6 دقائق قراءة

الهروب من الوطن: بيع العقارات في حماة لتأمين تكاليف الهجرة

بعد ثلاثة عشر عاماً على اندلاع الثورة السورية، عادت الهجرة إلى سيرتها، لكن بدوافع اقتصادية بعد أن كانت نتيجة مخاوف أمنية. مدينة حماة واحدة من المدن السورية التي تشهد موجة هجرة كبيرة في عام 2023.


27 نوفمبر 2023

حماة، باريس- “لم يبق شباب في حماة، الكل يطفش من المدينة، ثلاثة أرباع شباب حارتي سافروا خارج البلاد”، بهذه الكلمات عبر ربيع عامر، 37 عاماً، عن موجة الهجرة الجديدة التي تشهدها المدينة الواقعة تحت سيطرة النظام.

وأضاف عامر: “الوضع جداً مأساوي والجو كئيب”، مشيراً في حديثه لـ”حماة اليوم” و”سوريا على طول” إلى أن “الشباب إما غارقون في البحث عن لقمة عيش أو يبحثون عن طريق للهجرة للخروج من هنا”.

بعد ثلاثة عشر عاماً على اندلاع الثورة السورية، عادت الهجرة السورية إلى سيرتها الأولى، مع اختلاف أسبابها، لا سيما في المناطق التي لم تشهد عمليات عسكرية واسعة النطاق من قبيل مدينة حماة، حيث تشهد موجة هجرة جديدة “دوافعها اقتصادية”، على عكس السنوات الأولى للثورة، التي كانت فيها دوافع الهجرة من سوريا “الهرب من التجنيد أو الخوف من الملاحقة الأمنية والاعتقال”، بحسب الدكتور طلال المصطفى، الباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، والمقيم في فرنسا.

واستدل المصطفى على ذلك بـ”هجرة العنصر النسائي أيضاً، بطرق شرعية أو غير شرعية”، قائلاً: “في مدينة السلمية التابعة لمحافظة حماة تخرج مجموعة من الشباب والصبايا أسبوعياً باتجاه الشمال السوري [التابع للمعارضة] ومنها يواصلون هجرتهم إلى تركيا وربما إلى أوروبا بعد ذلك”.

منذ آذار/ مارس 2011 وحتى مطلع 2020، غادر نحو مئة ألف شاب ومكلف للخدمة العسكرية أو متخلف عنها مدينة حماة، بحسب معلومات حصلت عليها “حماة اليوم” و”سوريا على طول” من إدارة الهجرة والجوازات في المدينة، وهم يشكلون أكثر من 50 بالمئة من رجال المدينة وشبابها، بحسب المصدر، بينما تدفع الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد حالياً من تبقى من أبناء المدينة إلى الهجرة.

كان شهر تموز/ يوليو 2023 نقطة فارقة في موجة الهجرة الأخيرة من حماة، بحسب سكان محليين، من بينهم ذوي المهاجرين، نتيجة تدهور العملة السورية، التي لامست عتبة عشرة آلاف ليرة للدولار الأميركي، في السوق السوداء آنذاك، بينما تسجل حالياً أدنى مستوياتها بسعر صرف 13,750 ليرة للدولار.

وفي هذا السياق، قال عامر: “الوضع هذا العام أسوأ من الأعوام السابقة، الفقر مرعب، ويتسبب بظهور تداعيات خطيرة في المجتمع المحلي، مثل انتشار المخدرات”، لافتاً إلى أن “العديد من عائلات حماة تعتمد على الحوالات من أهاليها في الخارج ولولا ذلك لكان الواقع أسوأ وموجة الهجرة أشد”.

“لا يمكن اعتماد الموظف على راتبه لتأمين مصاريفه الشهرية”، بحسب عامر، لافتاً إلى أن الراتب الشهري لموظف القطاع الخاص، في أحسن أحواله، لا يتجاوز 1.65 مليون ليرة سورية (120 دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء البالغ 13,750 ليرة للدولار)، وهو “مبلغ لا يكفي لتأمين وجبة طعام واحدة يومياً لشهر كامل بالنسبة لعائلة مكونة من خمسة أفراد”، بحسب قوله.

