7 دقائق قراءة

يدفنون مع توابيتهم: نازحو عفرين يتمسكون بالعودة إليها حتى لو موتى

يصر غالبية نازحي عفرين في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب على دفن موتاهم ضمن توابيت خشبية على أمل إعادة رفاتهم إلى مسقط رأسهم حال عودتهم يوماً ما


3 يوليو 2024

حلب- في خطوة أولى لتنفيذ وصيتها، وضعت عائلة أمينة محمد، سيدة كردية مهجرة من عفرين، جثمانها في تابوت خشبي، وغلفته بطبقة من النايلون، قبل دفنها في مقبرة قرية “بنو” القريبة من حي الشيخ مقصود بمدينة حلب، في مطلع نيسان/ أبريل الماضي، من أجل إعادة رفاتها إلى مسقط رأسها حال عودتهم.

“يوماً ما سنخرج تابوتها ونعيد رفاتها إلى عفرين. كان في قلب جميع المتوفين حسرة العودة إليها”، قال شقيق محمد لـ”سوريا على طول”، من مكان إقامته في الحي، الواقع تحت سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية.

بذات الطريقة والمقبرة، وفي ذاك الشهر، دُفن أحمد عزيز بكر، 82 عاماً، الذي كان يقيم في حي الشيخ مقصود منذ نزوحه عن بلدة شيخ الحديد (شيه) بريف عفرين، عام 2018، هرباً من الهجوم العسكري الذي شنته فصائل المعارضة السورية بدعم تركي، ضمن عملية “غصن الزيتون”، وانتهت بخروج وحدات حماية الشعب وسيطرة القوات المهاجمة على المنطقة، في آذار/ مارس من ذاك العام. تزامن ذلك مع موجة نزوح كبيرة من المدنيين الكرد بعد وقوع انتهاكات بحقهم والاعتداء على ممتلكاتهم.  

أوصى بكر عائلته بإعادة رفاته إلى بلدته، ودفنه إلى جانب قبور أجداده، كما قال أبو هوزان (اسم مستعار)، أحد أقاربه لـ”سوريا على طول”. 

دفن الموتى في توابيت خشبية، عادة مستحدثة، لم يستخدمها أهالي عفرين قبل نزوحهم، لكنها وسيلة تسهّل عليهم إعادة رفات موتاهم إن كُتب لهم العودة إلى أرضهم، كما تحدثت عدة مصادر لـ”سوريا على طول”.

نازحون من عفرين يدفنون أحد موتاهم بمقبرة "بنو" في حي الشيخ مقصود بحلب، بعد وضع الجثمان بتابوت خشبي وتغليفه بالنايلون، 03/ 04/ 2024، (سوريا على طول)

نازحون من عفرين يدفنون أحد موتاهم بمقبرة “بنو” في حي الشيخ مقصود بحلب، بعد وضع الجثمان بتابوت خشبي وتغليفه بالنايلون، 03/ 04/ 2024، (سوريا على طول)

يقطن حي الشيخ مقصود والأشرفية بحلب غالبية كردية، أصولهم من عفرين وعين العرب (كوباني) ومنطقة الجزيرة، ورغم تاريخهم الطويل في حلب لم يكن لهم مقابر خاصة قبل عام 2011، إذ كانوا يدفنون موتاهم في مقابر القرى والبلدات التي ينحدرون منها.

بين عامي 2014 و2016، تعرض الحيّان لهجمات من فصائل المعارضة، رافقها نزوح بعض السكان، ولكن بعد سيطرة فصائل المعارضة المدعومة من أنقرة على عفرين، عام 2018، استقبل حيّا الشيخ مقصود والأشرفية النازحين من عفرين ومن مناطق سورية أخرى.

ومع استحالة نقل الجثامين إلى عفرين خوفاً من الانتهاكات على يد فصائل المعارضة، لجأ النازحون في الشيخ مقصود والأشرفية إلى دفن موتاهم بتوابيت خشبية في مقبرة قرية “بنو”، التي أنشئت أثناء هجمات فصائل المعارضة على الشيخ مقصود، في عام 2014، وضمت آنذاك “سبعة قبور لمجهولي الهوية، وهم كذلك حتى الآن، لذلك تم إعطاء كل قبر رقماً”، كما قال محمد أمين، الرئيس المشترك لبلدية الشعب في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية لـ”سوريا على طول”.

