8 دقائق قراءة

“الأضعف والأكثر عرضة للاستغلال”: تحديات مجتمعية تواجه نساء الرقة العائدات من الهول

تعاني النساء العائدات من مخيم الهول إلى الرقة من تحريض المجتمع المحلي ضدهن والتنمر عليهن، وفيما يصفن أنفسهن بأنهن ضحايا، ينظر المجتمع إليهن على أنهن جزءاً من تنظيم داعش.


الرقة- بعد حوالي تسع سنوات على مبايعة زوجها لتنظيم داعش، ما تزال عبير حتى الآن، تدفع ثمن بقائها في بيت زوجها ومرافقته في رحلته، التي انتهت بخسارة أفراد عائلتها، بما فيهم زوجها، في بلدة الباغوز بريف دير الزور الشرقي، على الحدود السورية-العراقية.

لم يكن التزامها بيت زوجها قبولاً بأفكار التنظيم، وإنما “تماشياً مع العادات والتقاليد السائدة في المجتمع، التي تفرض على المرأة عدم مخالفة زوجها والخروج عن رأيه”، كما قالت السيدة، التي تنحدر من ريف الرقة الجنوبي، لـ”سوريا على طول”، ومع ذلك يعتبرها بعض أفراد المجتمع بأنها جزءاً من التنظيم لا ضحية له.

بدأت علاقة زوجها بعناصر التنظيم، الذين كانوا يترددون إلى المطعم الذي يعمل فيه، في عام 2014، وبعد أشهر من العام ذاته بايع زوجها التنظيم، ولم يمض على زواجه من عبير ثلاثة أشهر.

منذ التحاق زوجها بالتنظيم، وحتى معركة الباغوز، التي قضت فيها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على تنظيم داعش بسوريا، في آذار/ مارس 2019، بدعم من التحالف الدولي، رُزقت عبير بخمسة أطفال، خسرت أربعة منهم في القصف على الباغوز، إضافة إلى زوجها، كما تعرضت للإصابة وفقدت البصر بإحدى عينيها، بحسب قولها.

انتهى المطاف بعبير في مخيم الهول، الذي خصصته “قسد” لعائلات تنظيم داعش، حيث أمضت فيه عشرين شهراً قبل أن تخرج، عام 2021، عبر ما يعرف بـ”لجان حل النزاع” بموجب الكفالات العشائرية.

عبير واحدة من أصل ثلاثة آلاف شخص (900 عائلة)، خرجوا من الهول بين عامي 2018 و2021، بموجب الكفالات العشائرية، بحسب أرقام حصلت عليها “سوريا على طول” من منظمة “شباب أوكسجين”، وهي منظمة مجتمع مدني محلية قدمت برامج خاصة للعائلات التي عادت إلى الرقة بعد خروجها من الهول.

وفي أيلول/ سبتمبر 2023، خرجت 90 عائلة من الهول إلى الرقة، تضم 250 طفلاً، عبر الكفالات العشائرية. هؤلاء الأطفال ومن قبلهم ابن عبير الوحيد، تسعة أعوام، بعد مقتل باقي أبنائها، يدفعون ثمن قرارات آبائهم، حتى الآن، نتيجة مشاكل في الأوراق الرسمية أو نظرة المجتمع لهم.

كثيراً ما يسأل ابن عبير أمه عن جده وجدته، والدا أبيه، “ولماذا لا يتواصلون معنا أو يزوروننا”، لتجد الأم نفسها حزينة وحائرة من الجواب، بحسب قولها، مشيرة إلى أن “والدا زوجي قرروا مقاطعتنا منذ انضمام زوجي للتنظيم، ومستمرون في مقاطعتنا حتى الآن”.

وتشتكي عبير ومثيلاتها ممن تحدثن لـ”سوريا على طول” لإعداد هذا التقرير من وجود صورة نمطية سيئة عن هذه الفئة من النساء العائدات من الهول، بحيث يحمّل المجتمع هذه الفئة الضعيفة مسؤولية ما آلت إليه المنطقة في شمال شرق سوريا بعد سيطرة التنظيم.

في مواجهة المجتمع

مع سوء أوضاع مخيم الهول، الذي يوصف بـ”السجن”، كانت تتوقع عبير أن تنتهي سنوات العذاب بمجرد عودتها إلى مسقط رأسها، جنوبي محافظة الرقة، لكن وصمة التنظيم ما زالت تلازمها، فكثيراً ما تسمع من المجتمع المحيط “أنتم نساء داعش، أو أنت زوجة داعشي”، هذه العبارة “لم أسمعها في المخيم لهذه الدرجة، كما أن طعامي وشرابي كان مؤمناً في الهول”، بحسب عبير.

