8 دقائق قراءة

مِحنة العمال السوريين في مرفأ بيروت بعد الانفجار: خسارة أرواح وسبل عيش

وحتى اللحظة، مايزال غير معروف على وجه الدقة عدد العمال السوريون الذين قضوا في المرفأ


27 أغسطس 2020

بيروت- لثلاثين دقيقة ومن وراء سياج مرفأ بيروت، كانت المرة الأخيرة التي رأت فيها خديجة عيروط أخاها. كان ذلك في كانون الأول/ يناير الماضي، حين جاءت والدتهما من سوريا إلى لبنان لزيارتهما. إذ تقيم خديجة في طرابلس منذ أربع سنوات، بعد أن اضطرت لمغادرة منزل عائلتها في مدينة بانياس بمحافظة طرطوس الساحلية فراراً من الحرب في سوريا. أما شقيقها مصطفى، فكان يعمل على متن سفينة “أورينت كوين” السياحية التي كانت ترسو في مرفأ بيروت. ولأنه لا يحمل إقامة في لبنان، فإنه لم يكن بمقدوره مغادرة المرفأ. 

“التقينا عند السياج على المرفأ، لمدة نصف ساعة فقط، لتبادل التحية. كانت الطريقة الوحيدة لكي نلتقي. طريقة تفتقد للإنسانية”، كما قالت اللاجئة السورية ذات السادسة والعشرين عاماً لـ”سوريا على طول”، في منزلها بطرابلس. 

لثماني سنوات، عمل مصطفى بحاراً في مرفأ بيروت لإعالة زوجته وطفله ذي الثلاث سنوات، والموجودين في سوريا. وقبل انفجار 4 آب/أغسطس بأسبوع، طلب أن يلتقي بخديجة مرة ثانية، إذ كان يشتهي تناول طعام سوري.

لكن انفجار بيروت الذي يعد ثالث أكبر انفجار غير نووي على مر العصور، وأفضى إلى مقتل 182 شخصاً وفقاً لبيانات وزارة الصحة اللبنانية، إضافة إلى عدد من المفقودين حتى الآن، أغرق “أورينت كوين”. 

“رأينا الانفجار على التلفاز. حاولنا التواصل معه [مصطفى]، لكننا لم نتمكن من الاتصال به”، كما روت خديجة. وقد ظل زوجها يجول المستشفيات على مدى يومين بحثاً عنه، إنما من دون نتيجة. مضيفة: “حاولنا البحث عنه عبر مجموعات فيسبوك، لكن اسمه لم يكن أيضاً في قائمة الجرحى. وفقدنا الأمل”.

لاحقاً، حضر والد خديجة من سوريا إلى لبنان لإجراء فحص الحمض النووي (DNA) ومطابقته بذاك الخاص بإحدى الجثث مجهولة الهوية. وفي 15 آب/أغسطس الحالي، تلقت العائلة مكالمة من مستشفى الرسول الأعظم تبلغهم بوجود أشلاء من جثة مصطفى. وفي اليوم التالي تم إبلاغهم من قبل مستشفى رفيق الحريري أن لديهم بعض من رفاته أيضاً.

مصطفى، ذو الثلاثين عاماً، والأكبر بين أربعة أشقاء، كان معيلاً للأسرة. “كان بالنسبة لوالدي العالم كله. كان محبوباً جداً”، قالت شقيقته وهي تتأمل تسجيلاً مصوراً لجنازته في مسقط رأسه، بحضور حشد من مودعيه. 

وحتى اللحظة، لا يزال غير معروف على وجه الدقة عدد العمال السوريون الذين قضوا في المرفأ. وقد تواصلت “سوريا على طول” مع السفارة السورية في بيروت للاستفسار عن تحديث بشأن القائمة الأولية للضحايا السوريين الذين قتلوا في الانفجار، لكن لم يتلق الموقع أي رد.

