8 دقائق قراءة

قتيلات، مُهجرات، منفيات: الحركة النسائية السورية بعد 13 عاماً على الثورة

في الوقت الذي يحتفي به السوريون في ذكرى الثورة السورية الثالثة عشرة، التي انطلقت في آذار 2011، تتفكر الناشطات في حالة الحركة النسائية بعد أكثر من عقد على الحرب. فماذا بقي منها اليوم بعد الصراع والتهجير والاضطهاد؟


15 مارس 2024

مرسيليا، إدلب- في الوقت الذي يحتفي به السوريون بالذكرى الثالثة عشرة للثورة السورية، التي انطلقت في آذار/ مارس 2011، تعيش غالية الرحال، المؤسِسِّة المشاركة لمنظمة مزايا التي تهدف إلى تمكين المرأة  ومقرها إدلب، في المنفى بالعاصمة الألمانية برلين، بعد أن هُجِّرت مرتين، الأولى من قبل نظام الأسد، والثانية بعد محاولة اغتيالها في شمال غرب سوريا.

تعود أصول الرحال إلى مدينة كفرنبل في ريف إدلب الجنوبي، البلدة التي ارتبط اسمها بالإبداع الثوري، إذ كان المتظاهرون، لسنوات طويلة، يرفعون لافتاتهم المخطوطة باللغة الإنجليزية يخاطبون فيها نظام الأسد وحكومات العالم والضمير العالمي. 

كانت الرحال مصففة شعر (كوافيرة) قبل الثورة، وعند اندلاعها انخرطت في النشاط الثوري، وشاركت في أعمال الإغاثة والحشد والمناصرة للثورة والمرأة السورية.

عندما استعاد النظام السيطرة على كفرنبل في عام 2020، فرَّت إلى المناطق الشمالية الخارجة عن سيطرة دمشق، التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام وتتحرك فيها أحياناً خلايا تنظيم داعش، وهناك واصلت عملها في تمكين المرأة.

بعد نحو عام “تعرضت لمحاولة اغتيال بسيارة مفخخة”، كما قالت الرحال لـ”سوريا على طول”، وتشتبه أنَّ الهئية أو خلايا التنظيم وراء الحادثة. اضطرت إلى الفرار ثانية، ولكن هذه المرة إلى تركيا ومن ثم تم إعادة توطينها في ألمانيا عام 2023. 

الرحال ليست الناشطة النسوية السورية الوحيدة التي تعرضت للقتل والتهجير في السنوات الأخيرة. منى الفريج، ناشطة سورية من مدينة الرقة، شمال شرق سوريا استهدفها تنظيم داعش في عام 2014.  وقبل أن يعلن التنظيم المدينة عاصمة الخلافة، كانت الفريج المرأة الوحيدة في المجلس المحلي لمدينة الرقة، التابع للمعارضة، الذي تأسس بعد وقت قصير من انسحاب النظام السوري وسيطرة الجيش الحر على الرقة في عام 2013.

“داهم تنظيم الدولة منزل عائلتي لاعتقالي”، كما قالت الفريج لـ”سوريا على طول”، فهربت من سطح المنزل وتمكنت من النجاة بصعوبة، ووصلت إلى تركيا في عام  2014، وعاشت حالة من الهلع لدرجة أنها كانت تخشى “لأربعة أشهر من فتح باب المنزل”.

في عام 2017 عادت الفريج إلى الرقة بعد طرد التنظيم من قبل التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). ولكن في عام 2019 اضطرت إلى الفرار مرة أخرى إلى تركيا، بعد أن تعرضت للابتزاز والملاحقة من قبل عنصر في “قسد”. 

كانت النساء مثل الفريج والرحال جزءاً لا يتجزأ من الثورة السورية منذ انطلاقتها سواءً بالمشاركة النشطة أو التنسيق. ومع فتح مساحات جديدة للمشاركة السياسية والاجتماعية، تجذرت المنظمات النسوية ونمت، وأبدعت النساء في إيصال أصواتهن بطرق جديدة، لكن “لا يمكننا أن نذكر الثورة من دون الحديث عن ما تلاها من حرب خلال 12 عاماً”، قالت ماريا العبدة، التي ترأس المنظمة الحقوقية “النساء الآن من أجل التنمية”. 

واقع المرأة بعد أكثر من عقد على الثورة والحرب قاتم، إذ تعاني النساء على وجه الخصوص من وطأة الفقر وانعدام الأمن المتفشّيين، وتواجه الناشطات تهديدات واسعة النطاق من سلطات الأمر الواقع، ونظام الأسد ومجتمعاتهنّ، وقد قُتل بعضهن وشُردن ونُفين.