غريب أن تتمنى امرأة سورية عاشت في مخيم الهول، سيء الصيت، العودة إليه، ولكن عبير تمنت ذلك، قائلة بتهكم: “ليت قدمي كُسرت ساعة خروجي”، في إشارة إلى شعورها بالندم. 

أوضحت أم عبد الله، وهي إحدى النساء اللاتي خرجن من الهول، سبب شعورهن بالندم على الخروج من الهول، قائلة: “رغم أن الحياة في المخيم أشبه بسجن، لكن داخله لا يوجد أحد يتعالى عليك، بينما خارج المخيم نعاني من رفض المحيط لنا”، كما قالت السيدة لـ”سوريا على طول” من مكان إقامتها في الرقة، مستذكرة حادثة طردها من منزل جارتها بعد أن عرفت أنها من “نساء الهول”.

خرجت عبير بكفالة عشائرية، ما يعني أنها خضعت لدراسة أمنية قبل الموافقة على خروجها،  ويُفترض أن يكون خروجها من المخيم بمثابة طيّ صفحة الماضي وتأسيس حياة جديدة، لكن “نحن شعب لا ينسى”، قالت عبير، معبرة عن مخاوفها “من الاعتقال أو الانتقام، وبالتالي في أي لحظة قد أذهب بشربة ماء”.

“لا أستطيع إبداء الرأي في شأن يخص المنطقة التي أعيش فيها، لأن الرد سيكون: داعشية وتريدين التنظير علينا؟”، قالت عبير، مكررة أكثر من مرة في لقائها مع “سوريا على طول” أن “البعض يحملني خراب البلد”، وتصل الاتهامات في بعض الأحيان حد “اتهامي بأنني ما زلت داعشية!”. 

عانى ابن عبير أيضاً من “العزلة والرفض من أطفال جيله، بذريعة أنه ابن داعشي”، كما قالت أمه، الذي ترى فيه “المستقبل” وتتمنى أن “يعيش حياة مختلفة عن التي عشناها في السنوات الماضية”.

لا تختلف معاناة أم رقية، التي نزحت من ريف حمص إلى الرقة، في عام 2012، عن معاناة عبير وابنها في مواجهة المجتمع، فهي الأخرى وصفت بأنها “داعشية”، رغم أن تتمنى “العيش بسلام، وأن لا أُنسب لأي طرف من الإطراف”، كما قالت السيدة، التي كانت تعمل معلمة في مدارس الرقة قبل دخول داعش، لـ”سوريا على طول”.

في عام 2014، تزوجت أم رقية من معلمٍ “رقاوي”، لكن الأخير فقد عمله في إحدى مدارس المحافظة بعد سيطرة التنظيم. في عام 2015، انضم للتنظيم، وحصل على فرصة عمل في “ديوان الزكاة”، بحسب زوجته.

خلال المعارك الأخيرة ضد التنظيم، نزحت أم رقية رفقة زوجها إلى الشرق، باتجاه ريف دير الزور. في أواخر عام 2018، فُقد زوجها ببلدة الشعفة، بينما اقتيدت هي إلى مخيم الهول، ومكثت فيه لمدة عام قبل أن تخرج بكفالة عشائرية، وتعود إلى مدينة الرقة.

حالياً، تشعر أم رقية بتحسن موقف جيرانها معها بعد أن كسروا العزلة التي فرضوها عليها، ويعود الفضل إلى “مجموعة من الأقارب في المنطقة التي أسكنها”، إذ كان لهم دور في “تصحيح صورتي أمام الجيران”، على حد قولها.

ورغم استيائها من المجتمع المحلي، الذي تعامل معها بصورة نمطية سيئة، ترى أم رقية أن “وسائل الإعلام تتحمل جزءاً من المسؤولية، لأنها تضخم خطورة قاطني مخيم الهول، وتصور أن النساء القاطنات فيه هم نساء منتسبات لتنظيم داعش”، مشددة على أن غالبية نساء الهول “هم ضحايا حرب، ولديهنّ أحلام بحياة كريمة”.

أزمة ثبوتيات

إلى جانب الأزمة الاجتماعية التي عاشها ابن عبير، عانى الطفل من مشكلة فقدان الأوراق الرسمية التي تثبت هويته، بعد أن فقدت العائلة أوراقها في الباغوز بريف دير الزور، آخر مناطق سيطرة تنظيم داعش.