عزام يحيى حمو (55 عاماً) ومصطفى عيروط (30 عاماً) من العمال السوريين الذين قضوا في انفجار مرفأ بيروت، 19/ 08/ 2020 (سوريا على طول)

على تلك القامة كان مدرجاً اسم عزام يحيى حمو، وهو رجل في الخامسة والخمسين من مدينة حماة أصلاً، ويعمل ميكانيكياً في المرفأ منذ ثلاثين عاماً. “كنت أكلمه على واتسآب. كان في الميناء، وأخبرني عن اندلاع النيران هناك. بعد خمس دقائق انقطع الاتصال”، وفق ما ذكر ابنه محمد ذو الرابعة والعشرين عاماً لـ”سوريا على طول” عبر اتصال هاتفي من حماة.  بعد ثلاثة أيام من الانفجار، دفن عزام في حماة. 

كان راتب عزام يكفي لإعالة أبنائه الخمسة. لكن مع انهيار سعر صرف العملة اللبنانية، انخفضت قيمة راتبه البالغ 600,000 ليرة لبنانية، من 400 دولار بسعر الصرف الرسمي إلى 85 دولاراً بسعر الصرف الموازي. 

“ذهب كل شيء بعد أن كنا نعتاش من المرفأ”

أدى انفجار بيروت إلى فقدان الآلاف عملهم، لاسيما في مرفأ بيروت. وفي الكرنتينا، أحد أكثر الأحياء تضرراً من الانفجار، يقطن كثير من عمال المرفأ السوريين.

في فناء منزله، وسط الأنقاض، يجلس عبد الله وصديقاه نجيب وخالدي، وينضم إليهم ابراهيم لاحقاً، يتحدثون عن ضبابية مستقبلهم. إذ ما عساهم يفعلون بعد أن كانوا عمال مياومة في المرفأ، حيث يتراوح أجرهم اليومي بين 30,000 و70,000 ليرة لبنانية (20-46 دولاراً بحسب سعر الصرف الرسمي، و4-10 دولارات وفقاً لسعر السوق الموازي) مقابل تحميل شحنات البضائع وتفريغها. وكما ذكروا لـ”سوريا على طول”، فإن أياً منهم لم يكن على علم  بالمواد المتفجرة المخزنة في المرفأ، وقد نجاهم القدر لأنهم كانوا يعملون جميعاً في فترة المناوبة الصباحية يوم الانفجار.

من اليسار إلى اليمين: عبدالله وخالدي وإبراهيم يتبادلون الحديث بينما يجلسون وسط أنقاض منزل عبد الله في الكرنتينا ببيروت، 17/ 8/ 2020 (سوريا على طول)

نجيب محمود العبود، 52 عاماً، من مدينة كفرزيتا بريف حماة، يعمل في مرفأ بيروت منذ 24 عاماً لإعالة أسرته المكونة من 14 فرداً. وكان قد غادر المرفأ قبل ساعة من الانفجار. لكن “توقف العمل الآن بالنسبة لنا كارثة. ليس لدينا راتب شهري، فنحن عمال مياومة”، كما قال.

أما عبد الله أحمد مصطفى ، القادم من ريف حماة أيضاً، فقال: “دمر مطبخنا وصار كل الخشب حطاماً”. وأضاف بينما يشير إلى واجهة منزله المتضررة: “الجيران ساعدونا في إزالة الأنقاض”. لكن بحسب هذا الشاب السوري البالغ من العمر 31 عاماً ويعمل في المرفأ منذ ثماني سنوات، فإنه لم تعرض عليهم أي منظمة المساعدة حتى الآن. وكل ما يشغل باله هو العودة إلى العمل لإعالة زوجته وطفله الرضيع الذي رزق به حديثاً.

