7 دقائق قراءة

انهيار الليرة السورية سلاح في زمن الهدنة ضد المدنيين بشمال غرب سوريا

تحتضن المحافظة وحدها نحو نحو أربعة ملايين ونصف المليون نسمة، بين مقيمين ومهجرين من محافظات أخرى، يعيش "نحو 90% منهم تحت خط الفقر، في ظل ارتفاع كبير في نسبة البطالة تجاوزت 95% من عدد السكان"


22 يونيو 2020

عمان- فيما يشترك السوريون على امتداد جغرافيا وطنهم تفاقم الصعوبات المعيشية التي تواجههم، والتي تتأثر بشكل مباشر بالاضطراب المتواصل لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، تشهد مناطق شمال غرب سوريا، آخر معاقل  المعارضة، ارتفاعاً هو الأكبر في أسعار السلع الغذائية الأساسية، بحسب إيجاز صحافي للمتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، في 8 حزيران/يونيو الحالي. ففيما ارتفعت الأسعار في سوريا عموماً “خلال السنة الماضية بنسبة 133%”، شهدت محافظة إدلب، شمال غرب سوريا، “ارتفاعاً بنسبة 30% في أسعار المواد الغذائية خلال شهر واحد فقط [نيسان/أبريل الماضي]. 

وتحتضن المحافظة وحدها نحو نحو أربعة ملايين ونصف المليون نسمة، بين مقيمين ومهجرين من محافظات أخرى، يعيش “نحو 90% منهم تحت خط الفقر، في ظل ارتفاع كبير في نسبة البطالة تجاوزت 95% من عدد السكان”، بحسب ما ذكر مدير منظمة “منسقو استجابة سوريا” الإغاثية المحلية، محمد حلاج، لـ”سوريا على طول”.

تحذيرات من مجاعة

يتمثل أحد أبرز تداعيات الانهيار الاقتصادي المتواصل في سوريا، في تحول تأمين مادة الخبز، التي تعد الغذاء الرئيس للكثير من العائلات في إدلب، إلى هاجس، لاسيما للنازحين مثل أحمد السويد الذي يعيش مع عائلته وأطفاله الخمسة “في غرفة قيد الإنشاء في مدينة إدلب، بعد أن نزحت من مدينة كفرنبل[بريف إدلب الجنوبي]، عقب تعرض منزلي للقصف وفقداني قدميّ نتيجة لذلك”، كما قال لـ”سوريا على طول”. إذ صار “تأمين مادة الخبز أساس مشكلتي الحالية”، كما أضاف، كونه وعائلته يعتمدون “بشكل رئيس على أكل الخبز وحده، فلا نعرف طعم الخضار والفواكه منذ أكثر من سنة، وفي هذه الحالة سنضطر إلى تخفيف كمية الخبز التي نتناولها، أو شراء الخبز اليابس كونه أرخص بـ500 ليرة سورية [0.1 دولار، استناداً إلى سعر الصرف المقدر بحوالي 2800 ليرة للدولار]”.

ويعمل السويد مع اثنين من أطفاله في بيع علب العصائر والبسكويت على بسطات صغيرة في شوارع إدلب، بما يمنحه دخلاً يقدّره بنحو 3000 ليرة (دولار واحد)، ولا يحصل على “أي مساعدة غذائية من المنظمات العاملة في إدلب”، كما قال.

وكانت حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام قد رفعت سعر الخبز في إدلب مرتين خلال الشهر الحالي، “من 500 ليرة [0.1 دولار] إلى 600 ليرة [0.2 دولارا]، للربطة التي تحوي عشرة أرغفة، ثم من 600 إلى 1000 ليرة [0.3 دولارا]، مع تخفيض عدد الأرغفة إلى ثمانية. وقد قامت برفع الأسعار في المرة الأخيرة من خلال تعميم على أصحاب الأفران، من دون إصدار قرار رسمي بذلك”، كما أوضح موظف في أحد الأفران العاملة في مدينة إدلب لـ”سوريا على طول”.

