6 دقائق قراءة

“للبيع بداعي السفر”: سوريون يستخدمون الورقة الأخيرة لتأمين تكاليف الهجرة

بيع الأملاك والسيارات لأجل الهجرة، هي آخر أوراق الشباب لتمويل سفرهم، لكنها أيضاً الورقة الأخيرة التي يمكن الرهان عليها في تحسين أوضاع سكان شمال شرق سوريا


13 سبتمبر 2022

عمان- بعد أسابيع من المخاطرة والابتزاز، يصرّ دلشاد درويش (اسم مستعار) على أن “مغامرة الهجرة أفضل من الموت جوعاً أو انتظار مستقبل مجهول”، كما قال لـ”سوريا على طول”، من محطته المؤقتة في صربيا، حيث ينتظر تأمين تكاليف استكمال رحلته إلى وجهته النهائية ألمانيا.

في تموز/ يوليو الماضي، قرر درويش، 36 عاماً، مغادرة مدينته عامودا، التابعة لمحافظة الحسكة شمال شرق سوريا، تاركاً زوجته وطفليه في عامودا، ولأنه غير قادر على تأمين تكاليف التهريب قرر بيع أرضه، البالغة مساحتها 2.5 دونم، مقابل عشرة آلاف دولار أميركي.

اتفق درويش مع مهرب ينقله من عامودا، الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى مدينة اسطنبول، مروراً بمدينة رأس العين، الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني السوري (المعارض)، مقابل ثلاثة آلاف دولار، لكنه وقع “في قبضة فصيل أحرار الشرقية، بعد أن سلمني المهرب إليهم”، بحسب قوله، وطلب الفصيل “فدية مقدارها ثمانية آلاف دولار مقابل إطلاق سراحي وتأمين وصولي إلى اسطنبول”، وأمام ذلك “رضخت عائلتي لمطالبهم وتم تحويل المبلغ لهم”، وبذلك أنفق ثمن أرضه وما زال في بداية رحلة لجوئه.

منذ مطلع عام 2022، بدأت ظاهرة بيع الأراضي والعقارات والسيارات أو رهنها، تنتشر بين أوساط الراغبين في الهجرة في مناطق “قسد”، شمال غرب سوريا، لتأمين التكاليف المرتفعة، كما ذكرت عدة مصادر لـ”سوريا على طول”، وخالفوا بذلك أعراف السوريين، الذين يمتثلون للمثل الشعبي “الأرض كالعرض”، في إشارة إلى أن ملكية الأرض أو العقار لا يمكن التفريط بها مهما ساءت الظروف.

لكن، وصول السوريين إلى قناعة بأن البلاد لم تعد مكاناً صالحاً للعيش، بما في ذلك مناطق سيطرة “قسد”، التي يقدر عدد سكانها بنحو ثلاثة ملايين نسمة، دفعهم إلى هذا الخيار باعتباره الورقة الأخيرة، خاصة مع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية في سوريا، حيث توقع مرصد الاقتصاد السوري، وهو نشرة اقتصادية نصف سنوية للبنك الدولي، أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لسوريا بنسبة 2.6% في عام 2022، بعد انخفاضه بنسبة 2.1% في عام 2021، مشيراً إلى أن عوامل الصراع، والنزوح، وانهيار الأنشطة الاقتصادية، أسهمت في تدهور المستوى المعيشي للأسر.

الورقة الأخيرة!

لا توجد أرقام رسمية أو تقريبية عن أعداد المهاجرين من شمال شرق سوريا، لكن هدف الوصول إلى أوروبا حديث الشباب في شمال شرق سوريا، المنطقة التي تشهد تردياً في الأوضاع الاقتصادية والأمنية، وتتخوف من عملية عسكرية تركية تلوح بها أنقرة بين فترة وأخرى.

ويعيش نحو 90% من سكان سوريا تحت خط الفقر، ومن أصل 18 مليون نسمة، يحتاج 14.6 مليون للمساعدات الإنسانية، وفق تقرير صادر عن الصليب الأحمر، في أيار/ مايو الماضي، مشيراً إلى أن “الدمار واسع النطاق والتدهور التدريجي للبنية التحتية الحيوية -أي المياه والكهرباء والرعاية الصحية- [أدى] إلى إجهاد قدرة السكان على التكيف”.

وذكرت تقارير إعلامية أن قوات “قسد” وفصائل الجيش الوطني السوري المعارض، القوتان المسيطرتان في شمال سوريا، تشاركان في “بزنس” تهريب البشر إلى تركيا. قال الناشط حسام القس لـ”سوريا على طول” أن المهاجرين من مناطق “قسد” “يسلكون طريق منطقة عين ديوار الحدودية التابعة لمدينة المالكية [الذي يربط مناطق قسد بتركيا]، والثاني طريق رأس العين [الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني]”.