بالنسبة لخالدي مبارك، 36 عاماً، فهو غير قادر على دفع إيجار منزله البالغ 500 ألف ليرة لبنانية شهرياً. “كنا نعتاش ونأكل من المرفأ. والآن ذهب كل شيء”، قال هذا السوري اللاجئ من كفر زيتا، والأب لثلاثة أولاد. وهو يحتاج أيضاً إلى 70,000 ليرة لبنانية شهرياً لتأمين الحليب لطفله ذي التسعة أشهر: “ليس لدي حتى ثمن الحليب. أتيت إلى هنا في العام 2012 بسبب الحرب في سوريا، ونحن نحاول فقط تأمين معيشتنا، لكن الآن نقف مكتوفي الأيدي. دعونا نعيش بكرامة”.

وكانت الأمم المتحدة حذرت، الأسبوع الماضي، من أن 55% من سكان لبنان قد انزلقوا إلى مستوى الفقر، وهي ضعف نسبة العام الماضي. فيما يرزح اللاجئوون السوريون في قيود وعقبات إضافية. ويقدر برنامج الغذاء العالمي أنه من أصل 1.5 مليون لاجئ سوري في لبنان تقريباً، يعيش 1.2 مليون منهم بأقل من 2.9 دولار يومياً.

ولخص ابراهيم عبد الله، 31 عاماً، ومن كفرزيتا أيضاً، محنته وأصدقاءه بالقول: “إن عملنا نأكل، وإن لم نعمل نجوع حتى اليوم التالي”. وهو يعمل في المرفأ منذ العام 2013، ولو أن الوضع آمنٌ في سوريا لعاد إليها، كما أضاف. لكن في الوضع الراهن، ما يزال هذا الأب لطفلين يأمل بالتوطين في دولة ثالثة: “بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، أستراليا، لا يهم”. ومنذ العام 2011، تمت إعادة توطين 100,000 لاجئ سوري من لبنان. لكن نتيجة لتقيد حركة السفر ضمن إجراءات احتواء وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، تم تعليق إعادة التوطين.

وكانت الكويت تعهدت، الأسبوع الماضي، بتمويل إعادة بناء صوامع القمح في مرفأ بيروت. لكن ما يزال غير واضح متى سيعود المرفأ إلى العمل بشكل كامل، ومتى سيتمكن العمال من العودة لأعمالهم.

اليوم، يشرف محمد السطوف على العمال الذين يصلحون سقف بيته الذي دمره الانفجار. وكان هذا الشاب البالغ من العمر 39 عاماً، والقادم من مدينة حماة وسط سوريا، يصور الحريق الذي سبق الانفجار من شرفة منزله، ما تسبب له بإصابات في ذراعه، فيما لحقت كدمات بزوجته. ورغم عمله في المرفأ لحوالي 17 عاماً، فإن راتبه البالغ 500,000 ليرة لبنانية لا يكاد يكفي لتسديد إيجار منزله والبالغ 325,000 ليرة. مع ذلك، فإنه لا يفكر في العودة إلى سوريا: “هكذا نحيا. لو أن الوضع في سوريا  أكثر أمانا، لكنت أرسلت زوجتي وطفلي إلى هناك”، كما قال.

محمد السطوف يحدق في صوامع القمح المدمرة بمرفأ بيروت من شرفة منزله في الكرنتينا ببيروت، 17/ 08/ 2020 (سوريا على طول)

في شارع موازٍ، تجلس ولاء أحمد العابد في غرفة معيشتها تترقب سماع أخبارٍ عن زوجها صلاح أحمد الجلاد، عامل صيانة في المرفأ، والذي طاله الانفجار. إذ يرقد الزوج “في مستشفى رفيق الحريري منذ عشرة أيام، ويعاني من نزيف دماغي”، كما قالت لـ”سوريا على طول”. لكن الأطباء يحتاجون لإجراء صورة رنين مغناطيسي له تبلغ تكلفتها 600,000 ليرة لبنانية، وهو مبلغ لا يملكه الزوجان اللاجئان من مدينة دير الزور، شرق سوريا. وكان فريق من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قد زار ولاء صباح ذلك اليوم، لتقييم حالة العائلة المادية، موضحة في حديثها لـ”سوريا على طول” أن “زوجي لا يستطيع العمل الآن، ولا نعلم إن كنا سنأخذ راتب هذا الشهر”. فيما ليس بوسعهم العودة إلى سوريا، لأن “عائلتي نزحت من دير الزور، وهم في حلب الآن، وليس لدي منزلٌ أعود إليه”.