لا يزال بعضهنّ يواصلنَ الكفاح في الميدان، إلا أن المخاطر التي يواجهنها خطيرة و حقيقية. ولا يغيب عن الذاكرة اغتيال الناشطة النسوية هبة حاج عارف مؤخراً في ريف حلب الشمالي، الجرح الجديد الذي يلقي بظلاله الثقيلة على الناشطات السوريات.

فماذا بقي من الحركة النسائية السورية بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على الثورة؟

إيجاد مكان في الثورة

ما تزال ذكريات المظاهرات السلمية في بلداتهنّ في عامي 2011 و2012  محفورة في ذاكرة  الفريج والرحال. شاركت النساء في الاعتصامات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين في زنازين النظام وطالبن بالإصلاحات السياسية.   

كانت ميساء المحمود طالبة جامعية في مدينة حلب عندما بدأت الثورة، آنذاك شاركت في تأسيس لجنة تنسيق محلية لتنظيم المظاهرات بالتعاون مع مجموعات مشابهة في مدن سورية أخرى. في بادئ الأمر، استخدمت اسماً مستعاراً مذكراً، لأن “أعداد النساء اللاتي يشاركن في المظاهرات لم تكن كبيرة بسبب العادات والتقاليد”، كما أوضحت لـ”سوريا على طول”، وتغير ذلك مع الوقت فاستخدمت اسمأً مستعاراً مؤنثاً.

مع انتشار المعارضة، شنت دمشق حملة قمع ضد معارضيها، وهرعت إلى ملاحقة المتظاهرين واعتقالهم وإخفائهم قسرياً. وفي عام 2012، تعرض منزل المحمود للمداهمة، فهربت إلى مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، التي تسيطر عليها المعارضة، وأسست مجموعة إغاثية مثل تلك التي أسستها الفريج في الرقة من أجل تقديم العون للفارين من القمع الدموي.

ومع ذلك، كانت دمشق تفقد سيطرتها على المدن واحدة تلو الأخرى، ويسيطر عليها الجيش السوري الحر. كان الفكر الثوري يزدهر وينتشر وكذلك الفكر النسوي. تستذكر العبدة، التي ترأس “النساء الآن من أجل التنمية”، الثورة في عام 2011 كـ”لحظة هامة نسفت الوضع السائد وفتحت أبواباً لطرح الأسئلة ومناقشة مواضيع لم يكن هناك إمكانية لنقاشها قبل ذلك”.

في ظل حكم الحزب الواحد في سوريا “لم يكن لدينا هذا الانفتاح”، بحسب الرحال. كانت المشاركة السياسية للمرأة تقتصر إلى حد كبير على الاتحاد النسائي لحزب البعث. و”أي امرأة كانت تتولى منصباً كانت تتحدث باسم النظام”، قالت المحمود.

اليوم، “تتوسع دائرة النسوية بانضمام المزيد من النساء”، وفق الرحال، وهو ما تراه “نجاحاً بحد ذاته، فنحن النساء السوريات لم نكن نعلم بشيء اسمه النسوية”. 

أبدت بشرى الدبل، التي تترأس مركز تأهيل المرأة والطفل، وهي منظمة تطوعية محلية في ريف إدلب الشمالي، تأييداً لكلام الرحال، قائلة: “من قبل، لم تكن المرأة تتجرأ على الحديث عن حقوقها، ولم تكن تعرف حقوقها أصلاً”. وأضافت “بعد الثورة تفتحن وبدأن يطالبن بحقوقهن”، وشملت هذه المطالب “الوصول إلى فرص العمل، وإبداء الرأي، والمشاركة في في صنع القرار”.

“كانت هناك حركة مدنية رائعة، مع تشكيل مجموعات ومنظمات المجتمع المدني”، بما في ذلك المجموعات النسائية، كما استذكرت الفريج، مشيرة إلى مشاركة الشباب والشابات على حد سواء بتنظيم الانتخابات في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة حديثاً.

مع مرور السنين، بدأت بعض المجموعات النسائية التطوعية، كمجموعتي الرحال والعبدة بالحصول على التمويل وأصبحت منظمات غير حكومية. وساعدتهم المنح المقدمة من الجهات المانحة الدولية على توسيع عملهم وإضفاء الطابع الرسمي عليه، غير أنها تركتهم معتمدين عليها. واليوم تكتنف الضبابية مستقبل هذه المنظمات في ظل تضاؤل ​​التمويل المخصص لسوريا.

