11 دقائق قراءة

ملوك السماء السورية: رواج تهريب الصقور في شمال شرق سوريا (فيديو)

تحول صيد الصقور (الصقارة) من هواية تقليدية لأعداد قليلة من الصيادين، إلى تجارة مزدهرة في سوريا. بعد اثني عشر عاماً من الحرب والأزمة الاقتصادية، حظيت هذه التجارة بإقبال غير مسبوق، لا يأبه الصيادون بالمخاطر التي قد تواجههم أثناء عملية الصيد.


28 يونيو 2023

الطاش- في يوم غائم مطلع نيسان/ أبريل، وقف طيرٌ غريب بالقرب من مدخل بيتٍ طيني منخفض في قرية الطاش، وهي قرية عربية في أقاصي ريف محافظة الحسكة، شمال شرق سوريا، بالقرب من الحدود العراقية.

وقف الطير في سكون تام على عمود خشبي (المجثم أو الوكر)، بينما قدماه مقيدتان برباط صغير (السبوق)، ويغطي عينيه بُرقع جلدي صغير. بمنقاره الحاد ومخالبه الفتاكة، لم يكن مثل أي طائر يتوقع المرء رؤيته بالقرب من مساكن بشرية.

كان الطير صقراً برياً صغيراً، اصطاده صياد صقور (صقّار) سوري، في أواخر الخمسينيات من العمر. حُبس الصقر في الأرض بعيداً عن مملكته في السماء، وأغرقه البرقع المثبت على رأسه في ظلام دامس. عندما حمله الصياد ليعرضه على ستة رجال في مضافته، تشبث الصقر بمجثمه بلا أمل.

جلس أبو صدام بين ضيوفه، وهو يشع فخراً، في غرفته المتواضعة، ذات الجدران السميكة المصنوعة من الطوب الطينية العازلة للحرارة، قائلاً لـ”سوريا على طول”: “فرحة الإمساك بصقر لا يُمكن وصفها”، مشيراً إلى أن نوع الصقر الذي بين يديه لا تتعدى قيمته بضع مئات الدولارات، ولكن أسعار بعض الأنواع أغلى بكثير “أحياناً نمسك بصنف آخر، نسميه الشاهين، يساوي عشرة آلاف دولار أو أكثر”. 

يعتاش أبو صدَّام، كما غيره في قرية الطاش، طيلة العام على دخل غير ثابت مما تجنيه العائلة من الزراعة البعلية وتربية المواشي، فكان الصيد بمثابة “نعمة كبيرة” بالنسبة له. هي ليست المرة الأولى التي ترسل له السماء من خيرها: اصطاد أبو صدَّام اثني عشر صقراً على الأقل منذ بداية رحلته مع الصيد في مطلع الألفينات. يحتفظ بلوحةٍ تصوِّر الصقور الثلاثة المفضلة لديه معلَّقة عند مدخل منزله.

رغم اعتراف ضيوف أبو صدَّام بمهاراته في الصيد، إلا أنه ليس الوحيد في المنطقة الذي يحظى بدخلٍ غير متوقع بين الفينة والأخرى. في كل خريف، يصطاد صقارة محليون عشرات، وربما مئات، الصقور الحرة وصقور الشاهين المهاجرة في صحراء البادية الشرقية في سوريا. 

يمضي الصقّارة أسابيع في البادية، على أمل الإمساك بالصقور المهاجرة جنوباً، من مواطن أعشاشها في أوروبا وآسيا إلى مناطق أكثر اعتدالاً في أفريقيا ليقضون شتاءهم فيها، إضافة إلى صيد الصقور الوكرية والبربرية المقيمة في المنطقة. 

يعود هوس الصيد، في الغالب، إلى ارتفاع أسعار الصقور، التي يتم تهريبها إلى البلدان المجاورة لتُباع بعشرات آلاف الدولارات في دول الخليج، حيث صيد الصقور وتربيتها رياضة تراثية تقليدية. ولكن في العقود الأخيرة تحولت إلى مهنة لها تأثير متفاقم على أصناف الصقور، التي بات بعضها مُهدَّداً بالانقراض مثل الصقور الحرة. 