تضم المقبرة حالياً جثامين 3600 إلى 4000 متوفى، غالبيتهم من نازحي عفرين، بحسب أمين، مشيراً إلى أن “90 بالمئة من نازحي عفرين في الشيخ مقصود والأشرفية يضعون موتاهم في توابيت خشبية ويغلقونها بإحكام”، قبل دفنهم في المقبرة التي تتواجد في منطقة حقل الرمي في الشيخ مقصود.

تكاليف باهظة

يعاني نازحو عفرين في الشيخ مقصود والأشرفية من سوء الأوضاع المعيشية، حالهم حال النازحين المنتشرين في أرجاء البلاد، البالغ عددهم 6.8 مليون نازح داخلي، بحسب أرقام مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لذلك فإن تكاليف طقوس الدفن المستحدثة “باهظة”.

يبلغ عدد سكان الشيخ مقصود والأشرفية نحو 35 ألف عائلة، بينهم 30 ألف عائلة نازحة غالبيتهم من عفرين، بحسب محمد أمين، الرئيس المشترك لبلدية الشعب، مقدراً متوسط رواتب عمال المنطقة، الذين يعملون في ورشات الخياطة والإنشاء، بنحو 500 ألف ليرة شهرياً (34 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء، البالغ 14,700 ليرة للدولار).

في المقابل، تبلغ تكلفة التابوت الخشبي 700 ألف ليرة سورية (47 دولاراً)، كما ذكرت مصادر عدة لـ”سوريا على طول”، ومع ذلك يصرّ النازحون على استخدامها، حتى لو اضطروا إلى استدانة المال لشرائها، وفقاً لأبو هوزان.

الجميع عازمون على “إعادة رفات ذويهم عندما تتحرر عفرين، حتى أولئك الذين لم يدفنوا في توابيت خشبية”، كما قال أمين، عازياً ذلك إلى “ارتباط نازحي عفرين بقضيتهم وأرضهم وثقافتهم”، وأشار إلى أن “ارتباط أهالي عفرين بالأرض والتاريخ وأشجار الزيتون زاد بعد احتلال عفرين وما رافقه من ممارسات قمعية بحق منطقتهم، لذا يصرون على العودة” حتى لو كانوا أمواتاً.

ورغم وجود آلاف القبور في مقبرة “بنو” إلا أنها مقبرة “مؤقتة” مرتبطة بـ”تحرير عفرين وخروج الاحتلال والمسلحين منها”، بحسب أمين، مشبها يوم العودة إلى عفرين بـ”يوم القيامة”، حينما يتم إخراج الموتى من قبورهم “ونقلهم إلى قراهم ليعاد دفنهم بجانب آبائهم وأمهاتهم”.

أما في منطقة الشهباء بريف حلب الشمالي، وهي التجمع الثاني لنازحي عفرين، تبدو طقوس دفن الموتى مغايرة عما هي عليه في الشيخ مقصود والأشرفية، نظراً لـ”ارتفاع أسعار التوابيت مقابل تردي حالة النازحين، ما يشكل عائقاً أمام استخدامهم التوابيت الخشبية”، كما قال محمد عبد الله، إداري في مؤسسة “عوائل الشهداء” التابعة للإدارة الذاتية.

في بداية النزوح إلى الشهباء، عام 2018، دفن نحو 25 شخصاً، بالحدّ الأعلى، ضمن توابيت خشبية، في مقابر القرى والبلدات التي يتوزع فيها النازحون، ولكن بسبب “عدم توفر إمكانيات صنع أعداد كبيرة من التوابيت، صار النازحون يستخدمون الأكياس للدفن”، بحسب عبد الله، مشيراً إلى أن سعر التابوت الخشبي في الشهباء يصل إلى 375 ألف ليرة (25 دولاراً).