نساء يشاركن في إحياء الذكرى 13 للثورة السورية في مدينة إدلب،  شمال غرب سوريا، الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، 15/ 03 / 2024 (عفاف جقمور/سوريا على طول)

نساء يشاركن في إحياء الذكرى 13 للثورة السورية في مدينة إدلب،  شمال غرب سوريا، الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، 15/ 03 / 2024 (عفاف جقمور/سوريا على طول)

التحول إلى منظمات غير حكومية

تأسست مزايا، المنظمة التي تديرها الرحال في كفرنبل عام 2013، وبدأت كمركز نسائي يديره متطوعون، يُقدم التدريب المهني ودورات الإسعافات الأولية في وقت كانت براميل النظام المتفجرة تنهال على مناطق المعارضة.

وبتمويل خارجي، توسع المركز ليصبح منظمة غير ربحية تقدم حالياً الدعم النفسي والاجتماعي والتعليم ودورات محو الأمية، وتُعزز التمكين السياسي، مثل التصويت والمناصرة ومهارات القيادة للنساء في شمال غرب سوريا.

كانت منظمة العبدة النساء الآن من أجل التنمية، مبادرة أيضاَ تديرها متطوعات. بدأت المنظمة، التي تأسست في عام 2012، بإنشاء “مساحات آمنة” للنساء في الغوطة الشرقية وإدلب، بحسب ما ذكرت. وتشمل أنشطتها اليوم الدعم النفسي الاجتماعي، والتمكين الاقتصادي، والمشاركة السياسية من أجل “مستقبل سوريا الديمقراطية” في جميع مناطق السيطرة.

مع ذلك، رأت العبدة أنَّ التحول إلى منظمات غير حكومية له ثمنه، فالتمويل يأتي بـ”شروط” ويتبع “التيارات السائدة” وفقاً لشعار المرحلة، وكان ذلك على حساب الاستدامة أيضاً.

تقف كل من منظمتي مزايا و”النساء الآن” حالياً على مفترق طرق بعد أن  تم تخفيض الدعم المقدم لسوريا. أكدت الرحال على ضرورة الاستمرار في تقديم الدعم، لأنه “إذا انقطع الدعم، ستحدث فجوة كبيرة في المجتمع”. وتخشى زيادة “العنف في المجتمع، بما في ذلك القتل والاغتيالات والانتحارات”.

وبينما تعتمد منظمة العبدة أيضاً على تمويل المانحين، أشارت إلى أن هناك “مبادرات عضوية ستستمر حتى لو لم تحصل على التمويل”. على سبيل المثال، استمرت بعض المبادرات، مثل مركز تأهيل المرأة والطفل، منظمة تطوعية صغيرة ترأسها بشرى الدبل، وفي بعض الأحيان لم تحظ سوى بمنحة واحدة . يُذكر أن المركز تأسس عام 2017 في كفرتخاريم بمحافظة إدلب، ويديره فريق مكون من 15 متطوعة.

وقالت الدبل إن المركز يوفر التدريب الفني والمهني “لتمكين المرأة على الاستقلال المالي”، في سياق غالباً ما يُغيَّب فيه الرجال، يُقتَلون أو يُخفَون أو يُنفون. كما تقدم منظمتها خدمات قانونية تُمكن المرأة من المطالبة بحقوقها في السكن والملكية، والحصول على الميراث وإثبات الوصاية على أطفالها.

وتشمل المبادرات الشعبية الأخرى التنسيقيات النسائية عبر الإنترنت، التي تتمحور حول القضايا المحلية والوطنية. ومنها تنسيقية حرائر سوريا التي أسستها المحمود و ناشطات أخريات في عام 2014، تتألف من نساء من جميع أنحاء البلاد وخارجها. وعبر الواتساب ينظم أعضاء المجموعة التظاهرات، كان آخرها الاحتجاجات في اعزاز، التي تطالب بإطلاق سراح المعتقلين من سجون النظام. وقد شاركن أيضاً في المظاهرات التي خرجت تضامناً مع الحراك الاحتجاجي في السويداء.

تبعث هذه المبادرات الأمل في قدرة الحركة النسائية السورية على الصمود. قالت العبدة: “ستستمر النساء في الكفاح، فليس لديهن خيار آخر”، خاصة أنهنّ يشكلن غالبية السكان داخل سوريا وهنّ “سوف يُعدن بناء البلد”.