تحمي الاتفاقيات الدولية الصقور، فهي تُحرِّم بيعها، كما أن اصطيادها محظور رسمياً في سوريا. ولكن منذ بداية الحرب، دفعت الفوضى القانونية السائدة، وتقسيم البلاد إلى أكثر من منطقة نفوذ لجهات متصارعة، والضائقة الاقتصادية، إلى زيادة شعبية الصقور، لأنها صارت بمثابة كنوز متساقطة من السماء، يتهافت الصيادون الهواة إلى تقصي وتتبع مسارها، ويحتفون بالصيد بلدٍ شلتها الحرب والعقوبات. 

لإبقاء هذه التجارة الأخطبوطية العابرة للحدود بحيويتها خلال الحرب، تقوم شبكة من الصيادين والتجار غير القانونيين، المنتشرين داخل سوريا وخارجها، بتنسيق العمل في بينهم لتهريب الطيور من أقاصي الصحراء النائية، حيث يتم اصطيادها، إلى وجهتها النهائية في الخليج، حيث يتم شرائها. 

لوحة تضم الصقور التي اصطادها أبو صدام، معلقة في منزله بقرية الطاش، شمال شرق سوريا،  12/ 04/ 2023 (ليز موفة/ سوريا على طول)

إدمان الصيد

تمثل البادية، الممتدة في معظم أنحاء شرق سوريا، مركز الصقارة في سوريا، لكن يستعر جنون الصيد في السهول شبه القاحلة، التي بالكاد تغطيها بعض النباتات، إذ يمكن للصيادين أن يلمحوا فريستهم من بعيد،  وبإمكانهم تتبعها لمسافات طويلة بانتظار الفرصة السانحة للإيقاع بها.

خلال موسم الصيد، الذي يمتد من أواخر آب/ أغسطس إلى تشرين الثاني/ نوفمبر، يخرج الصيادون في مجموعات من أربعة أو خمسة أشخاص، لعدة أيام وأسابيع قد تطول لأشهر أحياناً، ويخيمون في أماكن نائية في الصحراء لا يعكر صفوها أحد.

عندما تقع أعينهم على طائر، يطلقون سمان أو حمامة تُثبت على ظهرها عقدة من الأسلاك الحديدية الملتفة، وعندما ينقض الطائر الجارح على الفريسة، تقع مخالبه في شراك الفخ، ولا يستطيع التحرر منه.

مصيدة مصنوعة من لفائف الأسلاك الحديدية، تُربط على ظهر طيرٍ حي لاستخدامه كطعمٍ للصقور، 12/ 04/ 2023 (ليز موفة/ سوريا على طول)

وهنا يعلو مستوى الأدرينالين عند الصقارين، ويسارعون بسياراتهم (البيك آب)، عبر الأراضي الوعرة المفتوحة، وهم يحاولون ألَّا يغيب الصقر عن أعينهم إلى أن يهوي مُثقلاً بفريسته. يمكن أن تستمر المطاردة لعدة كيلومترات قبل أن يتمكنوا أخيراً من رمي الشبكة على الطائر الجارح.

عندما تتهاوى الشبكة، تتعالى صيحات الصقّارة فرحاً وامتناناً، ويسحب البعض هواتفهم لتوثيق اللحظة التي قد تغير حياتهم. صيد صقرٍ يُماثل التعثر بشذرات من الذهب، إذ هناك طلب كبير على الصقور البرية في الخليج، حيث الصِقَارة رياضة تراثية. يتوقع الصقّارون السوريون أن يكسبوا في الطير الواحد من ألف إلى ثلاثين ألف دولار أميركي، وهذا يعتمد على نوعه ووزنه وطوله، وهو مبلغ تتقاسمه المجموعة فيما بينها. 

ثروة كهذه يُمكن أن تُغيَّر مصير عائلة في سوريا، التي تصارع أزمة اقتصادية حادة منذ بداية الحرب. تُباع الصقور بالدولارات، التي تضاعفت قيمتها مقابل الليرة السورية 400 مرة مقارنة بما كانت عليه في عام 2015، فالطيور التي كانت تساوي بضع مئات الآلاف السورية صارت تباع بالملايين.

بالنسبة للصيادين، الصيد غير مُرتهن بالمال فحسب، وإنما “يسري في دمنا”، قال أبو صدَّام، الصقار من قرية الطاش، وأومأ جميع ضيوفه برؤوسهم تأكيداً على كلامه. وأضاف: “لا يمكننا الإقلاع عن هذه الهواية. سأستمر بالخروج للصيد من أجل متعة الصيد، حتى لو لم أستطع بيع الطيور”.