وأوضح عبد الله أن استخدام التوابيت الخشبية في الشهباء “يقتصر حالياً على الشهداء”، في إشارة إلى عناصر “قوات تحرير عفرين”، وهي قوة عسكرية تم تشكيلها بعد عملية “غصن الزيتون” التركية، تنفذ عمليات عسكرية ضد فصائل المعارضة القوات التركية في عفرين بين فترة وأخرى.

وفي هذا السياق، قال طبيب شرعي من عفرين ومقيم فيها، أن الدفن في التوابيت الخشبية أو الأكفان التقليدية “يعطي النتيجة نفسها، وهي بقاء العظام محفوظة فقط”، لكن استخدام التوابيت “أفضل في عملية نقل الجثمان”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية.

“بعد أربعة أشهر من عملية الدفن يتحلل الجسد، بفعل الجراثيم والأنزيمات الموجودة في الجسم، التي تتولى عملية تحلّله، ولا يبقى إلا الشعر والعظام”، بحسب الطبيب. 

في عام 2019، أنشأت الإدارة الذاتية مقبرة خاصة بنازحي عفرين في قرية تل قراح بالشهباء، ويبلغ عدد القبور فيها نحو 800 قبراً، بحسب أرقام شاركها عبد الله مع “سوريا على طول”، وتوجد مقبرة أخرى مخصصة لـ”الشهداء المدنيين”، ممن يقضون نحبهم في عمليات القصف التي تطال الشهباء أو بسبب الألغام، تقع في بلدة فافين.

قبل إنشاء هاتين المقبرتين، كان النازحون يدفنون موتاهم في القرى والبلدات التي يتوزعون فيها في منطقة الشهباء، أما الذين نزحوا إلى قرى شيراوا بريف عفرين، غير الخاضعة للسيطرة التركية، يدفنون موتاهم في مقابر تلك القرى، لا سيما الزيارة وعقيبة، وفقاً لعبد الله.

تنظيم عمليات الدفن

في مخيمات الشهباء، تتكفل الكومينات، التابعة للإدارة الذاتية، بإجراءات الدفن، إذ تقدم “مؤسسة عوائل الشهداء”، الكفن ولوازم الدفن والأكياس، ولا يتكلف ذوو المتوفى بأي تكاليف، باستثناء “تأمين خيمة العزاء في حال كانوا يرغبون في نصبها، وتكاليف نقل الجثمان إلى المقبرة إن وجدت”، كما قالت أفين علو (اسم مستعار)، نازحة من عفرين تقيم في الشهباء.

وتتكفل البلديات التابعة للإدارة الذاتية في الشهباء، بحماية المقبرة وتجهيز القبور وتأمين مستلزمات القبر من حجارة واسمنت، إضافة إلى زراعة الورود والأزهار في المقبرة وفوق القبور، بحسب عدة مصادر تحدثت لـ”سوريا على طول”.

وكذلك في الشيخ مقصود والأشرفية، تتكفل البلدية بإجراءات الدفن، من حفر القبور، وتنظيم المقبرة، وتقديم الكفن لذوي المتوفين، مع كتابة معلومات المتوفّين على شواهد القبور، بما في ذلك ذكر اسم القرى التي ينحدرون منها، بينما تتكفل عائلة المتوفى شراء التابوت الخشبي. 

طيلة السنوات الست الماضية، لم تشهد مقبرة “بنو”، أي عملية نقل رفات إلى عفرين، لأن المانع المتمثل بـ”احتلال عفرين ووجود فصائل المعارضة فيها”، ما زال قائماً، كما قال محمد أمين، الرئيس المشترك لبلدية الشعب في الشيخ مقصود والأشرفية.

تنص القاعدة 114 من قواعد بيانات القانون الدولي الإنساني على أنه: “تسعى أطراف النزاع إلى تسهيل إعادة رفات الموتى بناء على طلب الطرف الذي ينتمون إليه أو بناء على طلب أقرب الناس إلى المتوفى. كما تعاد أمتعتهم الشخصية”.

وفي قرار تم اعتماده في عام 1974، دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة أطراف النزاعات المسلحة، وبغضّ النظر عن طابعها، إلى “اتخاذ كافة التدابير الممكنة … لتسهيل فتح القبور وإعادة رفات الموتى، في حال طلبت عائلاتهم ذلك”.

