المساءلة في الخارج: خرائط القضايا المتعلقة بسوريا في المحاكم الأجنبية
من محاكمة كوبلنز التاريخية في ألمانيا إلى لائحة الاتهام الأخيرة في فرنسا، الموجهة ضد ثلاثة مسؤولين رفيعي المستوى في النظام السوري، تدور رحى معركة قانونية في محاكم أجنبية لمساءلة الجناة على الأعمال الوحشية والفظائع التي ارتكبوها خلال الحرب في سوريا. فما هي أنواع الدعاوى المرفوعة، وأين؟
26 أبريل 2023
أثينا- أعادت لائحة الاتهام الأخيرة، التي وجهتها محكمة فرنسية بحق ثلاثة مسؤولين سوريين رفيعي المستوى بتهم التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب متمثلة في مقتل مواطِنَين فرنسيين سوريين، طرح التساؤل حول سبل المساءلة الموجودة عن الفظائع المرتكبة في سوريا منذ عام 2011.
اعتُقِل مازن الدباغ وابنه باتريك عبد القادر، ذو العشرين عاماً، في عام 2013، على يد فرع المخابرات الجوية السورية في مطار المزة العسكري بدمشق، وهو من أشد فروع التحقيق وحشية. اختفوا دون أي أثر. بعد خمس سنوات، تلقت عائلة الدباغ شهادتي وفاة تنبئهم بموت باتريك في عام 2014، ومازن في عام 2017. كانا من بين المقتولين تحت التعذيب المقدَّر عددهم 14,464 شخصاً منذ عام 2011.
ظلت عائلة الدباغ تسعى لسنوات من أجل إحقاق العدالة والمساءلة عن اختفاء وقتل الأب وابنه. وأخيرا، في 29 آذار/ مارس، أصدرت وحدة جرائم الحرب التابعة لمحكمة باريس القضائية لائحة اتهام بحق علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني السوري، وجميل الحسن، رئيس إدارة المخابرات الجوية، وعبد السلام محمود، رئيس قسم التحقيق في فرع المزة، حيث احتجز مازن وباتريك.
“القرار بمحاكمة مسؤولين في النظام بهذا المستوى الرفيع، هو قرارٌ غير مسبوق في فرنسا”، بحسب ما أوضح طارق حوكان، مدير مشروع التقاضي الاستراتيجي في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير (SCM)، أحد أطراف الدعوى القضائية التي رفعتها الأسرة، وتم تقديمها لأول مرة في عام 2016.
ومن المقرر محاكمة المسؤولين السوريين الثلاثة غيابياً، بحسب حوكان، متوقعاً أن “تبدأ المحاكمة في غضون أشهر، وبما أن المُتهمين لن يتواجدوا في المحكمة، فلن تستغرق المحاكمة أكثر من أسبوع”. يخضع جميع المتهمين في هذه القضية لعقوباتٍ أوروبية وحظر سفر، وكانت المحكمة الفرنسية قد أصدرت بحقهم مذكرات توقيف منذ عام 2018.
رغم أن المتهمين الثلاثة لن يَمثُلوا أمام القضاء الفرنسي، إلا أنَّ صدور الحُكم سيدفع بعجلة محاربة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة في سوريا إلى الأمام، كما أوضح حوكان، معتبراً أن “هذه المحاكمة تبعث برسالة قوية إلى مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا”.
وتجري الوحدة الفرنسية المتخصصة في محاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب عشر تحقيقات متعلقة بسوريا، بما في ذلك قضية الدباغ، بحسب المركز السوري للإعلام وحرية التعبير.
في السنوات الأخيرة، ازداد توجه الناجين السوريين وأفراد عائلات المفقودين أو المقتولين إلى نقل معركتهم لإحقاق المساءلة إلى المحاكم الوطنية في البلدان الأجنبية، وخاصة في أوروبا. يُشار إلى أن سوريا ليست طرفا في نظام روما الأساسي، المعاهدة التأسيسية للمحكمة الجنائية الدولية، وقد حالت روسيا والصين دون إحالة مجلس الأمن للملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، عبر استخدام حق النقض (الفيتو).
وغالبا ما تُرفع القضايا إلى المحاكم باستخدام المبدأ القانوني المتمثل في “الولاية القضائية العالمية” أو أن الضحايا أنفسهم من مواطني البلد الذي رُفِعت فيه القضية، كما في قضية دباغ.