ويلاحظ القس، المقيم في مدينة المالكية (ديريك)، تزايداً في أعداد المهاجرين، لا سيما “فئة الشباب”، كما قال لـ”سوريا على طول”، وبمجرد تجولك في مدينته تجد “عروض بيع العقارات والأراضي والسيارات بداعي السفر، أي لتوفير الأموال للهجرة”، بحسب قوله.

بيع الأملاك والسيارات لأجل الهجرة، هي آخر أوراق الشباب لتمويل سفرهم، لكنهم أيضاً -أي الشباب- الورقة الأخيرة التي يمكن الرهان عليها في تحسين أوضاع سكان شمال شرق سوريا، نظراً “لتداعيات هجرتهم على المجتمع والاقتصاد، باعتبارهم عماد الاقتصاد المحلي والفئة المنتجة”، وفقاً للقس.

رغم خطورة هجرة الشباب، إلا أنها الطريق الوحيد للخروج من “الوضع المادي الذي يتدهور من سيئ إلى أسوأ”، على حدّ تعبير علاء رؤوف (اسم مستعار)، المقيم في مدينة منبج، إذ يجني من عمله في سوق الخضار بالمدينة الواقعة تحت سيطرة “قسد” ثلاثة دولارات يومياً، بينما مصروف عائلته اليومي، المكونة من زوجين وطفلين، “يتجاوز عشرة دولارات”، كما قال لـ”سوريا على طول”. وعليه، يبحث الشاب عن طريقة لتأمين تكاليف الهجرة.

طريقة محفوفة بالمخاطر

مع غياب حلول “إعادة التوطين” أو الهجرة النظامية إلى دول الاتحاد الأوروبي أو بريطانيا وأميركا، يسلك السوريون، الخارجون حديثاً من سوريا، طريق الهجرة غير النظامية، رغم ما تحمله من مخاطر على أرواحهم وأموالهم، كما في حالة دلشاد درويش العالق في صربيا.

بعد فكّ سراحه من فصيل أحرار الشرقية مقابل فدية مالية، وصل درويش إلى اسطنبول، واتفق مع مهرب هناك لنقله إلى صربيا عن طريق اليونان، مقابل 2000 دولار، ونجح في الوصول إليها، لكنه فوجئ بصعوبة مواصلة طريقه إلى ألمانيا، فعرض عليه مهرب مبلغ 5000 دولار مقابل تهريبه إلى ألمانيا، إلا أن خسارة ثمن أرضه مقابل دفع الفدية، اضطره إلى “بيع حليّ زوجتي من الذهب لتمويل باقي رحلتي”، كما قال.

بدد درويش أمواله في رحلة لم تصل إلى نهايتها، وكانت حياته عرضة للخطر، إذ لقي عدد من السوريين مصرعهم أثناء محاولاتهم العبور إلى أوروبا، كان آخرها وفاة ستة سوريين (ثلاثة أطفال وثلاث نساء) من محافظة دير الزور شرق سوريا، في أيلول/ سبتمبر الحالي، نتيجة الجوع والعطش والحرو، بعد أن فُقد قاربهم في البحر لمدة أسبوع.

وفي آب/ أغسطس الماضي، توفي شاب من دير الزور في غابات اليونان بعد أن تعرض لوعكة صحية أثناء رحلته، ليدفن في اليونان.

تضاف إلى هذه المخاطر، يتخوف بعض المهاجرين الكرد من شمال شرق سوريا، خاصة الموظفين السابقين في دوائر الإدارة الذاتية أو إحدى المؤسسات التابعة لها، من العبور إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، خشية أن يكونوا مطلوبون للأجهزة الأمنية التركية، كما قال عكيد بوزان (اسم مستعار) لـ”سوريا على طول”.

قرر بوزان، 25 عاماً، مغادرة سوريا عبر دمشق، عن طريق الحصول على تأشيرة دراسية من دولة بيلاروسيا، ولأنه كما غيره لا يملك تكاليف الرحلة، إذ لا يتجاوز دخله الشهري 70 دولاراً أميركياً، رهن أخاه أرضه الزراعية، مقابل تأمين تكاليف هجرته.

وصل بوزان إلى دمشق بعد التنسيق بين “الرفاق في مكتب التنسيق [التابع للإدارة الذاتية والحكومة السورية”، وتقدم بطلب التأشيرة، على أن يدفع مبلغ 3200 دولار، وهي تكاليف التأشيرة وتذكرة الطيران، بحسب قوله.

وفي حال حصل على التأشيرة، سيصل بوزان إلى بيلاروسيا، ومن ثم يفكر في مواصلة طريقه إلى ألمانيا، حيث يقيم أحد إخوته، ولكن هذا يتطلب “الاتفاق مع مهرب لنقلي من بيلاروسيا إلى بولندا ومنها إلى ألمانيا”، متوقعاً أن تتراوح تكلفة رحلة التهريب هذه بين 2000 و5000 دولار.