أمل العودة

يعاني نازحو عفرين من غياب دعم المنظمات الدولية، سواء المعنية بحقوق الإنسان أو بتقديم المساعدات التابعة للأمم المتحدة، بحسب أمين، مشيراً إلى أن “الحصار المفروض على الشيخ مقصود والأشرفية من قبل سلطات النظام السوري يمنع المنظمات من تقديم يد العون لهم بالشكل المطلوب، باستثناء الهلال الأحمر الكردي”.

ومن وقت لآخر، تفرض قوات النظام حصاراً على الشيخ مقصود والأشرفية وتمنع دخول المواد الغذائية والمحروقات، على خلفية التوترات والخلافات مع الإدارة الذاتية. في كانون الثاني/ يناير قالت منظمة العفو الدولية أنه يتعين على قوات الحكومة السورية “رفع الحصار الوحشي على المدنيين في المناطق ذات الغالبية الكردية في منطقة شمال حلب”.

أمام تردي أوضاعهم، لا حلّ لنازحي عفرين إلا بالعودة، ولأجل ذلك لا بد من الإشارة إلى عوامل قد تكون حاسمة في تسريع عودتهم أو تأخيرها، من وجهة نظر السياسي الكردي قازقلي محمد، الذي ينحدر من عفرين ويقيم في ألمانيا، معتبراً أن “توحيد الجهود الكردية، ووضع برنامج عمل مدروس للعمل عليه مع كل القوى الوطنية والدولية وخاصة الدول ذات الشأن في الأزمة السورية”، من أهم العوامل التي من شأنها تسريع العودة.

وإلى أن يتحقق أملهم بالعودة، يتعين على أطراف الصراع السوري والمنظمات الدولية ذات الصلة إيجاد آلية تمكن نازحي عفرين من دفن موتاهم في قراهم وبلداتهم، “التزاماً بوصيّتهم”، ويأتي ذلك “في إطار حقهم الإنساني بموت كريم”.

وناشد محمد كلاً من الولايات المتحدة وروسيا وإيران لـ”الضغط على تركيا، والبحث معها لإيجاد آلية آمنة وكريمة لعودة مهجري عفرين، ودفن جثامين موتاهم في قراهم برعاية المنظمات الدولية الإنسانية”، وأيضاً العمل على “سحب قواتها من الأراضي السورية المحتلة إلى حدودها الدولية، وإيجاد حل سياسي للأزمة المستعصية بشكل عاجل”.

في المقابل، على الإدارة الذاتية والحركة الكردية عموماً “مراجعة ذاتها، ووضع خلافاتها جانباً، والقيام بمسؤولياتها وواجباتها على أكمل وجه، تجاه المناطق المحتلة، وخاصة عفرين، من أجل عودة أهاليها”، كما قال محمد.

إعادة رفات وفيات عفرين إليها يشكل هاجساً عند أبنائها، لدرجة أنه “حصلت حالات وفاة لنازحين من عفرين في دمشق، وتم جلب جثامينهم لدفنها في مقبرة بنو، رغبة من ذوي الموتى أن تكون قبورهم قريبة من عفرين”، التي تبعد نحو 60 كيلومتراً عن المقبرة، بحسب محمد أمين.

وبعد مرور أكثر من ست سنوات على النزوح من عفرين، صار الدفن  في توابيت خشبية “ثقافة عفرينية مرتبطة بالإصرار على العودة إلى أرضهم ودفنهم فيها”، بحسب أمين، لافتاً إلى أنها “حالة لم تحصل سابقاً على الأرض السورية في أي مكان”.

للنازح فرهاد سيدو، 42 عاماً، المقيم حالياً في الشيخ مقصود، أقرباء دفنوا بتوابيت خشبية في مقبرة “بنو”. قال وهو يشير بيده إلى المقبرة، التي توسعت على مدار السنوات الست الماضية: “هذا المزار أصبح كبيراً. قبل الوفاة، يوصينا كبار السن بإعادتهم إلى عفرين ويصرون على ذلك”.

شارك هذا المقال