لأشهر بقي ابن عبير محروماً من التعليم لعدم حيازته أوراق رسمية، وكان ذلك يشكل “هاجساً بالنسبة لي، خوفاً على مستقبل طفلي الوحيد الناجي، كونه من دون أوراق”، إلى أن تمكن من الحصول على فرصة تعليم بديلة عبر “مشروع نسمات”، الذي نفذته منظمة حياة أفضل بالتنسيق مع لجان حل النزاع ومنظمة شباب أكسجين، استهدف أطفال الحي المتسربين عن المدارس، بما فيهم ابن عبير وخمسة عشر آخرين تم ترشيح أسمائهم من “شباب أوكسجين”، بحسب مدير المنظمة.

ومع أهمية هذه الخطوة، إلا أنه لا يوجد اعتراف فيه من المؤسسات الرسمية سواء في الإدارة الذاتية أو النظام، وهو أشبه ببرامج “محو الأمية”، بحسب عبير، مشيرة أنها لا تستطيع تسجيل ابنها في مدارس الإدارة الذاتية بسبب مشكلة الأوراق الرسمية التي تعاني منها حتى الآن.

وكذلك، حاولت عبير الحصول على الخبز المدعوم الذي تمنحه الإدارة الذاتية عبر “المندوب” في الحي، لكن معاملتها في البلدية التابعة للإدارة الذاتية لم يتم النظر فيها حتى الآن، بسبب عدم وجود شهادة وفاة لزوجها.

عادة، تمنح الإدارة دفاتر عائلة للمواطنين في مناطق سيطرتها، ويستثنى من ذلك الخارجين من مخيم الهول، الذين يواجهون صعوبات كبيرة في استخراج الأوراق الثبوتية، خاصة أنهم مطالبون من السلطات المحلية بأوراق صادرة عن مؤسسات النظام السوري، كما ذكرت عدة مصادر مدنية لـ”سوريا على طول”.

وفي هذا السياق، اعتبر مسؤول في إحدى منظمات المجتمع المدني العاملة في الرقة، “أزمة الأوراق أزمة حقيقية بالنسبة للنساء العائدات من الهول سواء لدى دوائر النظام أو الإدارة الذاتية”، لافتاً في حديثه لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم ذكر اسمه أو اسم منظمته لأسباب إدارية إلى أن “تكلفة استصدار دفتر العائلة لدى النظام قد تصل إلى 150 دولار أميركي”، ويتم استصداره عبر “واسطات”.

عدم قدرة النساء العائدات على تصويب أوضاعهم القانونية، ينعكس عليهنّ اقتصادياً، لأنهن من دون وثائق “لا يمكنهنّ الحصول على مستحقات الغاز والخبز والمحروقات المخصصة من الإدارة الذاتية”، بحسب المصدر. 

أم عبد الله، واحدة من النساء التي فقدت أوراقها الثبوتية في بلدة الباغوز، وتعاني حتى الآن من “عدم قدرتي على الكثير من الخدمات من دون هذه الأوراق”، على حد قولها.

تخلي مبكر؟

بدأ العمل بموجب الكفالات العشائرية منذ عام 2019، وهي أشبه بطوق نجاة استفاد منها آلاف القاطنين في مخيم الهول، غالبيتهم نساء وأطفال، وكان لنساء الرقة وأطفالها نصيب من هذه الكفالات.

لكن، بمجرد وصول النساء والأطفال الخارجين من المخيم إلى الرقة ينتهي دور القائمين على “الكفالة العشائرية”، لتجد العديد من النساء أنفسهن وحيدات في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والرسمية.

في أواخر عام 2021، تشكلت لجنة في محافظة الرقة، مكونة من عشرة أشخاص ووجهاء عشائر ونشطاء في المجتمع المدني وقانونيين، من خلال مبادرة أشرفت عليها منظمات مدنية في محافظتي الرقة ودير الزور بدعم من منظمة “كريسب”، وهي منظمة ألمانية لها برامج في مناطق الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا، كما أوضح بشار كراف، مدير منظمة شباب أوكسجين لـ”سوريا على طول”.

تعمل اللجان المنبثقة عن هذه المبادرة، بما فيها لجنة الرقة التي تتفرع عنها لجان فرعية، على “كسر الصورة النمطية في المجتمع تجاه النساء العائدات من مخيم الهول وأطفالهن”، بحسب كراف، مشيراً إلى أن “كل لجنة فرعية تشرف على المنطقة التي ينتمي إليها فريقها، وتستفيد من الرأسمال المجتمعي لكل عضو من أجل التواصل مع المجتمع المحلي وحل النزاعات بمختلف أنواعها”.