بالتزامن مع ذلك، قلص برنامج الأغذية العالمي (WFP)، للمرة الثانية في أقل من شهرين، محتويات السلل الغذائية المقدمة في مناطق شمال غرب سوريا، مبررا ذلك بضعف التمويل. إذ “في المرة الأولى أبلغ مسؤولو البرنامج شركاءهم التنفيذيين في المنطقة بتخفيض محتوى السلة الغذائية الواحدة بمقدار 1855 سعرة حرارية مقارنة بدورة توزيع السلل في نيسان/ أبريل الماضي. ثم تم تخفيضها بمقدار 205 سعرات حرارية”، بحسب حلاج.

تعليقاً على ذلك، كانت منظمة “منسقو استجابة سوريا” أصدرت بياناً اعتبرت فيه أن التخفيض “لا يتناسب مع تقييم الاحتياجات الإنسانية في المنطقة”، ومحذرة من “تحول المنطقة إلى منطقة مجاعة لا يمكن السيطرة عليها”، لاسيما وأن الدعم السابق على التخفيض لم يكن يغطي إلا نسبة قليلة من الحاجات المتفاقمة، ولا يغطي قاطني المخيمات العشوائية من النازحين، كما شدد حلاج.

ونتيجة لذلك أيضاً، صار “حجم القهر والخذلان اللذين يعيشهما الشارع في المحرر [مناطق سيطرة المعارضة] كبيراً جدا”، كما قال الناشط الإعلامي محمد جمال، المقيم في مدينة إدلب، لـ”سوريا على طول”. إذ “يمكن رؤية ذلك في عيون الأهالي، وخاصة الطبقة الفقيرة، الذين أصيبوا بهيستيريا بشأن كيفية تأمين الطعام لأطفالهم”، كما قال، متفقاً مع التحذير السابق من أن المنطقة باتت “على أعتاب مجاعة حقيقية”.

“الوضع المعيشي للمهجرين والنازحين في ريف حلب ليس أفضل من إدلب” كما ذكر لـ”سوريا على طول” عامل البناء خليل الشامي. إذ يقيم الشامي، كما قال، مع عائلته المكونة من أربعة أفراد، في “قبو منزل، أتشارك دفع أجرته مع خمس عائلات تسكن معنا. ومع ذلك لم أكن أستطيع توفير كل متطلبات منزلي قبل رفع الأسعار الأخير”. موضحاً  أنه يحصل على “3,000 ليرة يومياً من عملي، كنت أدخر منها مبلغ 1,000 ليرة لدفع إيجار الغرفة ومصروف المياه والكهرباء والانترنت المشترك في القبو، وأعتمد على ما تبقى لشراء قوت يومي. أما الآن، فلم يعد لما تبقى من المبلغ قيمة لشراء شيء، بالرغم من أن أطفالي محرومون أساساً من كثير من الأطعمة و حتى شراء ملابس جديدة”.

وبالرغم من تذبذب سعر صرف الليرة بين انخفاض وارتفاع نسبي خلال هذا الأسبوع، إذ بلغ سعر الدولار اليوم في إدلب 2,600 ليرة، إلا أن “هناك فلتاناً حقيقياً في الأسعار بعيد عن واقع سعر الصرف”، بحسب أبي محمد؛ إذ “مع كل انخفاض في قيمة الليرة يرفع التاجر أسعاره، وعند تحسنها لا يغير أسعار سلعه بحجة أنه في أي لحظة يمكن أن تنهار قيمة الليرة فيخسر”.

فوق ذلك، وكما لفت جمال، فإن “انهيار قيمة الليرة الأخير أدى إلى اختفاء العديد من المهن التي لم تكن تحتاج لرأس مال كبير، وكانت مصدر رزق للكثير من الأسر الفقيرة، كعربات بيع الخضار والفواكه والقهوة والتبغ، والمرطبات وحلوى الأطفال”.

