سابقاً- ما يعرف بـ”اللجنة الشرعية”، وهي لجنة أهلية تضم مجموعة من رجال الدين والوجهاء في غرب درعا مهمتها الإصلاح بين الناس وعقد عمليات الصلح تحت مظلة اللجنة المركزية وبدعم من فصائلها.

يشير هذا الوضع إلى التداخل بين العشائر والمجموعات المسلحة المحلية، التي غالباً ما تشكل العشائرية والمناطقية جزءاً من بنيتها وهيكليتها، لا سيما عندما تكون لهذه المجموعات الدور الفعلي في إدارة المنطقة التي تتواجد فيها بمناطق النظام، من قبيل بصرى الشام، طفس، ودرعا البلد.

تعليقاً على ذلك، قال قيادي في اللواء الثامن لـ”سوريا على طول”، أن “اللواء الثامن هو جزء أساسي من النسيج المجتمعي في الجنوب، ودائماً ما كان طرفاً رئيسياً في حماية السلم الأهلي وضبط الأمن بحكم ثقة المجتمع به”، مؤكداً تدخل اللواء في النزاعات المحلية “حسب الحاجة”، فأحياناً “يتدخل من تلقاء نفسه لفض النزاعات وعدم انتشارها في ظل فوضى السلاح”، وأحياناً أخرى “بناء على طلب من الأهالي”.

وأشار القيادي إلى أن “الأهالي يفضلون تدخل اللواء الثامن بسبب عجز الجهات الحكومية وعدم قدرتها على فض هذه النزاعات”.

وفي ريف درعا الغربي، ترعى “اللجنة الشرعية في المنطقة الغربية” عمليات الصلح العشائري، كما هو حال اللواء الثامن، كان آخرها خلاف وقع بين آل الكفري ومجموعة عسكرية محلية تعمل لصالح الأمن العسكري، في مطلع الشهر الحالي. 

وفيما تشير اللجنة إلى أنها مستقلة، قال مصدران لـ”سوريا على طول” أنها تعمل برعاية اللجنة المركزية ومجموعات عسكرية تابعة لها. 

قال أحد أبناء طفس لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم ذكر اسمه لدواع أمنية، “تضم اللجنة شخصيات تابعة للجنة المركزية، وأحكامها مشكوك بها أحياناً”، مشيراً إلى أنها “حكمت في أكثر من حادثة ولم يلق حكمها ترحيباً من الأطراف المتخاصمة”، من قبيل حادثة آل الكفري على سبيل المثال.

واتفق أبو عبد الله، أحد رجال الدين في غرب درعا مع ذلك، قائلاً لـ”سوريا على طول”: “إذا تعلقت القضية بالفصائل والقادة فاللجان الشرعية والعشائر غير عادلة ومتحيزة”، وهذا يشمل المناطق الواقعة تحت سيطرة اللواء الثامن أيضاً، بحسب رأيه.

مشكلة الحل العشائري

شارك أبو عبد الحق، رجل دين في مدينة إنخل، في حل العديد من القضايا بين الناس في مدينته، ولاحظ أثناء ذلك أن “الناس تلجأ للحل العشائري هرباً من دفع بعض الحقوق المترتبة عليها، مثل الحقوق المترتبة على ما يعرف بفورة الدم بعد أي حادثة قتل”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.

“فورة الدم” هو فعل يقوم به أقارب الضحية ضد الجاني وعائلته، من قبيل إحراق ممتلكات الضحية أو أقاربه، أو ارتكاب أفعال أخرى بحقهم.

شرعاً، في قضايا الدم يُحكم لأهل القتيل بـ”الدية”، لكن في المقابل إذا ما أقدموا على “فورة الدم” يتعين عليهم “دفع تكاليف الممتلكات التي أحرقوها”، مشدداً على أنه “في الشريعة الإسلامية لا يوجد فورة دم”، لذلك “يلجأ البعض إلى الحل العشائري تهرباً من دفع تكاليف الأضرار الناجمة عن فورة الدم، والتي يسقطها الحل العشائري”.

وكذلك، يتضمن الحل العشائري ما يُعرف بـ”الجلوة” أي النفي، وبموجبها يغادر الجاني وأفراد محددين من عائلته إلى مسافة معينة يتفق عليها طرفا الخصام، وهذا أيضاً مخالف للشريعة الإسلامية، وفقاً لأبو عبد الحق، معتبراً أن “أهل الضحية يفضلون الحل العشائري للحصول على طلبات تخالف الشريعة والقانون السوري”. 

رداً على ذلك، قال الوجيه أبو زكي الزعبي، أن “الجلوة لمدة معينة متفق عليها، وهي بمثابة الحق العام، وتختلف مدة الجلوة بحسب نوع الجريمة وبشاعتها، وتقدر من سنة فأكثر”.

ورغم ذلك، شارك أبو عبد الحق في عقد أكثر من صلح عشائري تضمنت الجلوة وفورة الدم، “بسبب تفضيل أهل الضحية ذلك ورغبة منا لحقن الدماء بسبب غياب قوة القانون”على حد قوله.

