8 دقائق قراءة

حملة قاتلة: استهداف دراجات السوريين النارية غير المرخصة في لبنان

الدراجات النارية والسكوترات وسيلة نقل لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة للعديد من السوريين في لبنان، لكن معظمهم لا يستتطيع تسجيلها قانونياً، ما يعرضهم للملاحقة من الشرطة، التي تشن حملات صارمة ضد سائقي المركبات غير المرخصة وتمارس ضدهم الابتزاز والعنف، كما في حادثة قتل شاب سوري على حاجز في بيروت.


6 مارس 2024

بيروت- يلفّ ضماد أزرق سميك يد ربيع العثمان، وتغطي لصاقات طبية جروح خده، التي تم قطبها حديثاً، ويجلس حوله أفراد عائلته وأصدقائه في شقتهم الصغيرة بمخيم برج البراجنة، وهو مخيم للاجئين الفلسطينيين في بيروت، يقطنه العديد من السوريين، كحالة ربيع وعائلته.

رغم صخب تساؤلات ذويه وأصدقائه من حوله، بقي ربيع، 17 عاماً، مطرق الوجه غارقاً في صمته، إذ ما يزال تحت تأثير صدمة الحادث، الذي تسبب به ضابط شرطة لبناني، وأودى بحياة صديقه المقرب قبل بضعة أيام.

“كنا نذهب يومياً إلى العمل معاً”، قال ربيع لـ”سوريا على طول”، مستذكراً صديقه محمد زايد الحريري، صاحب العشرين عاماً، الذي “كان يغني أحياناً بصوت عذب”.

ربيع عثمان، يجلس في منزله بمخيم برج البراجنة في بيروت، 27/ 02/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

ربيع العثمان، يجلس في منزله بمخيم برج البراجنة في بيروت، 27/ 02/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

في 23 شباط/ فبراير، كان ربيع ومحمد يركبان الدراجة النارية متجهين إلى العمل، عندما لمحا حاجز تفتيش للشرطة. سبق للسلطات اللبنانية أن صادرت الدراجة مرتين في الأشهر الماضية، وفي كل مرة كان يضطر ربيع دفع أجره كاملاً لمدة أسبوع، أي مئة دولار تقريباً، من أجل استعادتها، وليس بمقدوره أن يدفع للمرة الثالثة.

تعود ملكية الدراجة لوالد ربيع، ولكن يتشاركها 13 فرد في العائلة. ولأنّ والد ربيع، الذي فرَّ إلى لبنان في عام 2016 من ريف حلب، لا يملك وثائق رسمية تخوله الحصول على إقامة، لم يتسن له تسجيل دراجته النارية. تزيد نسبة السوريين في لبنان، الذين لا يملكون إقامة قانونية سبب أنظمة تجديد الإقامة الصارمة، عن 80 بالمئة.

في ذلك اليوم، كان محمد يقود الدراجة، وعندما لمح حاجز التفتيش، سارع للانعطاف محاولاً الابتعاد. في هذه الأثناء، اعترضه شرطي كان مختبئاً خلف سيارة وركل الدراجة، بحسب شهادة ربيع، ولقطات من كاميرا مراقبة رصدت الحادث.

فقد محمد السيطرة على الدراجة بسبب ضربة الشرطي، وارتمى الاثنان من الدراجة النارية وارتطما بالرصيف، فأصيب محمد في جمجمته وتوفي على الفور، كما أصيب ربيع بإصابات بالغة.

“لن أسامح الشخص الذي قتل ابني ما حييت”، قالت والدة محمد، ميساء حسين الحريري، 47 عاماً، لـ”سوريا على طول” عبر محادثة هاتفية من دمشق، وتابعت: “الجميع أحب محمد. صاحب أطيب قلب”.

صورة محمد زايد الحريري في سوريا، التقطت عام 2020، أرسلها والده زايد عبد الحميد الحريري لـ"سوريا على طول"

صورة محمد زايد الحريري في سوريا، التقطت عام 2020، أرسلها والده زايد عبد الحميد الحريري لـ”سوريا على طول”

أقام محمد في لبنان سنة وأربعة أشهر قبل وفاته، كان كان يعمل ويرسل النقود إلى سوريا ليعيل عائلته المقيمة في دمشق، وبحسب صديقه ربيع “كان محمد يعمل دائماً ساعات إضافية، حتى يبلغ إجمالي ساعات عمله اليومي 13 ساعة”.

كانت والدة محمد ووالده وإخوته ينتظرون راتب محمد عن شهر شباط/ فبراير الماضي لتأمين مصاريف هذا الشهر، بحسب ميساء، مشيرة إلى أنهم تأثروا بشدة جراء الأزمة الاقتصادية التي تعصف بسوريا.