الشغف لدى الصقّارة يدفعهم أحياناً إلى المخاطرة بحياتهم، إذ يُمكن أن يودي بهم الصيد إلى أماكن متاخمة للحدود مع العراق وتركيا، أي أراض مزروعة بالألغام، وهو ما أكده أبو صدام قائلاً: “هناك أماكن خطرة، لذلك نعتمد على عناصر الحواجز العسكرية في تحذيرنا من الألغام”.

الصيد علناً

كما أبو صدام، يصف محمد أبو جاسم علاقته بالصقور بـ”الإدمان”. وفوق هذا كله، يؤمن أنّها من التقاليد المهمة التي توَّحد وتجمع كل الرجال في المنطقة.

“يضم شمال شرق سوريا مجموعة كبيرة من الناس متعددة الأطياف، بما في ذلك الآشوريين والسريان والأكراد والعرب… يجمعنا شغف الصيد منذ مئات السنين”، كما قال أبو جاسم لـ”سوريا على طول”، مضيفاً: “هذا تراثنا، نتوارثه أباً عن جد”. بينما النساء نادراً ما يصطدن، كما يذكر الصقّارة، وإن كان البعض يستذكر مواقفاً كانت الزوجات يرافقن أزواجهن في رحلات الصيد. 

بدأ شغف أبو جاسم بالصِقَارة قبل 45 عاماً، وقاده إلى دروب عديدة في أذربيجان وتركيا بحثاً عن أماكن جديدة للصيد. ومع ذلك، لم يكن يحلم يوماً بالصيد علناً، فما بالك بأن يصبح المتحدث الرسمي باسم الصقّارة المحليين، المنصب الذي يشغله الآن!.

صيد الصقور محظور رسمياً في سوريا، وهي طرف في اتفاقية التجارة الدولية في الأنواع المهدَّدة بالانقراض من مجموعات الحيوان والنبات البرِّية (سايتس)، التي تُنظِّم الاتجار بالأصناف النادرة و المهددَّة  بالانقراض. وافقت الدول الأطراف في “سايتس” على حظر بيع معظم الصقور البرية في الثمانينيات.

قبل الحرب، كان القانون السوري يُعاقِب على الصيد بغرامة تصل إلى 250 ليرة سورية (قيمتها 5 دولارات قبل عام 2011)، والسجن لمدة قد تصل إلى شهرين، لكن قلَّما كانت تُفرض هذه العقوبات أصلاً أو يتم تنفيذها.  

ولكن بعد اثني عشر عاماً من الحرب، انهارت هذه الواجهة الزائفة، التي كانت الحكومة السورية تحافظ عليها لسنوات بمعاقبة الصقّارين بين الفينة والأخرى، وباتت مؤسسات الدولة اليوم في حالة من الفوضى، وخرجت الكثير من أجزاء البلاد عن سيطرتها.

تحكم  الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، شمال شرقي البلاد، وهي حكومة أمر واقع يقودها تحالف من الأحزاب السياسية الكردية والعربية والآشورية. وفي هذا الجزء، كانت الحرب بمثابة إعلانٍ لعصر ذهبي للصيّادين: حالياً تتغاضى السلطات المحلية كلياً عن صيد الصقور، ولا تلتفت إلى الصيد الجائر، ولا تعاقب عليه، وينصب تركيزها على إبقاء المنطقة عائمة اقتصادياً.

“ليس هناك أي قوانين تمنع الصِقَارة”، قال دجوار محمد ، مدير لجنة الثروة الحيوانية في هيئة الزراعة بالقامشلي، مشيراً لـ”سوريا على طول” إلى أن الصيد يحظر أحياناً في مناطق معينة، ولكن غالباً لدواعٍ أمنية.

بفضل التشكيلات السياسية الحديثة، تغيرت حياة أبو جاسم جذرياً. هو الآن رئيس جمعية صيد الصقور في القامشلي، التي تم تأسيسها عام 2019، ويعمل في مكتب بمدينة القامشلي، تحت مظلة اتحاد الفلاحين التابع للإدارة الذاتية، ولم يعد يتوارى من السلطات المحلية أثناء ممارسته الصيد. 

