7 دقائق قراءة

العمل السام: “حراقات النفط” شمال غرب سوريا مهنة الموت في سبيل الحياة

طريقة تكرير النفط البدائية لا تشكل خطراً على العاملين في "الحراقات" فقط، وإنما تجعل من المشتقات المستخرجة منها "خطرة جداً"، كون "المازوت" المستخرج من هذه المصافي يحتوي على نسبة كبيرة من الغاز، ما يؤدي إلى حدوث انفجارات واندلاع حرائق


10 يونيو 2022

باريس، الباب- يقضي عبد الرحمن سعيد ساعات عمله في إحدى مصافي تكرير النفط البدائية “الحرّاقات”، في قرية ترحين بريف حلب الشمالي، تحت خطر دائم، فالعمل في هذا المكان أشبه “بالقنبلة الموقوتة”، كما وصفه لـ”سوريا على طول”.

“أنت تعمل بالنار.. النار تحت خزّانات الحرّاقات التي تعمل بها”، قال سعيد، الذي تعرض خلال عمله في هذا المجال منذ خمس سنوات لحروقٍ في أنحاء جسده. ومع ذلك، يعمل الشاب النازح من مدينة السفيرة، جنوب شرق حلب، من دون استخدام معدات سلامة جسدية كالملابس العازلة والقفازات والخوذ لإعالة زوجته وطفليه.

تمثّل “الحرّاقات” مصدر دخل لمئات العمال، بينهم أطفال ونساء، في قرية ترحين بمنطقة الباب، الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا، وتوفّر هذه المصافي جزءاً من احتياجات المنطقة، التي يقطنها نحو أربعة ملايين نسمة، من وقود التدفئة والطهي.

ونظراً لموقعها الاستراتيجي على طريق حلب-اللاذقية الدولي (M4)، الذي يصل مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شمال شرقي سوريا، بمناطق سيطرة المعارضة في شمالها الغربي، أصبحت منطقة الباب وما حولها، منذ عام 2015، مركزاً لتجميع النفط الخام القادم من آبار النفط شرق البلاد، وانتشرت فيها “الحرّاقات” التي تنتج مادة “المازوت” بطرق بدائية. 

ومع أن الضربات الجوية للنظام السوري وروسيا أخرجت، حتى عام 2020، معظم “الحرّاقات” عن الخدمة، تنتشر في قرية ترحين 400 حرّاقة، تعمل منها حالياً 100 حرّاقة، بحسب عضو في المجلس المحلي لبلدة قباسين، التي تتبع لها ترحين إدارياً، وتؤمن هذه الحرّاقات فرصة عمل “لحوالي ألف عامل تقريباً، كما قال العضو الذي طلب عدم الكشف عن اسمه لدواعٍ أمنية.

يتوقف عمل “الحرّاقات” على كمية “النفط القادم من مناطق سيطرة الأكراد”، وفقاً لأحمد العبد الله، صاحب إحدى الحرّاقات في ترحين، موضحاً لـ”سوريا على طول” أنهم – أي الإدارة الذاتية التي تسيطر على شمال شرق سوريا – “المتحكمون بكل شيء، بما في ذلك الكمية والسعر”.

صورة جوية (درون) تظهر عشرات مصافي تكرير النفط البدائية (الحراقات) في ترحين بمنطقة الباب، 22/ 3/ 2022، (سعد علوان، منظمة بنفسج)

العمل القاتل

في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022، أخمد الدفاع المدني السوري، المعروف باسم “الخوذ البيضاء”، أكثر من 550 حريقاً في شمال غرب سوريا، نشب 10% منها في محطات المحروقات ومصافي تكرير النفط البدائية، بحسب أرقام حصلت عليها “سوريا على طول” من الدفاع المدني السوري.

ومن أصل العدد الإجمالي للحرائق، نشب 35 حريقاً في “حرّاقات” ترحين البدائية، ما أدى إلى إصابة عاملين فيها، طفل وشاب، كما قال حسن محمد، المتطوع في الدفاع المدني بمنطقة الباب، لـ”سوريا على طول”، ويعود السبب إلى “طبيعة العمل وغياب إجراءات السلامة بشكل كامل”.

[irp posts=”44744″ name=” أخطر من الجبهات”: عمال “حراقات النفط” مدفوعون بالفقر (صور)”]

ويتم استخراج المازوت في “الحرّاقات” بطرق بدائية، حيث يتم وضع النفط الخام داخل خزّان تتفرع منه أنابيب، وتوقد النار من تحته ليصل النفط إلى درجة الغليان، ومن ثم يتبخّر النفط في أنابيب تمر عبر مجرى مائي، بهدف تكثيف المشتقات النفطية وتحويلها من غاز، وتصل في نهاية الأنبوب سائلاً.