بلغت رسوم المستشفى في لبنان وتكاليف إعادة جثمان محمد لدفنه في سوريا نحو ألفي دولار أميركي، قدم الأقارب والجيران المساعدة في جزء من المال، وما تزال العائلة مدينة بنصف المبلغ، بحسب أمه. “ليس هناك في العائلة شخص آخر يساعدنا…كان هناك محمد وتوفي الآن”، بحسب أمه.

وكررت ميساء مديح ابنها المتوفى، قائلة بصوت تخنقه الدموع: “كان لطيفاً جداً وطيباً. لم يؤذِ أو يزعج أحداً”.

“في خطر”

في أواخر شباط/ فبراير، تداول رواد وسائل التواصل الاجتماعي صورة ربيع ومحمد وهما ممددين على الأرض وسط بركة دم كبيرة. أثار الحادث سخطاً كبيراً، بلغ ذروته بين أوساط السوريين، نظراً للإجراءات والقيود التمييزية التي يخضعون لها في لبنان، ومن ضمنها حواجز التفتيش التابعة للشرطة.

تحرم الإجراءات التمييزية والعوائق القانونية العديد من السوريين في لبنان، مثل ربيع ومحمد، من إيجاد فرص عمل في بيروت، وفي حال وجود بعض الأشغال قد تكون في مناطق بعيدة، ما يجعل من الدراجات النارية، التي تعد وسيلة نقل جيدة بمصروف معقول، شريان حياة للعمال للذهاب إلى عملهم وعودتهم منه.

وبما أنَّ العديد من السوريين لا يملكون إقامة ولا يمكنهم تسجيل مركباتهم قانونياً، فـ”شريان الحياة” هذا يعرّضهم لتبعات قانونية، من قبيل فرض الغرامات المالية، ناهيك عن الابتزاز والعنف كالذي تعرض له ربيع ومحمد وأودى بحياة الأخير.

قالت المحامية هالة حمزة، التي وكلتها رابطة العمال السوريين في لبنان لتمثيل ربيع أمام القضاء، أنَّ الحادث يظهر “نمطاً عنصرياً تجاه السوريين”، معتبرة أن الشرطي المتورط أقدم على فعلته خارج نطاق سلطته عندما حاول محمد الفرار من نقطة التفتيش. 

يذكر أنَّ الشرطي الذي ركل الدراجة النارية هو عنصر في فوج حرس بيروت التابع لشرطة بلدية بيروت. في الأشهر الأخيرة، كثفت الشرطة اللبنانية نشاطها بإقامة حواجز تفتيش عشوائية لمصادرة الدراجات النارية غير المرخصة، امتثالاً لأمر وزير الداخلية اللبناني في حكومة تصريف الأعمال، بسام مولوي، الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ويقضي بـ”إيقاف الدراجات النارية أو البخارية التي يقودها سوريون ليس بحوزتهم تصاريح إقامة”، وهو واحد من سلسلة أوامر ومذكرات تدعو إلى قمع اللاجئين السوريين في لبنان.

“إن حواجز التفتيش المنصوبة لتقييد حركة السوريين في جميع أنحاء البلاد هي إجراءات تمييزية، وهي جزء من مجموعة أكبر من التدابير القسرية التي تتبعها السلطات اللبنانية، بما في ذلك البلديات والأجهزة الأمنية، لجعل لبنان مكاناً بغيضاً للاجئين ودفعهم إلى العودة لسوريا”، كما قال رمزي قيس، الباحث في شؤون لبنان بمنظمة هيومن رايتس ووتش لـ”سوريا على طول”.

لوحة طرقية على أوتوستراد دمشق قرب قرية الكحالة في محافظة جبل لبنان، ضمن حملة إعلامية جديدة تُحمِّل السوريين ضمنياً مسؤولية الويلات الاقتصادية التي يعاني منها لبنان، 01/ 03/ 2024، (ياسمينا عنداري)

لوحة طرقية على أوتوستراد دمشق قرب قرية الكحالة في محافظة جبل لبنان، ضمن حملة إعلامية جديدة تُحمِّل السوريين ضمنياً مسؤولية الويلات الاقتصادية التي يعاني منها لبنان، 01/ 03/ 2024، (ياسمينا عنداري)

وصف مركز وصول لحقوق الإنسان (ACHR)، منظمة حقوقية مقرها في بيروت وباريس، مقتل محمد وإصابة ربيع بأنه “جريمة مروعة وانتهاك صارخ لحقوق الإنسان”، كما جاء البيان الصادر في 27 شباط/ فبراير، وأشار البيان إلى أن اللاجئين السوريين في لبنان تعرضوا للاعتقال التعسفي والعنف وسوء المعاملة على أيدي الشرطة.