رسمياً، يبلغ الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص 185,940 ليرة (13.5 دولاراً)، بموجب المرسوم التشريعي رقم 11، الصادر في آب/أغسطس 2023، الذي نص على زيادة الحد الأدنى للأجور إلى هذا الرقم، زيادة الرواتب والأجور المقطوعة لموظفي الدولة والعسكريين والمتقاعدين بنسبة 100%.

تمويل السفر

بالتزامن مع موجة الهجرة من حماة، انتعش سوق العقارات في المدينة، بعد أن نشطت حركة البيع بداعي تأمين تكاليف السفر بالنسبة للراغبين بالهجرة.

وفي هذا السياق، قال أبو حسن (اسم مستعار)، صاحب مكتب عقاري في حماة، أن الثلاثة أشهر الأخيرة “شهدت حركة بيع وشراء كبيرة للعقارات بعد أن كان يقتصر البيع على الأثاث المستعمل”، وعزا ذلك إلى “تأمين تكاليف السفر بالنسبة للراغبين في الهجرة”.

منذ ثلاثة أشهر يستقبل أبو حسن عشرة زبائن يومياً على الأقل، بائعين ومشترين، لافتاً إلى أن “العديد من البائعين يطرحون عقاراتهم بأسعار دون ثمنها الحقيقي لبيعها بشكل مستعجل بداعي السفر”، وهو ما تؤكده العديد من المنشورات التي رصدتها “حماة اليوم” و”سوريا على طول” على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بالبيع والشراء في حماة.

لقطتا شاشة لإعلانين منشورين على إحدى مجموعات الفيسبوك الخاصة بعمليات البيع والشراء في مدينة حماة، يوضحان حركة البيع “بداعي السفر”

فادي (اسم مستعار)، شاب ثلاثيني، وصل إلى مصر في آب/ أغسطس 2023، رفقة زوجته وطفليه، في رحلة “تجاوزت تكاليفها 5400 دولاراً، تتضمن حجوزات الطيران والحصول على تأشيرة دخول سريعة إلى مصر”.

لا يملك فادي من تكاليف رحلته آنذاك شيئاً، فهو موظف حكومي في مديرية كهرباء حماة، براتب شهري 250 ألف ليرة (18 دولاراً تقريباً)، وهو مبلغ لا يكفي لتأمين مصاريف عائلته الشهرية، ما دفعه إلى طلب “إجازة استيداع” من وظيفته، وهي إجازة من دون راتب، كونه لا يستطيع التقدم باستقالته لمؤسسته، كون الحكومة السورية تمنع قبول استقالة الموظفين في القطاع العام، منذ عام 2022.

بعد الحصول على الإجازة، باع الشاب منزله، الذي ورثه عن والده، بقيمة 250 مليون ليرة (18 ألف دولار تقريباً)، رغم أن المنزل “تبلغ قيمته الحقيقية 350 مليون ليرة”، أي ما يعادل (25 ألف دولار تقريباً)، أي بخسارة 30 بالمئة من قيمة البيت “من أجل بيعه بشكل مستعجل”.  

“لم يكن سهلاً التفريط بالمنزل، ولكن قررت بيعه من أجل إنقاذ عائلتي من الجوع والموت البطيء”، قال فادي، مشيراً إلى أنه وصل لدرجة من العجز “لم يعد بمقدوري تلبية أبسط متطلبات الحياة اليومي لعائلتي، بسبب غلاء المواد الأساسية مقارنة براتبي”.

في الأشهر الأخيرة له بمدينة حماة “كان الراتب يكفي لسبعة أيام فقط، ما أدى إلى تراكم الديون عليّ، فكانت الهجرة الخيار الوحيد لتأمين معيشة أفضل لي ولعائلتي”، وفقاً لفادي الذي اختار مصر “كونها الأرخص معيشة مقارنة بغيرها، ووجود بعض الأقارب المتواجدين فيها”.

يسكن فادي حالياً في مدينة السادس من أكتوبر بمحافظة الجيزة القريبة من القاهرة، التي تضم أكبر تجمع للسوريين في مصر، ويبحث حالياً عن مشروع تجاري، بما تبقى من ثمن منزله، معبراً عن تفاؤله في مكان إقامته الجديد، وواصفاً قرار السفر أنه “أفضل قرار اتخذته في حياتي”.