صورة تظهر الأنابيب التي يمر عبرها النفط المكثف من الخزان الرئيسي إلى بركة الماء، 12/ 5/ 2022، (سعد علوان، منظمة بنفسج)

طريقة التكرير البدائية للنفط الخام لا تشكل خطراً على العاملين في “الحراقات” فقط، وإنما تجعل من المشتقات المستخرجة منها “خطرة جداً”، بحسب محمد، موضحاً أن “المازوت المستخرج من هذه المصافي يحتوي على نسبة كبيرة من الغاز، ولا يمكن فصل البنزين عنه بشكل نهائي”، وهو ما يؤدي إلى “حدوث انفجارات أو اندلاع حرائق في المدافئ أو محركات الآليات”.

ورغم إدراك المدنيين مدى “خطورة المشتقات النفطية المستخرجة الحرّاقات”، إلا أن تردي أوضاعهم الاقتصادية “تجبرهم على استخدامها كون ثمنها أقل من الأنواع الأخرى”، وفقاً لمحمد. يبلغ سعر لتر المازوت المكرر 2150 ليرة سورية (0.55 سنتاً أميركياً بحسب سعر الصرف الحالي البالغ 3945 ليرة للدولار)، مقارنة بـ 3350 ليرة (0.90 سنتاً) للمازوت المستورد.

وبدورها، تعمل فرق الدفاع المدني على توعية العاملين في المهن الخطرة التي ترتفع فيها احتمالية حدوث حرائق، بما في ذلك “الحرّاقات”، بهدف الحدّ من الحوادث المميتة، مخصصة “جلسات تدريب عن الحرائق وأنواعها ومسبباتها وكيفية استخدام أجهزة الإطفاء اليدوية وكيفية الإخلاء السليم في حال حدوث حرائق”، بحسب محمد. 

يمكن أن تحدّ هذه الحملات من الحوادث المميتة، لكنها لن تستطيع حماية العمال من المخاطر الصحية الملازمة للعاملين، أو من ضربات النظام السوري وحليفه الروسي، إذ وثق الدفاع المدني ثلاث ضربات جوية استهدفت “الحراقات” العام الماضي، ما أدى إلى مقتل ثلاثة مدنيين، بينهم متطوع في الدفاع المدني، وإصابة ثمانية آخرين بجروح، وتسببت باندلاع “حرائق ضخمة نتيجة وجود عدد كبير من خزانات الوقود”، كما قال محمد.

الأولوية للعمل

لا يفكر عمّال “الحراقات” بتداعيات عملهم على صحتهم والمجتمع المحيط بهم أو على البيئة، كما في حالة جمعة علي الحسين، النازح من مدينة السفيرة، والعامل في إحدى “حراقات” ترحين، معتبراً أن “كل شيء هيّن، إلا قلة المال”، بحسب قوله لـ”سوريا على طول”.

يعيش الحسين مع “الروائح الكريهة المنبعثة من الحرّاقات يومياً”، وكثيراً ما يشعر “بضيق في التنفس”، ويدرك تأثير “الحراقات” على البيئة، معترفاً أن “الزراعة في ترحين ليست كما كانت عليه في السنوات الماضية”. رغم كل ذلك “الأهم هو العمل”.

[irp posts=”44724″ name=” حراقات النفط” شمال غرب سوريا: تفتك بالزراعة وتهدد البيئة (صور+فيديو)”]

وتختلف أجور العمال في “الحراقات” بحسب مهامهم، فالمشرف على العملية، ويقال له “الطبّاخ”، تتراوح أجرته على “الطبخة الواحدة” بين 30 و40 دولاراً، بحسب عبد الرحمن سعيد، وهو مبلغ جيد في أوقات الذروة، لكن في الأشهر الأخيرة “قد لا تعمل الحراقة أكثر من ثلاث مرات في الشهر، ما يعني أن سقف الدخل الشهري لا يتجاوز 120 دولاراً”.

أما عامل النظافة لا تتجاوز أجرته 5 دولارات في اليوم، كما قال ممدوح عيسى المطير، مشيراً لـ”سوريا على طول” أن صاحب الحراقة يدفع بين 30 و40 دولاراً لعمال التنظيف “على الحرقة الواحدة”، وهذا المبلغ “يتقاسمه ست عمال”.

يعدّ دخل الحراقات جيداً بالنسبة للعاملين في هذا القطاع مقارنة بمهن أخرى، كما ذكرت مصادر محلية لـ”سوريا على طول”، إذ يتقاضى المعلم في مناطق سيطرة المعارضة بريف حلب الشمالي 1000 ليرة تركية (60 دولاراً)، فيما تتراوح أجرة العامل في المطاعم أو المحلات التجارية يومياً بين 2 و3 دولارات أميركية.