وأضاف أبو عبد الحق: “مشكلتنا الأساسية في إنخل مثلاً، غياب قوة الدولة. لا يستطيع المخفر إلقاء القبض على أحد، والعشيرة صارت أقوى وأقدر على إنهاء المشاكل، والناس تحتكم لقوة السلاح”.

من ناحية قانونية “كل صلح عشائري لم يوثق بصك مكتوب وموقع عليه من قبل الأطراف المتخاصمة لا يُعتد به قانوناً، لكن الصلح المصكوك والموقع عليه من الأطراف له فعالية ويؤخذ به”، كما قال المحامي عدنان المسالمة، أحد وجهاء مدينة درعا.

وأوضح المسالمة في حديثه لـ”سوريا على طول” أن “الحل العشائري لا يشمل الحق العام، إذ يقضي فقط بالحقوق الشخصية”، لذا فإن إسقاط الحق الشخصي في قضايا الدم والجرائم الكبيرة “لا يعني إسقاط الحق العام قانوناً، وإنما هو يسقط الحق المدني والتعويض، ويبقى الحق العام، لكن يستفيد الفاعل من خلال الصلح العشائري بتخفيض العقوبة”.

ورغم أن الحل العشائري “مبني على الرضا ووصول صاحب الحق لحقّه، ويبسط الإجراءات البيروقراطية التي تعيق الوصول إلى حل، ويسرع عملية التقاضي”، إلا أن “ما يعيبه هو عدم وجود زاجر مثل التوقيف الاحتياطي والحق العام الذي يستوجب إيقاع عقوبات زاجرة ومشددة على ارتكاب بعض الجرائم التي تؤذي المجتمع ولها تأثير كبير على الناس، وتكون عقوبتها مشددة قضائياً رغم المصالحة”.

وأشار المسالمة إلى أن “حوران تعيش حالة توافق عشائري، والناس تلجأ للحل العشائري اختصاراً للوقت، ومن أجل تدخل العقلاء وأهل الحل والعقد بسبب كثرة حوادث القتل وما ينتج عنها من حرق للبيوت وإجلاء لأقارب الجاني من مكان الجريمة”، إضافة إلى “عدم تدخل الدولة وعدم قدرتها على علاج الأسباب أو التحقيق وتوقيف الفاعلين والمشاركين بهذه الأفعال”.

من جهته، قال الوجيه من درعا البلد: “في بعض الأحيان تتدخل محاكم النظام وتصدر أحكاماً غيابية بحق المجرم، لكنها لا تستطيع تنفيذ الأحكام”، وفي الوقت الراهن “يبدو أن القضاء التابع للنظام يتماشى ويتهاون في تطبيق الحق العام، لأن الجناة عادة يكونون خارج السجن، وفي حال كانوا في السجن يكتفي القاضي بمدة التوقيف إذا حصل الاسقاط والصلح العشائري”.

ورأى الوجيه أن القضاء السوري، يشجع الوجهاء على حل المشاكل بعيداً عن المحاكم المدنية “لكي يزيح عن كاهله القضايا الكثيرة، في ظل النقص الحاصل بالقضاة”، مشيراً إلى أن “المحامي العام في درعا يتساهل بحل القضايا في حوران للتخفيف عن كاهله”.

وهو أيضاً ما أكده المحامي عدنان المسالمة، مشيراً إلى أن “هناك موافقة من المحامي العام بدرعا بتسهيل الأمور لحل القضايا عشائرياً لأسباب عديدة منها نقص القضاة وعدم قدرة القضاء على تنفيذ المذكرات والأحكام الصادرة بالقضايا التي تصل إلى المحاكم، بسبب عدم قدرة الشرطة على تأدية عملها في الأماكن التي لا تخضع للنظام بشكل مباشر” كما في الجنوب السوري.

وقال أبو زكي الزعبي، بعد توقيع الصك العشائري “يبقى الحق العام معلق، حتى يقوم المجرم بتسليم نفسه للنظام، أو ينتظر أن يشمله عفو رئاسي عام، في حال لم يُوقف المتهم”.

نتيجة زيادة الاعتماد على الحل العشائري وبسبب الحوادث المتكررة “يعتزم أهل الحل والعقد ووجهاء العشائر بحوران الدعوة لمبادرة سيتم الإعلان عنها قريباً تتعلق بحالة فورة الدم والجلوة”، هدفها “الحد من حالات الثأر وحرق البيوت الجائر الذي يحصل بعد ارتكاب جريمة، من خلال منع أقارب المجني عليه من استغلال الجريمة بالقصاص من أقارب الجاني وحرق بيوتهم”، عبر “تحميل كل من يتعدى على أملاك الناس مسؤولية فعله وعدم التعلل بفورة الدم، وأن تكون الجلوة للفاعل فقط دون أقاربه أو عشيرته”.

شارك هذا المقال