قالت هالة حمزة أنَّ ضابط الشرطة اشتبه بأنَّ ربيع ومحمد سوريان عندما حاولا الفرار من الحاجز، لأن فرار المواطنين اللبنانيين أقل احتمالاً، معتبرة أن طريقة تعامله معهما “ليس بشأن الأمن وإنما لأنهما سوريان”.

لا يُسمح للشرطة البلدية تعقب أو لمس مخالفي المرور أو مركباتهم. لا يتمتع عناصر الشرطة إلا بصلاحية تحرير مخالفات، مثل مخالفات المرور أو التسجيل، في حين أن قوى الأمن الداخلي في لبنان هي الجهة المسؤولة عن الاعتقالات وملاحقة المشتبه بهم.

“ربيع ومحمد ليسا مجرمين. لم يكونا مسلحين؛ وإنما مجرد أطفال ارتكبوا محالفة لا أكثر”، وفقاً لحمزة، مضيفة: “ينبغي أن يكون الضابط على علم بأن دفع الدراجة سوف يؤدي إلى مقتلهما أو إصابتهما إصابات خطيرة… هذا ليس خطأً”. 

احتجزت مديرية المخابرات عناصر الحاجز المتورط واقتادتهم إلى وزارة الدفاع، بحسب مركز وصول لحقوق الإنسان. ما يزال التحقيق مستمراً، غير أن المحامية حمزة تطالب بسجن ضابط الشرطة وتعويض مالي عن إصابة ربيع، التي كلفت أسرته 750 دولار، وهي رسوم المشفى وتعطله عن العمل لمدة شهر.

وأعربت المحامية عن هواجسها من أنَّ ما حدث لمحمد وربيع ليس حدثاً منفرداً، قائلة: “سنشهد حالات أكثر كهذه من مسؤولي البلدية وغيرهم… السوريون في خطر”.

“أداة لتقييد الحركة”

عندما يتعافى ربيع، سيعود إلى ركوب الدراجة النارية رغم خشيته من أن يُمسك مرة أخرى “لكن لابد أن أعمل”. يحصل ربيع على 20 دولار يومياً من عمله في مهنة الدهان ببيروت، وإن اعتمد على التكسي كوسيلة مواصلات، سيوف يدفع نصف أجره اليومي، بينما لا تغطي شبكة المواصلات العامة الكثير من مواقع عمله، على حد قوله.

والد ربيع، عيسى محمد العثمان، يتفقد دراجته في كراجه بمخيم برج البراجنة في  بيروت، 27/ 02/ 2024 (هانا ديفيس/سوريا على طول)

والد ربيع، عيسى محمد العثمان، يتفقد دراجته في كراجه بمخيم برج البراجنة في  بيروت، 27/ 02/ 2024 (هانا ديفيس/سوريا على طول)

منذ عام 2015، تبني السلطات اللبنانية سياسات تستهدف حركة العمال السوريين، كما قالت دنيا سلامة، باحثة في الدراسات الحضرية وعضو في مختبر المدن في الجامعة الأميركية ببيروت حتى عام 2021.  تتضمن هذه الإجراءات فرض حظر تجوال على السوريين في مدن وقرى مختلفة، وكذلك تقييد حصول السوريين على تراخيص القيادة أو تصاريح القيادة ليلاً. 

وأشارت سلامة إلى “صعوبة توثيق” هذه السياسات لأنها غالباً تكون غير مكتوبة في القانون بشكل رسمي. كما وجدت أن عناصر الشرطة “لا يطبقونها بالتساوي”، عندما أجرت بحثاً في عام 2018 حول تأثير “عسكرة الأمن” في بيروت على حركة سائقي التوصيل السوريين.

“استخدمت السلطات اللبنانية العمال السوريين والفلسطينيين كبش فداء للأزمة [الاقتصادية] ” بحسب سلامة، مشيرة إلى أنَّ “التكثيف الأخير لحواجز التفتيش هو أحدث أداة يستخدمونها لمضايقتهم والحد من حركتهم”.

قال خمسة من أصدقاء ربيع، جميعهم سوريون، كانوا في منزله أثناء زيارة “سوريا على طول” له، أنهم يملكون دراجات نارية ويستخدمونها للعمل، ويحاولون ما أمكنهم “عدم دخول الأماكن التي تنتشر فيها حواجز التفتيش في بيروت، أو التي تُعرف بأنها أكثر عدائية للسوريين”، بحسب عمر فداوي، 21 عاماً. 