نساء يحملن علم الثورة السورية، طوله 75 متراً، خلال ورشة عمل للأشغال اليدوية في مركز مزايا النسائي بمدينة كفرنبل، عام 2014، (منظمة مزايا)

نساء يحملن علم الثورة السورية، طوله 75 متراً، خلال ورشة عمل للأشغال اليدوية في مركز مزايا النسائي بمدينة كفرنبل، عام 2014، (منظمة مزايا)

“غياب الأفق”

ترى الناشطات الخمس أنه لا يمكن عزل ظروف المرأة عن الوضع الأمني ​​والسياسي والاقتصادي في البلاد، ويشمل ذلك انتشار العنف وغياب سلطة القانون وانعدام الأمن الذي تعاني من ويلاته النساء تحديداً.

“لم تحصل المرأة السورية على حقوقها، فحياتها ما تزال تحت التهديد”، قالت الرحال، مستشهدة على ذلك بـ”مقتل هبة”، في إشارة إلى اغتيال الناشطة هبة حاج عارف في 26 شباط/ فبراير الماضي.

اقرأ أكثر: اغتيال هبة: جريمة تستهدف “المجتمع النسوي” السوري وتكشف ضعف آليات الحماية

عُثر على هبة عارف مشنوقة في منزلها بريف حلب الشمالي، الشهر الماضي، بعد سلسلة طويلة من التهديدات، ومن ضمنها تهديدات من فصيل محلي، لكن السلطات المحلية ادعت أنها ماتت منتحرة، دون إجراء تشريح للجثة. ومع ذلك، ليس لدى زميلاتها الناشطات وأفراد عائلتها أدنى شك في أنها اغتيلت.

تأثرت مجموعة “حرائر سوريا” بمقتل هبة الحاج عارف، لكنهن لم ينظمنَ مظاهرات بسبب الخوف والقلق على أمنهنّ، وفقاً للمحمود، موضحة أن “هناك سبل أخرى يتم استخدامها للضغط على السلطات المحلية لإعادة فتح التحقيق”. دعت الحركة السياسية النسوية السورية التي تنتسب إليها المحمود، إلى إجراء تحقيق دولي مستقل.

وقالت العبدة أنَّ الوضع الأمني ​​للنساء “ليس أفضل في مناطق النظام” ولكنه “أفضل قليلاً في المناطق التي تسيطر عليه “قسد”. على سبيل المثال، اتخذت الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا، الجناح المدني لـ”قسد” خطوات أكثر تشديداً فيما يسمى جرائم “الشرف” مقارنة بالسلطات الأخرى داخل سوريا. ومع ذلك، تستمر هذه الجرائم بسبب الأعراف الاجتماعية المتأصلة.

اقرأ أكثر: ذكورية أقوى من القانون: “جرائم الشرف” تحصد أرواح مزيد من نساء شمال شرق سوريا

وفي غضون ذلك، ما تزال البلاد عالقة في مأزق سياسي، إذ “لا توجد مؤشرات على انتقال سياسي أو عدالة انتقالية أو أي استقرار”، بحسب الفريج.

وفي وقت توجد بعض مظاهر الديمقراطية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فإن تمثيل المرأة سياسياً ما يزال رمزياً في أحسن الأحوال، كما قالت الناشطات. حتى في شمال شرق سوريا “المرأة ليست سوى واجهة صورية” عندما توجد حصص للتمثيل السياسي للمرأة، وفقاً للفريج. 

تواجه سوريا أيضاً أسوأ أزمة اقتصادية منذ القرن العشرين، وتعاني النساء خصوصاً من وطأة تداعيات الفقر. العائلات التي تعيلها النساء أقل قدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية بمرتين مقارنة بالعائلات التي يعيلها ذكور. 

“لقد نالت المرأة النصيب الأكبر من الحرب. لعبت النساء دور الأباء بصفتها زوجة أو أم معتقل أو شهيد”، في ظل مقتل مئات الآلاف من الرجال وإخفائهم قسرياً، بحسب المحمود. 

وقالت الفريج إن الحركات النسوية في الدول المستقرة لها “أفق”،  لكن في السياق السوري حيث “تأتي التهديدات من كل مكان”، تخشى أن ما تبقى من الحركة النسوية في سوريا “لا مستقبل له”.

وقالت العبدة إن الصورة في سوريا وفي جميع أنحاء المنطقة “قاتمة جداً”، في إشارة إلى عدم الاستقرار الإقليمي الذي تفاقم بسبب الحرب الإسرائيلية المستمرة في غزة. وأضافت الفريج “لا يمكننا الخوض في حديثٍ عن المستقبل النسوي حينما يموت الأطفال بسبب المجاعة في القرن الحادي والعشرين في غزة”.

 

تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.

شارك هذا المقال