تتعقب الخريطة أدناه مجموعة مختارة لأكثر من 40 قضية رُفِعت في محاكم أجنبية خلال السنوات الأخيرة، تتعلق بجرائم ارتُكبت منذ عام 2011 من قِبل: نظام الأسد وتنظيم “داعش” وعدد من الفصائل الإسلامية وجماعات المعارضة المسلحة في سوريا.
حتى الآن، باشر المدعون العامون الألمان التحقيق في 50 قضية ذات صلة بسوريا، وقدّم المدعون السويديون نفس العدد [من الدعاوى إلى المحكمة ذات الاختصاص]، بينما رفعت فرنسا عشر قضايا. كذلك فتحت الدول الثلاث تحقيقات هيكلية في الجرائم المرتكبة في سوريا، وتُباشر التحقيقات الهيكلية عندما يوجد دليل على وقوع جريمة دون معرفة الجناة كأفراد، فيتم التركيز على هياكل أو مجموعات الجناة المحتملة.
ارتكزت عدد من القضايا البارزة في المحاكم على “الولاية القضائية العالمية”، وهو مبدأ قانوني يتسنى للدول بموجبه التحقيق في الجرائم الدولية الجسيمة المرتكبة خارج أراضيها، بصرف النظر عمَّا إذا كانت الضحية أو المُشتبه بجنايته من المواطنين أم لا.
لكن لكل دولةٍ تأويلها الخاص لهذا المبدأ. فرنسا، مثلاً، تتخذ نهجا أكثر صرامة وتشدداً في تفسيرها للولاية القضائية العالمية، وتطلب شروطاً كثيرة لرفع قضية إلى المحكمة، في حين أن دولاً مثل ألمانيا تؤوِّل المبدأ بطريقة أكثر عموميةً.
في فرنسا، تعتمد مقاضاة الجرائم الدولية المرتكبة في سوريا في المحاكم الفرنسية على عوامل عدة، وفقاً لدليلٍ نشره المركز السوري للعدالة والمساءلة. إذا كانت الضحية، كما في قضية الدباغ، من مواطني فرنسا، لدى المحكمة السلطة القضائية للنظر في القضية، وإذا لم تكن الضحية فرنسية قد تكون هناك سلطة قضائية في حالات التعذيب أو الاختفاء القسري إذا كان المشتبه بجنايته في فرنسا.
إذا لم يكن المشتبه به في فرنسا، ولكنه فرنسي أو لديه إقامة فرنسية، يمكن أن يكون للمحكمة أيضاً سلطة قضائية لمحاكمة هذا الفرد بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية. غير أنّه، إذا لم يكن المشتبه به فرنسياً ولا يعيش في البلد، فلا يمكن للمحكمة فتح تحقيق بالقضية المقدّمة.
إن مبدأ التجريم المزدوج الذي تعتمده فرنسا، الذي يعني أنه لا يمكن للبلد محاكمة مشتبه به بتهمٍ لا يُعاقب عليها في بلده الأصلي، يشكل عقبة رئيسية أمام جهود المساءلة في ذلك البلد، من وجهة نظر حوكان. لا تشترط فرنسا تجريماً مزدوجاً حيال جرائم الحرب أو التعذيب، ولكنها تشترط ذلك في الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وهذا الشرط “في رأيي، يجعل فرنسا حصناً آمناً للعديد من المجرمين”، كما قال.
بموجب هذا المبدأ، قضت محكمة النقض في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 بأنه لا يمكن للمدعين العامين الفرنسيين محاكمة عبد الحميد س.، عنصر سابق في جهاز أمن الدولة السوري متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بذريعة أن القانون السوري لا يعاقب على هذه الجرائم. والحكم حاليا قيد المراجعة.
بعد شهرين من هذه الانتكاسة في فرنسا، حكمت محكمة ألمانية، استناداً إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، على أنور رسلان، الرئيس السابق لقسم التحقيقات في فرع الخطيب سيء الصيت في سوريا، بالسجن مدى الحياة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في كانون الثاني/ يناير 2022.
حتى الآن، أنور هو المسؤول الأرفع مستوى المدان لدوره في ممارسات التعذيب التي تقرها الدولة في سوريا. ولكن مع محاكمة الدباغ المقبلة في فرنسا، من المتوقع أن تغدو قائمة كبار شخصيات النظام المدانين بارتكاب جرائم كبرى في المحاكم الأجنبية أكبر.
تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية سلام الأمين.