وكانت ولاء، ذات الثلاثين عاماً، في منزلها مع أطفالها الأربعة حين تحطمت النوافذ جراء الانفجار الذي أكدت أنه “لم نشهد مثله خلال الحرب في سوريا”، و”أصبح صغاري الآن يصرخون لدى كل طرق على الباب”.

المطالبة بالمساءلة

حتى الآن تم إيقاف 16 شخصاً على ذمة التحقيق في سبب تخزين 2,750 طناً من نترات الأمونيوم في منطقة سكنية  لأكثر من ست سنوات، والتي أدت إلى انفجار مرفأ بيروت. وسيتم النظر في القضية من قبل المجلس العدلي، وهو “محكمة استثنائية لا تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة”، كما جاء في مقال للمحامي نزار صاغية، العضو المؤسس والرئيس التنفيذي لجمعية المفكرة القانونية. كما انتقد صاغية فشل السلطات في اتخاذ تدابير فورية لحماية مسرح الجريمة بهدف منع أي تلاعب بالأدلة، واعتبر أيضاً أن تعيين القاضي فادي صوان محققاً عدلياً هو “مؤشر سلبي”، كونه يعرف عن صوان “انسجام الإجراءات المتخذة منه وقراراته الظنية مع طلبات ومطالعات النيابة العامة العسكرية، حيث قلما يخالفها أو يقرر التوسع في التحقيق بما يتجاوز الإطار المرسوم منها”.

المحامية ندى عبد الساتر  تتحدث في مؤتمر صحفي عقدته جمعية ضحايا مجزرة بيروت قرب موقع الانفجار، 14/ 8/ 2020 (سوريا على طول)

ويوم الجمعة، 14 آب/أغسطس، وفي خيمة تقع على بعد 700 متر من موقع الانفجار، نظمت مجموعة من أهالي الضحايا مؤتمرا صحافيا، كما دعت ضحايا آخرين للتسجيل على موقع المجموعة الإلكتروني ضحايا مجزرة بيروت لتكثيف الجهود المطالبة بالعدالة. وقد طالبوا في رسالة موجه إلى مجلس الأمن الدولي بتشكيل لجنة تحقيق دولية وإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة دولية خاصة “بھدف محاكمة ومعاقبة كل مسؤول وكل من له علاقة مباشرة أو غیر مباشرة بھذه الجریمة المروعة”، وفق ما قالت المحامية ندى عبد الساتر أبو سمرا التي تمثل الضحايا.

كذلك، اعتبر نائب المدير التنفيذي للمناصرة في منظمة هيومن رايتس ووتش، السيد برونو أوغارتي، في تصريح أن الضحايا وعائلاتهم “يستحقون إجابات لا يمكن تقديمها إلا من خلال تحقيق يقوده خبراء دوليون. إذ من المرجح أن يؤدي التحقيق المحلي الذي تجريه دولة [لبنانية] فاسدة وغير كفؤة إلى التغطية [على المتورطين] ومنحهم حصانة من العقاب”.

وبالنسبة لمحمد الذي فقد أباه في التفجير، فإنه “لا ثقة” لديه في التحقيقات اللبنانية. فيما وجهت خديجة رسالة إلى المتورطين بسلسلة الإهمال واللامبالاة التي نجم عنها مقتل أخيها، هي: “عيب عليكم، دمرتمونا”.

نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.

شارك هذا المقال