على النقيض تماماً، بات دوره يتمثل في “تسهيل عمل الصقّارة والتنسيق بينهم وبين السلطات المحلية، كما قال لـ”سوريا على طول”، وهذا العمل لا يقتصر عليه، وإنما “لكل بلدة في المنطقة جمعيتها الخاصة من صيادي الصقور المهاجرة” على حد قوله.

لا تكترث الإدارة الذاتية بالتأثير البيئي لهذه القوانين الجديدة. “في أيام النظام، لم تصدر عن السلطات تراخيص الصيد، ولكنها في الحقيقة لم تكن محظورة أيضاً”، بحسب أبو جاسم، قائلاً: “يستحيل أن تضع حرساً في كل مكان لتراقب ما يفعله الناس في البراري”.

تحليق الأسعار

مع تضاؤل تنفيذ القوانين، التي تم تشريعها لحماية الطيور الجارحة المهاجرة، يتزايد التهافت على تجارة الصقور في أنحاء سوريا، ولاسيما مع التدهور السريع للوضع الاقتصادي منذ بداية الحرب. 

“بدأ الكثير من الأشخاص الجدد بالصيد خلال العامين أو الثلاثة الماضية”، بحسب أبو صدام، الصقّار من قرية الطاش. “يرى الناس أنَّ هذه الطيور تُباع بسعر جيد، لذلك يجربون حظهم، وهناك أناس خبرتهم صفر في الصيد ومع ذلك يحاولون الانضمام لهذا المجال”. 

يسهم تحول المشهد القانوني وظهور جمعيات الصقارة في ازدياد الإقبال على الصيد، في شمال شرق سوريا على الأقل، التي أصبحت تُصدر تراخيص الصقارة، إذ تبلغ رسوم الترخيص سنوياً أربعة آلاف ليرة سورية (0.45 سنتاً، بحسب سعر الصرف في السوق الموازية، البالغ 8775 ليرة سورية للدولار). تُخوِّل الرخصة الصيادين بالمرور عبر نقاط التفتيش بكامل ذخيرتهم ومعداتهم.

“بفضل هذه البطاقات، يمكنك أن تتجول حاملاً بندقيتك وفخاخ الصيد وطيور الحمام دون أن يوقفك أحد”، قال أبو صدّام، بينما “لم يكن الأمر هكذا قبل الحرب، كان الصيادون يخشون مصادرة معداتهم أو بنادقهم”. 

أُصدِرت هذه البطاقات لأول مرة في عام 2019، عندما تم تأسيس أول جمعية للصقارة في القامشلي، وحظيت التراخيص بشعبية كبيرة في مواسم الصيد الثلاثة الماضية، وهو ما قد يشير إلى تنامي الاهتمام العام بالصِقَارة. ارتفع عدد التراخيص التي تصدرها جمعية القامشلي سنوياً في محافظة الحسكة قاطبة من  60 بطاقة في عام 2019 إلى أكثر من 900 في عام 2022، وفقا لأبو جاسم، الذي يترأس الجمعية.

ومن المرجح أن تأثير الصِقارة على البيئة قد تفاقم منذ عام 2011 مع زيادة إمكانية الوصول إلى الذخيرة والأسلحة، على الرغم من استحالة قياس هذا الأثر نظراً لعدم وجود بيانات عن عدد الطيور التي يتم صيدها وتهريبها خارج سوريا سنوياً. 

لكنَّ الصيادين أنفسهم يقولون أنَّ أعدادهم قد ارتفعت، وأنَّ الصيد أصبح أكثر سهولةً ويسراً. وفي ذلك، قال أبو جاسم: “نتمتع بحرية أكبر، هناك صيادون بأعدادٍ كبيرة يخرجون الآن للصيد. بينما كان الأمر أصعب سابقاً، إذ لم يكن بإمكاننا الذهاب للصيد في جميع الأوقات، وكان الوصول إلى بعض المناطق صعباً”، على عكس اليوم “أصبح ذلك أسهل، ويمكنك عبور الصحراء والاصطياد بدراجة نارية بسيطة”. 

كذلك، تتنامى تجارة الصقور البرية، حالياً، رغم أن الصراع على الأرض فصل مناطق الصيد في سوريا عن المدن الكبرى. وفي سبيل التغلب على ذلك، أعيد تشكيل شبكات التجارة التاريخية بطريقة بطريقة جديدة تتماشى مع الواقع الحالي.