وصف كراف النساء والأطفال العائدات من الهول بأنهم “الأضعف والأكثر عرضة للاستغلال من المجتمع”، وهو ما يعطي أهمية لدور اللجان في “توجيه الرأي العام وتغيير نظرته لهذه الفئة”.

ورغم أن الاحتياجات الاقتصادية هي الأكثر إلحاحاً بالنسبة للعائلات، إلا أن “اللجان لا تقدم دعماً مالياً”، بحسب كراف، وإنما تحاول “حل المشكلات المتعلقة بالسكن وتحصيل الأوراق الثبوتية، وإعادة استقرار العائلات في مسقط رأسها”، ولأجل ذلك أطلقت لجان الرقة حملة “بين أهلكم“. حتى أيلول/ سبتمبر 2023، نظمت الحملة 3291 جلسة، وتناولت نحو 2000 قضية في محافظتي الرقة ودير الزور، بحسب منظمة “شباب أوكسجين”.

وأيضاً، “تعمل اللجان على حل المشكلات الخدمية التي تواجه العائلات العائدات من الهول، من قبيل: مشكلة الخبز المدعوم والمحروقات، وتسهيل الحصول على الأوراق الثبوتية من دائرة السجل المدني في الإدارة الذاتية، بمساعدة محامين يعملون مع اللجان”، وفق كراف.

مع أهمية الجهود الرامية لإدماج العائدات من الهول في مجتمعاتهن، تسجل المنطقة حوادث متفرقة ضدهن، أو تنمر ورفض بحق أبنائهنّ، كما حصل مع ابن أم عبد الله، دون قدرة الأم على “مراجعة أهاليهن لأن أول كلمة سيقولونها داعشية وتريد أن تشتكي”، على حد قولها.

تعليقاً على ذلك، قال المسؤول في إحدى منظمات المجتمع المدني العاملة في الرقة، أن “التنمر بحق النساء العائدات من الهول موجود في أوساط المجتمع في الرقة، وبنسبٍ عالية”.

وأوضح المسؤول، الذي يعمل على إعداد بحث خاص بأزمة النساء العائدات من الهول، أن رفض العائدات من الهول والتنمر عليهن من المجتمع “نسبي، ويختلف من فئة إلى أخرى”، لافتاً إلى أن هناك “فئة من المجتمع تتعامل معهنّ بردات فعل عنيفة كونهنّ خسروا أفراد من عائلتهم على يد تنظيم داعش سابقاً، بينما هناك فئة من الناس متصالحين مع العائدات باعتبارهن ضحايا مثلهم”.

أحياناً، تشعر أم عبد الله بتخلي المجتمع عنها، بما في ذلك المنظمات، مشيرة إلى أن نهاية الشهر يمثل كابوساً لها، لأنه يتعين عليها تأمين أجرة منزلها في الرقة، البالغة 50 دولاراً شهرياً، وهي عاطلة عن العمل، لذلك تبحث شهرياً عمن يساعدها في تأمين أجرة المنزل.

بدوره، عزا المسؤول في إحدى منظمات المجتمع المدني، تقصير المنظمات المحلية في دعم هذه الفئة إلى تغيّر برامج التمويل، قائلاً: “المنظمات تعمل حسب توجهات الجهات المانحة. بعد طرد داعش، في عام 2017، كان الاهتمام في البرامج التي تعالج التطرف العنيف، ومن ثم تعزيز الاستقرار، وصولاً إلى التعليم، ومن ثم قضايا الجندر والحوكمة، وأخيراً قضايا التغير المناخي”، وأضاف: “إدماج العائدات من الهول في المجتمع مرغوب من الجهات المانحة ولكن ليس أولوية”.

معاناة أم عبد الله مع المجتمع تعيشها عبير حتى الآن، لكن مشكلتها الاقتصادية “حُلت نسبياً” بعد حصولها على فرصة عمل، بمساعدة لجنة حل النزاعات، في إحدى المنظمات المحلية، التي صارت تعتبرها أشبه بـ”بيت أهلي”، على حد قولها.

تم إنتاج هذا التقرير بالتنسيق مع منظمة شباب أوكسجين، ضمن المرحلة الثانية من برنامج مراس لتمكين الصحفيين/ـات في شمال شرق سوريا.

شارك هذا المقال