مقابل هذا العمل، تظهر تداعيات خطيرة على صحة العاملين في الحراقات، بما في ذلك النساء والأطفال الذين يجمعون الفحم من الحراقات لبيعها، نتيجة الأبخرة السامة، وإذا كان العامل غير معتاد على طبيعة العمل “لا يمكنه تحمل خمس عشرة دقيقة في مكان العمل”، وفقاً لأحمد العبد الله، الذي يضطر أحياناً “ترك المنطقة المحيطة بالحراقات لاستنشاق بعض الأوكسجين”، بحسب قوله.

وقد تكون الأضرار “جسيمة” كما وصفها العبد الله، ومنها “الأضرار في قرنية العين التي تسببها الغازات المنبعثة من الحراقات”، وقد تصل بعض الحالات “إلى إصابة العامل بالعمى”.

وتتسع دائرة التأثر صحياً بـ”الحراقات” إلى سكان المنطقة، كما أوضح طبيب في مركز الباب الصحي لـ”سوريا على طول”، مؤكداً “إدخال عشرات الأطفال إلى المركز بسبب مشاكل تنفسية أو نتيجة الإصابة ببعض الأمراض الجلدية، وهي غالباً تحسسية نتيجة التماس مع مشتقات المواد النفطية”.

وحذّر الطبيب، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية، من أن “الأشخاص المقيمين في منطقة الحرّاقات عرضة للإصابة بالأمراض التنفسية والجلدية، وقد تتحول إلى أمراض مزمنة في حال بقائهم على تماس مع المشتقات الناتجة أو المنبعثة عن هذه الحراقات”.

خارج الاهتمام والرقابة

في إحاطته أمام مجلس الأمن، للحديث عن الوضع الإنساني في سوريا، قال وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالة الطوارئ، مارتن غريفيث، أن أكثر من 90% من سكان سوريا يعيشون تحت خط الفقر، وهو ما يضطر الكثير منهم إلى “اتخاذ خيارات صعبة للغاية لتغطية نفقاتهم، وبالتالي يواجهون مخاطر أكبر من الاستغلال”.

الظروف المعيشية التي يعيشها السوريون، لا سيما النازحون في شمال غرب سوريا، تدفع الكثير منهم إلى العمل في مهن خطرة، من قبيل الحرّاقات، في ظل غياب وجود القوانين والأنظمة التي تضبط هذه الأعمال أو تحد من خطورتها.

وفي هذا السياق، قال العضو في المجلس المحلي لبلدة قباسين بأن “المجلس ليس له أي سلطة على هذه الحراقات”، التي تعمل “بدون تراخيص ولا قوانين تضبط عملها”.

في المقابل، تسعى المنظمات الإنسانية العاملة في شمال غرب سوريا إلى بذل جهود واسعة في نشر التوعية لتقليل المخاطر الصحية والبيئية الناجمة عن المهن الخطرة، من قبيل “توعية السكان لاتباع أساليب السلامة في العمل، والحدّ من استخدام الوقود بمختلف أنواعه مقابل الاعتماد على الطاقة البديلة”، كما قال مدير برنامج الأمن الغذائي وسبل العيش في منظمة بنفسج، خالد قبش، لـ”سوريا على طول”.

الأهم من ذلك، تعمل “بنفسج” على “تأمين أعمال سبل عيش للعائلات الأشد حاجة”، وقد أطلقت المنظمة هذا العام “مشروع النقد مقابل العمل” في منطقة الباب، حيث تنتشر الحرّاقات، ويوفر المشروع فرص عمل لنحو 110 عامل وعاملة لمدة ثلاثة أشهر”.

وسبق للمنظمة أن أطلقت عدة برامج مشابهة بالتعاون مع منظمات دولية، وفقاً لقبش، إذ وصل عدد المستفيدين منها في عام 2019 إلى 2800 شخصاً، وفي الربع الأخير من عام 2020 بلغ عدد المستفيدين 2100 شخصاً.

ولكن، لا يمكن الحدّ من المهن الخطرة، بحسب قبش، من دون إبداء اهتمام خاص بالأوضاع المعيشية والاقتصادية للمدنيين “وتأمين مصادر دخل بديلة لهم”.

 

تم إنتاج هذا التقرير بتمويل من الاتحاد الأوروبي، لكنه لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي، وتتحمل منظمتا “سوريا على طول” و”بنفسج” مسؤولية المعلومات الواردة فيه.

شارك هذا المقال