قبل الحرب، كان معظم  تجار الصقور يتمركزون في مدينة الرحيبة، في ريف دمشق، وكان يُسمح لهم بالمتاجرة في الصقور البرية داخل سوريا فقط، إذ تم حظر تصديرها رسمياً بموجب اتفاقية سايتس. ومع ذلك، كان المئات من التجار المسجَّلين يتاجرون بها خارج المدينة، وكان لمعظمهم يد في تهريب الصقور بشكل غير مشروع إلى المشترين في الخليج.

ما تزال شبكة الاتجار هذه قائمة، وتباع من خلالها العديد من الطيور، التي يتم صيدها في مناطق شمال شرق سوريا، الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية. تُرسل الطيور أولاً من مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا إلى أراضي النظام عبر نقاط عبور داخلية ضمن سوريا، ثم يتم تهريبها إلى خارج البلاد جواً عبر لبنان، أو براً عبر الصحراء السورية الجنوبية والأردن.

أيضاً، أوجدت طرق جديدة، كما قال تاجران وصيادان لـ”سوريا على طول”، إذ تُرسل بعض الطيور مباشرة إلى إقليم كردستان العراق، المتمتع بالحكم الذاتي، الحدودي مع الأجزاء التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية، عبر معبر فيشخابور- سيمالكا الحدودي. تمر البضائع الحية عبر المعبر “دون صعوبة وبطريقة قانونية” شريطة دفع “الرسوم الجمركية”، بحسب أحد التجار. وانطلاقاً من هذه النقطة، يُرجح إرسال الطيور براً عبر العراق لتصل إلى وجهتها النهائية في الخليج.

ومن الجدير ذكره أنّ العراق طرف أيضاً في اتفاقية سايتس، ويُحظَر صيد الصقور والاتجار بها في كردستان العراق، لكن السلطات المحلية تعزو ضعف تنفيذ المعاهدة إلى نقص التدريب والتمويل.

“نحاول اتخاذ إجراءات صارمة ضد الاتجار بالحياة البرية، لكن المطارات والحدود هنا لا تملك المعدات اللازمة للكشف عمَّا يتم أخذه من منتجات الحياة البرية بشكل غير قانوني”، كما قال  لـ”سوريا على طول” مسؤول في هيئة حماية البيئة بإقليم كردستان العراق، المعنية بتنفيذ “سايتس” في الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي.

“أصبحت مهنة”

غالباً ما يرجع الصيادون السوريون هوايتهم إلى التراث التقليدي، غير أنَّ نطاقها الحالي ومداها وتأثيرها يتعدى ذلك بكثير. لعدة قرون، كانت الصِقارة تنحصر بالنخب وبعض الصيادين المحليين، وكان تأثيرها محدوداً على عدة طيور، التي يُطلق سراحها بعد عدة مواسم صيد.  

ولكن على مدى العقود الأخيرة، نمت الصِقارة وأصبحت مهنة منتشرة ينخرط بها مئات الصيادين والتجار في العديد من بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. ولم تعد الطيور الجارحة مُبتغى الصقّارة فحسب، وإنما النخب الثرية في الخليج، الذين يحتفون بها كرمز يدل على فخامة مكانتهم. يملك بعضهم مجموعات تضم عشرات الطيور، ولا يعتزمون تحريرها.

يعترف الصَّقَّارون السوريون أنفسهم بالتحولات والتغيرات التي طرأت خلال القرن الماضي.

“في الأيام الماضية، لم نكن نصيد الصقور لبيعها وإنما لأنفسنا، ندربها ونعلمها كيف تصطاد”، قال أبو صدَّام. لكن الثروة المتنامية في الخليج، التي غذاها إلى حد كبير نمو قطاع النفط في ثمانينيات القرن العشرين، أتاحت لعددٍ متزايد من الصيادين السفر مع طيورهم إلى أراضٍ جديدة في المنطقة للاصطياد فيها وبناء علاقات مع الصيادين في الخارج. ومن هذه الروابط المتبادلة، أخذ الصيد طابعاً دولياً.

طائر القطا، الذي يستخدمه الصيادون كطعمٍ حي، 12/ 04/ 2023 (ليز موفة/ سوريا على طول)

“لم أكن موجوداً بالطبع. كان ذلك في أيام أبي وجدي، ولكن ما حدث على الأرجح أنَّ أحدهم أمسك بطير وباعه لشخصٍ في الخليج وجنى ربحاً لا بأس به، ليغدو الصيد مهنة”، بحسب أبو صدام.