يدرك بوزان حجم المخاطر، لكن “الحياة في سوريا صارت مستحيلة معيشياً، والتهديدات التركية اليومية أوقفت حياتنا ورمتنا إلى المجهول”، بحسب قوله.

إعلان بيع منزل في مدينة المالكية (ديريك) شمال شرق سوريا، 13/09/2022 (سوريا على طول)

إعلان بيع منزل في مدينة المالكية (ديريك) شمال شرق سوريا، 13/09/2022 (سوريا على طول)

البحث عن التمويل

كانت طرق التهريب الخطرة، لا سيما ركوب مياه البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى أوروبا، تشكل هاجساً بالنسبة للسوريين، لكن وصولهم إلى طريق مسدودة، ينصب تفكيرهم على إيجاد وسائل تمويل تكاليف التهريب المرتفعة أكثر من التفكير بمخاطر الرحلة.

إلى جانب بيع الأملاك أو رهنها، كما في حالة دلشاد درويش وعكيد بوزان، اتبع بعض الأشخاص، أساليب أخرى في تأمين تكاليف السفر، من قبيل: شراء سيارة بالأقساط وبيعها نقداً، وهو ما يفكر به علاء رؤوف، المقيم في منبج، وهو “أسلوب متبع عند أهالي منبج منذ بداية موجة اللجوء”، كما قال.

يتوقع رؤوف أن تتراوح تكلفة رحلته إلى أوروبا بين 9 و10 آلاف دولار أميركي، انطلاقاً من مكان إقامته الواقع تحت سيطرة “قسد” مروراً بجرابلس واعزاز، ومن ثم إلى اسطنبول، ومنها إلى اليونان، وصولاً إلى النمسا أو صربيا، وأخيراً إلى ألمانيا، بحسب رؤوف.

في أحسن الأحوال يمكن لرؤوف “تأمين أكثر من نصف المبلغ، وذلك بشراء سيارة بالأقساط، قيمتها بقيمة 10 آلاف دولار، وبيعها نقداً بمبلغ خمسة آلاف دولار”، لكنه يبقى تأمين باقي المبلغ، وهو ما يحول بينه وبين هجرته.

وفي ذلك، قال محمد السعيد، تاجر سيارات في منبج، لـ”سوريا على طول”، إن “أهالي منبج عادة لا يفرّطون بأراضيهم وبيوتهم، لذلك بحثوا عن بدائل، من قبيل: الرهن وشراء سيارة بالأقساط ومن ثم بيعها نقداً، على أن يسددوا الأقساط شهرياً”، لكن هذا لا ينفي أن بعضهم “تجاوز العرف المحلي وباع بيته أو أرضه لتمويل رحلته”.

وفي سبيل حفظ حق البائع، يرهن المشتري أرضاً أو بيتاً، على أن يتم فكّ الرهن بعد سداد الأقساط المترتبة عليه لصالح مكتب السيارات أو التاجر الذي اشترى منه، وفقاً للسعيد، محذراً من أن مخاطر الطريق، وإمكانية تأخر وصول الشخص إلى وجهته في أوروبا وعجزه عن الالتزام “قد يؤدي إلى خسارته العقار المرهون، كما ينص العقد بين الأطراف”.

وتمر عملية شراء السيارة بالأقساط وبيعها نقداً بثلاث مراحل، وفقاً للسعيد، إذ يشتري الراغب بالهجرة، الذي لا يملك ثمنها، سيارة بالأقساط مع تقديم ضمانات سداد للبائع، من قبيل رهن عقار أو وجود كفيل، ومن ثم يبيع السيارة لتجار السيارات بنصف تكلفتها عليه نقداً، “وبدورنا نعرضها للبيع مع هامش ربح”، موضحاً أن هذه العملية “صارت ظاهرة في المنطقة، منذ مطلع العام الحالي. أنا لوحدي اشتريت وبعت أكثر من 50 سيارة بهذه الطريقة، وهناك تجار غيري أيضاً”.

مقابل هذه المخاطر، انتعش سوق منبج، وفقاً للسعيد، مستذكراً المثل الشعبي “مصائب قوم عند قوم فوائد”، لكن عاد السوق إلى الجمود بعد أن “صار العرض أكثر من الطلب”.

يدرك علاء رؤوف خطورة طرق البحث عن التمويل المتبعة فيه منبج، لكن الأمل بالمستقبل “بغض النظر عن النتائج، أفضل من الوضع الذي أعيشه”، ويتفق مع ذلك دلشاد درويش، متمنياً من مكان وجوده الحالي في صربيا، أن يصل إلى ألمانيا ليبدأ بإجراءات لمّ شمل زوجته وأطفاله الموجودين في عامودا.

شارك هذا المقال