وبدوره، باع مرهف (اسم مستعار)، 48 عاماً، منزله ومحله التجاري في أحد أسواق مدينة حماة وسيارته الخاصة، واستأجر منزلاً صغيراً لزوجته وأطفاله الثلاثة قبل سفره إلى دولة الإمارات، في منتصف تموز/ يوليو 2023، بهدف تأسيس مشروع تجاري هناك.

دافع مرهف اقتصادي وأمني، كما قالت زوجته فاتن لـ”حماة اليوم” و”سوريا على طول”. “في الوقت الذي تأثرت الحركة التجارية بهبوط سعر الليرة، تمارس الحكومة السورية ضغطاً أمنياً عبر المكتب السري (مكتب أمني يتبع للقصر الجمهوري)، ومديرية الجمارك، من أجل إجبار التجار على دفع الرشاوى والخوّات”.

“لم تكن الهجرة خياراً مطروحاً حتى مطلع العام الحالي، لكن غياب المستقبل الجيد للعائلة والأولاد داخل سوريا جعل من الهجرة الخيار الأفضل”، بحسب فاتن، التي قالت أنها ستلتحق بزوجها “بعد انتهاء العام الدراسي الحالي، وبنفس الوقت يكون وضعه هناك أكثر استقراراً”.

في هذا السياق، قال الدكتور طلال المصطفى: “ربما يقول البعض: إذا كان رجال الأعمال والمستثمرين يغادرون سوريا، فهذا يعني أن السبب ليس العامل المعيشي”، ورد على ذلك بقوله: “عدم  توفر الخدمات مثل الكهرباء والماء والمحروقات، وتسلط الأجهزة الأمنية، وعدم الاستقرار الأمني والاقتصادي في عملهم يعد سبباً مهما للهجرة”.

وأضاف المصطفى: “في أي لحظة قد تلفق الأجهزة الأمنية أسباباً من أجل الاستيلاء على أملاك هؤلاء التجار، وبالتالي قرار الهروب شيئاً طبيعياً”، لافتاً إلى أن “الهجرة الاقتصادية لها مستويات بدءاً من رجال الأعمال إلى المواطن السوري غير القادر على تأمين احتياجاته اليومية”.

الهجرة حلم من تبقى

يحدث عبد الهادي (اسم مستعار) نفسه يومياً بالهجرة إلى “مكان أستطيع فيه تأمين دخلاً جيد”، لكن يمنعه من ذلك “ضيق ذات اليد، وعدم وجود أشخاص أستدين منهم تكاليف السفر”، كما قال لـ”حماة اليوم” و”سوريا على طول”.

“لو استطعت تأمين تكاليف السفر ما بقيت هنا يوماً واحداً”، واصفاً الهجرة بـ”الحلم”، لكنه “حلم صعب المنال”، بحسب الشاب العشريني، الذي اضطر إلى التوقف عن تعليمه الجامعي، بعد أن قضى عامين في كلية الاقتصاد “من أجل مساعدة والدي في تأمين مصاريف المنزل”.

وجد عبد الهادي نفسه يدور في دوامة لا مخرج منها “فلا أنا قادر على استكمال دراستي أو تأمين فرصة سفر، ولا قادر على تأمين مصاريفنا الشهرية”، مشيراً إلى أنه يضطر شهرياً إلى “استدانة بعض المال لتأمين الدواء الخاص بوالدته، التي تعاني من مشاكل في الغدة الدرقية”.

وفي هذا الخصوص، قال الدكتور المصطفى أن شريحة من السوريين وصلت إلى “فقدان الأمل من الحياة وإمكانية الاستمرار في سوريا، بعد أن أصبحوا عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية”، فصارت الهجرة هي سبيلهم للنجاة.

“لا حل أمامنا سوى الهجرة”، بحسب ربيع عامر، وهي “حلم” بالنسبة له، ولكن ملازمته لحالة مرضية في عائلته تحتاج منه رعاية خاصة حالت دون أن يكون في ركب المهاجرين، ليبقى في حماة متحملاً “مسؤولية الرعاية وتدهور الأحوال الاقتصادية التي تسوء عاماً بعد عام”، بحسب قوله، مؤكداً أن “عام 2023 هو الأسوأ”.

أنتج هذا التقرير بالتعاون بين “سوريا على طول” و”حماة اليوم”

شارك هذا المقال