معضلة تأمين الدواء 

ارتفاع أسعار الدواء وفقدان بعضها من الصيدليات، يمثلان معضلة أخرى يعيشها أهالي المنطقة. فقد اضطرت فاطمة المرعي، المقيمة في قرية دير حسان بريف إدلب، إلى البحث في أربع صيدليات، قبل أيام، لشراء دواء الضغط الذي تتناوله. و”عندما وجدت بديلا عنه، أخبرني الصيدلاني أن سعره 600 ليرة [0.2 دولارا]، أي أغلى بستة أضعاف مقارنة بقيمة دوائي المفقود”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

وتعتمد فاطمة في تأمين مصاريفها المعيشية، منذ سنوات، على “مبلغ شهري يرسله لي ابني المقيم في تركيا”، وقد “اعتذر عن إرسال المبلغ هذا الشهر لتوقف عمله في ظل أزمة كورونا، ولا أعلم كيف سأتدبر أموري في هذا الوقت الحرج”، كما قالت.

لكن إضافة إلى الأزمة الاقتصادية في سوريا عموماً، لفت الصيدلاني محمد الحاج، والذي يعمل في إحدى صيدليات مدينة إدلب، إلى أن “السبب الرئيس لارتفاع أسعار الدواء في المناطق المحررة منذ بداية العام الحالي، هو سيطرة النظام على منطقة المنصورة بريف حلب الشمالي الغربي [في منتصف شباط/ فبراير الماضي]، والتي كانت تعد أبرز تجمع لمعامل الأدوية المحلية، بوجود نحو 20 معمل مرخص كانت تغطي احتياجات المناطق المحررة”. كاشفاً لـ”سوريا على طول” أن “حكومة الإنقاذ أخبرتنا بأن المخزون الاحتياطي من الأدوية قد يكفي لشهرين أو ثلاثة أشهر فقط”.

في السياق ذاته، كانت “نقابة أطباء الشمال المحرر” العاملة في شمال غرب سوريا، حذرت في 3 حزيران/ يونيو الحالي، من كارثة طبية تهدد المنطقة جراء نقص الأدوية وندرتها وارتفاع أسعار المتوفر منها، محملة الجهات المختصة مسؤولية اتخاذ الإجراءات اللازمة لضبط أسعار الأدوية.

في اليوم ذاته، أصدرت النقابة قراراً بتحديد تسعيرة الكشف الطبي لدى الأطباء في الشمال السوري بالدولار. بحيث يتقاضى الطبيب العام دولارين (5,600 ليرة) كحد أدنى وست دولارات (16,800 ليرة)، كحد أعلى. فيما حُددت تسعيرة الطبيب الاختصاصي بثلاثة دولارات (8,400 ليرة)، كحد أدنى، وثماني دولارات (22,400 ليرة)،  كحد أعلى. وهو ما أثار رفض العديد من الأطباء في إدلب، كون التسعيرة الجديدة لا تتناسب مع الوضع المعيشي للسكان. وقد حذفت صفحة النقابة في اليوم التالي البيان، الأمر الذي يبدو بمثابة تراجع عن قرارها.

تجار بين الإغلاق والتعامل بـ”ذكاء”

على الرغم من كون المستهلكين، لاسيما الفقراء منهم هم الأشد تضرراً، فإن تداعيات الاضطراب الاقتصادي لا تقتصر عليهم، بل تطال حتى التجار. 

فقد اضطر توفيق الآغا، كما ذكر لـ”سوريا على طول”، إلى إغلاق محله للمواد الغذائية، “بعد تجاوز سعر صرف الدولار حاجز 3,000 ليرة، وتذبذب الأسعار”. معللاً ذلك بأن “فارق ارتفاع سعر الدولار أكبر من هامش الربح، كما لاحظت ضعف إقبال السكان على الشراء نتيجة ضعف قدرتهم الشرائية في ظل ارتفاع الأسعار الكبير”. هذا في الوقت الذي “لم تقدم لنا أي من الجهات المسؤولة حلولا لتعويض خسارتنا”، كما قال.

واتفق آدم الشامي، وهو مالك سوبرماركت لبيع المواد الغذائية في مدينة الباب، مع ذلك. إذ إنه “على الرغم من عدم إغلاق المعابر التركية أمام دخول المواد الغذائية، فإن حالة الكساد في المستودعات أصبحت كبيرة بسبب ضعف الإقبال على الشراء، نتيجة اختلاف سعر السلعة الواحدة بين ساعة وأخرى”، كما ذكر لـ”سوريا على طول”. 