يتطلب ذلك اتباع طرق طويلة وملتوية للوصول إلى العمل، أو الاستغناء عن فرص العمل أو التعليم كلياً إذا كانت المنطقة خطرة بالنسبة لهم. يتمنى عمر تخفيف هذه القيود، حتى “نحصل على حقوقنا”. ولكن الآن، “ليس هناك أي قانون”، قالها ملتفتاً إلى الشباب الأربعة الآخرين الذين وافقوا كلامه.

أصدقاء ربيع العثمان يركبون دراجاتهم النارية في برج البراجنة، بيروت، 27/ 02/ 2024 (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

أصدقاء ربيع العثمان يركبون دراجاتهم النارية في برج البراجنة، بيروت، 27/ 02/ 2024 (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

الأزمة والفساد

منذ اجتياح الأزمة الاقتصادية لبنان، في عام 2019، تدهورت الخدمات العامة، وانخفضت أجور قوات الأمن في البلاد، وصارت المكاتب الحكومية المخصصة لتسجيل المركبات والتقدم بطلبات رخص القيادة تعاني من نقص الموظفين ونادراً ما تكون مفتوحة.

انخفضت رواتب ضباط شرطة البلدية مما كانت قيمته نحو 1,400 دولار قبل الأزمة إلى 130 دولار تقريباً. وكنتيجة لذلك، لجأ الكثير من ضباط الشرطة إلى ممارسات فاسدة لملئ جيوبهم بطريقة أخرى أثناء عملهم، بحسب ما قالت هالة حمزة، محامية ربيع.

سمعت حمزة عن عدة حالات لعناصر في شرطة البلدية أوقفوا سوريين لقيادتهم دراجات نارية غير مسجلة، وطالبوهم بدفع رشاوى مقابل عدم مصادرة الآلية، عادة يكون المبلغ بحدود 50 دولار، ويحتفظون به لأنفسهم.

لا يزال المبلغ أقل بكثير من الغرامة المطلوبة لاسترجاع الدراجة النارية بعد مصادرتها، والتي تتراوح بين 70 و150 دولاراً، كما قال سوريون صودرت دراجاتهم لـ”سوريا على طول”.

تحدثت “سوريا على طول” إلى أربعة سوريين دفعوا رشاوى تتراوح بين 30 و50 دولاراً لعناصر الشرطة المنتشرين على حواجز التفتيش في بيروت.

من جهتها، وثقت سلامة عدة حالات لضباط شرطة، أو أشخاص تظاهروا بأنهم شرطة، هددوا سوريين باسم القانون للحصول على رشاوى مقابل إطلاق سراحهم، كما قالت، معتبرة أن “هذا يمثل تجسيداً لإساءة استخدام السلطة من قبل الدولة، التي تتجه دائماً نحو الأشخاص الأكثر هشاشة لانتزاع الموارد منهم واستغلالهم”.

“يمكن لأي أحد الإساءة لنا”

بعد أن أنهى ربيع كلامه، بدأ والده، عيسى محمد العثمان، 48 عاماً، بسرد قصته، رافعاً يده اليسرى ليظهر ندبة كبيرة فيها. 

ندبة على يد عيسى محمد العثمان اليسرى إثر هجوم وقع مؤخراً، 27/ 02/ 2024 (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

ندبة على يد عيسى محمد العثمان اليسرى إثر هجوم وقع مؤخراً، 27/ 02/ 2024 (هانا ديفيس/ سوريا على طول)

في مطلع شباط/ فبراير، كان عيسى يقود عربة صغيرة ذات ثلاثة عجلات في أزمة مرورية في بيروت، عندما بدأت سيارة من خلفه بالتزمير. وما إن توقف إلى جانب الطريق لتعبر السيارة حتى خرج رجل من السيارة وسحب سكيناً ورماها باتجاهه.

سارع عيسى إلى حماية رأسه بيديه فجرح النصل راحة يده. يعتقد عيسى أن الرجل اشتبه بأنه سوري من مظهره ومن العربة التي يقودها، لأن السوريين يستخدمونها في العادة.

“أغلب العنصرية في لبنان تمارس على السوريين”، قال عيسى، مضيفاً: “السوريون لا يساوون شيئاً الآن… يمكن لأي شخص الإساءة إلينا، ولا نحظى  بدعم السفارة السورية أو الدولة السورية”.

وختم كلامه والحزن في صوته: “نريد العدالة لمحمد”.

تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور

شارك هذا المقال