في السنوات التالية، تطورت في أنحاء المنطقة شبكة عابرة للحدود من الباعة والمشترين. كانوا يشترون الطيور من الصيادين المحليين بالنيابة عن المشترين والتجار الكبار في الخليج، يتفاوضون على أسعارها على الهاتف. وفي غضون ذلك، اكتسب عدد متزايد من الأشخاص تقنيات الصيد، وأصبحوا صيَّادين نظاميين مثل أبو صدام والعديد من جيرانه.

عندما صار صيد الصقور أكثر ربحاً، بدأ بعض الصقّارة السوريين باستكشاف أراضٍ جديدة ليصطادوا فيها ليس في سوريا وحدها، وإنما خارجها: في أذربيجان، منغوليا، إيران، وروسيا. لذلك سافر عددٌ كبير من الصيّادين إلى روسيا وآسيا الوسطى في ثمانينيات القرن العشرين لدرجة أنَّ  كلمة الصقّارين صارت  تستخدم كمرادف لللدلالة على “السوريين” في الروسية

اليوم، بات لهذا الصيد تأثيراته الضارة على بعض أنواع الصقور، المهددة بالخطر، مثل الصقر الحر، وأصناف أخرى، مثل الصقور الوكرية، وإن كانت  إلى الآن غير مهددة بالانقراض على مستوى العالم غير أن أعدادها تتراجع في المنطقة، ويعود ذلك جزئياً إلى الاصطياد الجائر.

وفي ذلك، قال أبو صدام: “كنا نصطاد صقور السنجاري بسهولةٍ أكثر، ولكنها الآن أصبحت نادرة”، وهو صنف محلي من الصقور الحرة.

لا يلاحظ البعض الآخر هذا الانخفاض، رغم أنَّه موثَّق من قبل علماء الطيور. إذ بحسب أبو جاسم: “في سوريا صرنا نرى طيوراً أكثر من قبل، هناك صيادون أكثر، وبالتالي هناك أناس أكثر يبحثون عن الطيور”، مضيفاً: “كنا 25  شخصاً نصيد 25  طيراً في محافظة الحسكة، بينما الآن نحن 500، ونصيد 200 طير”. 

في سوريا وخارجها، يُفضي التهافت على هذه التجارة إلى تنافس متزايد بين الصيَّادين. وهذا ما جعلهم يبحثون عن بقاعٍ جديدة وأصنافٍ جديدة أحياناً. بعض الصيّادين غير المحترفين يصطادون كل ما تقع أعينهم عليه من الطيور الجارحة، بما فيها العقبان، والصقور الحوَّامة والنسور، كونهم لا يميزون بينها وبين الصقور ذات القيمة العالية. 

“أصبح الصَّقَّارون جشعين، ويبحثون عن أي شيءٍ يمكن اصطياده”، قال نشأة حميدان، باحث واختصاصي في صون الطبيعة، ساعد في إنشاء مركز لإعادة تأهيل الطيور الجارحة المُنقذَة، تديره الجمعية الملكية لحماية الطيور. 

وأضاف حميدان في حديثه لـ”سوريا على طول: “تسبب ذلك جزئياً بجعل الصقور مهددة بالانقراض”، مؤكداً أن “أعداد الصقور البرية في انخفاض”. 

كلما نظر إلى السماء السورية، وجدها مليئة بالطيور في كل ربيع وخريف، فلا يجد أبو جاسم الآن سبباً للجزع أو القلق. ما يزال هناك الآن ما يكفي من الصقور التي تُشعل أحلام مئات الصيادين العالقين في هذه البراري التي تفتقر إلى سبل العيش، يتوقون إلى فرصةٍ للتماهي مع الطبيعة والاستمتاع بهذه الهواية المحببة إلى قلوبهم بصحبة أقرانهم الصيادين. 

ولكن، مع تهافت أشخاص للدخول في هذه التجارة وتعلمها، تشتد وطأة الصيد على الطيور الجارحة،  وربما تصبح هذه الطيور العظيمة، التي ترمز إلى قوة الصحارى وتمثل ملوك السماء السورية، نادرة كشذرات الذهب في البادية.

أُنتِج هذا التقرير بدعمٍ من  شبكة صحافة الأرض التابعة لإنترنيوز.

نُشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.

شارك هذا المقال