لكنه تعامل مع الأزمة “بذكاء”، بأن صار يعمل تاجراً وصرافاً في الوقت نفسه. وكما أوضح، فإنه “عند ذهاب الزبون لشراء أي من السلع، سيدفع بالليرة السورية. وإذا ذهب إلى الصراف ليشتري السلعة بالدولار، سيخسر بذلك من قيمة ماله عند الصراف وعند التاجر. لذلك، فإن عمل البائع كصراف أيضاً للزبون، يجعله يتقاسم مربح التصريف بينه وبين الزبون، باختصاره ذهاب الأخير إلى الصراف”. مضيفاً أنه “يمكن للبائع أن ينشئ للزبون كشف حساب بقيمة 50 دولار أو 100 ليرة تركية مثلا، ويثبّت له قيمة السلع التي يريد أن يشتريها على قيمة تلك العملات، خاصة وأن هناك الكثير من الموظفين في ريف حلب يتقاضون أجورهم بالليرة التركية”.

ضخ العملة التركية 

مع الانهيار المتسارع لقيمة الليرة السورية، حاولت الحكومة السورية المؤقتة (المعارضة) إيجاد حلول تسمح بتدارك فوضى الأسواق، وكبح جماح الارتفاع الكبير لأسعار السلع. في هذا السياق، تم ضخ كميات كبيرة من العملة التركية، بمختلف فئاتها، في الشمال السوري. 

وبحسب رئيس الحكومة السورية المؤقتة، عبد الرحمن مصطفى، في تصريح  لوكالة الأناضول التركية، فإن “الحفاظ على القوة الشرائية للعمال والموظفين، استدعى ضخ القطع النقدية الصغيرة بالليرة التركية”، كما أكد على أنه أصبح “ضروريا تسعير المواد بغير الليرة السورية”. مشيرا إلى أنه “تم البدء بتسعير المواد الأساسية مثل الخبز والمشتقات النفطية بالليرة التركية”.

كذلك، بدأت حكومة الإنقاذ التعامل بالليرة التركية بشكل رسمي في محافظة إدلب الخاضعة لهيئة تحرير الشام،. إذ حددت شركة “وتد” للبترول، المسؤولة عن توزيع المحروقات على كامل محافظة إدلب، أسعار بيع ليتر البنزين والمازوت المستورد بـ3.7 ليرة تركية.

لكن على الرغم من أن “ضخ العملات النقدية التركية مهم جدا من أجل التداول اليومي ومعالجة أزمة تسعير السلع، فإنه ليس كافياً”، برأي رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا، أسامة القاضي، لأنه “علاج مؤقت إلى أن يأتي الحل السياسي وتعود العملة الوطنية إلى ما كانت عليه”.

كذلك، يحتاج هكذا قرار، كما أضاف القاضي لـ”سوريا على طول”، إلى تطبيق أمرين. الأول، هو “تمكين الحكومة المؤقتة كمؤسسة واحدة مسؤولة عن المناطق المحررة بأكملها، وأن تقدم هذه الحكومة المعونات اللازمة للعامل الذي يتقاضى أجره بالليرة السورية، من قبيل خلق فرص عمل له، على أن يكون الشرط الأساسي في العقد هو تقاضي العامل أجره بالليرة التركية، أو بما يساوي قيمتها بالليرة السورية”.

أما المتطلب الثاني فيتمثل في “ضخ الحكومة التركية ما لا يقل عن نصف مليار إلى مليار ليرة تركية شهريا، من أجل فتح مشاريع صغيرة تؤمن فرص عمل لسكان المنطقة، يحصلون من خلالها على دخل بالليرة التركية، ليستطيعوا شراء السلع الأساسية”.

من جهته، يؤكد الناشط الإعلامي جمال وجود “استغلال من قبل الصرافين في إدلب للأهالي ممن يذهبون لاستبدال أموالهم بالعملة التركية، إذ يتم التلاعب بأسعار الصرف من دون أي رقابة من حكومة الإنقاذ”.

فوق ذلك، فإن “قرار ضخ العملة التركية لا نفع منه للبسطاء، فكيف للمواطن المعدم الذي لا يملك عملة سورية وليس لديه فرصة عمل، أن يحصل على العملة التركية”، برأي الشامي.

شارك هذا المقال