6 دقائق قراءة

أهالي ريف حماة الشمالي بدلا من هجرة أراضيهم يهاجرون إليها ويدفعون ليسكنوا جوفها

بنهاية درج ترابي ضيق، على عمق ستة أمتار، يجتمع إبراهيم […]


23 أغسطس 2016

بنهاية درج ترابي ضيق، على عمق ستة أمتار، يجتمع إبراهيم الجودي وعائلته حول مائدة العشاء في ملجأ تحت الأرض، تجنبا للقصف.

وفي هذا التجويف المعتم، ينبعث بصيص خافت من الضوء بواسطة بطارية قديمة لدراجة نارية صغيرة، وتَحُول طبقات التراب والحجر دون دخول الضوء الطبيعي داخله.  

وفيه ثلاث فتحات تهوية بالكاد يبلغ قطرها بضع إنشات. ومع ذلك فالهواء ما يزال ثقيلاً وعفناً. وخلال شهور الصيف، تكون الرطوبة خانقة. وطفلة إبراهيم، ذات الخمس سنوات تعاني الآن من التهاب حاد في الشعب الهوائية.

وحفر إبراهيم الملجأ من الحجرلزوجه وأطفاله الأربعة، مساحته الكلية 18مترا مربعا، في ريف حماة الشمالي، منذ عدة شهور خلت، والذي طلب ألا يُذكر موقعه بدقة، فالطائرات الحربية تحلق فوق رأسه مهددة بالقصف في أية لحظة.

وبعيداً عن السريالية التي تجسد حاله، فالملجأ يبدو كما لو أنه منزلاً حقيقاً، ففيه مافي الهيكل التقليدي للمنزل، غرفة معيشة حيث تأكل العائلة وتنام، ومطبخ مجهز بتواضع وحتى حمام مزود بنظام صرف صحي.

وخلال النهار يعمل إبراهيم كمسعف أولي مع فريق الدفاع المدني في حماة، لمواجهة عواقب ما تحمله الغارات الجوية الروسية وغارات النظام، فيما تطوعت زوجه، والتي كانت مدرسة قبل الحرب، بجمع أطفال القرية في غرفة الملجأ لتعليمهم القراءة والكتابة، أملهم الوحيد في تجنب ظلمة الأمية.

المدخل لملجأ إبراهيم الجودي. حقوق نشر الصورة. حقوق نشر الصورة لـ إبراهيم الجودي

وبرغم القصف الجوي المستمر، يرفض آلاف من أهالي ريف حماة الشمالي مغادرة أراضيهم وبدلاً من هجرتها يهاجرون إليها، ويحتمون في جوفها لتحتضنهم ويحولون تجاويفها إلى منازل مجهزة تجهيزاً كاملاً ويركنون إليها.

ومنذ عام 2014، وريف حماة الشمالي يقصف بعنف. وفي خريف 2015 شاركت الطائرات الروسية في القصف الجوي شبه اليومي للريف الواقع تحت سيطرة الثوار.  

وتشكل هضاب ريف حماة الشمالي جبهة تفصل أراضي إدلب الخاضعة لسيطرة الثوار عن الأراضي في قلب حماة الواقعة تحت سيطرة النظام.

ومنذ  عام 2014، والاشتباكات المحتدمة على هذه المنطقة الفاصلة، تتسبب في تشريد الكثير من الناس من أراضيها؛ “فبلدات (ريف حماة الشمالي) كفر زيتا واللطامنة وكفرنبودة ومورك والتي كانت يوماً تكتظ بسكانها، أصبحت الآن شبه خاوية”، وفق ما ذكر الصوت السوري، الموقع الشريك لسورية على طول، الشهر الماضي.

وفي بلدة كفر زيتا وحدها، ألقى نظام الأسد، وفق ما تواردت الأنباء، أكثر من 1800 برميل متفجر وشن 600 غارة جوية منذ عام 2012، “مستهدفاً منشآت حيوية كالمدارس والمستشفياتوالمخابز”، وفق ما ذكر الصوت السوري.

ونزح عشرات الآلاف من ريف حماة الشمالي، بحثاً عن ملجأ في محافظتي حلب وإدلب المجاورتين أو أنهم اتجهوا إلى الحدود التركية. وكان إبراهيم من أوائل من نزحوا.

بناء الملاجئ تحت الأرض في ريف حماة. حقوق نشر الصورة للصوت السوري.

على أية حال، في شهر حزيران لهذه السنة، بدأ الطيران السوري والروسي حملة جوية مكثفة ضد ثوار جيش الفتح عبر محافظة إدلب، وفي أثناء ذلك دمر المدارس والمساجد ومراكز الدفاع المدني  والمستشفياتوشتتوا بذلك مئات الآلاف من الأهالي مجدداً.   

ومنذ عام 2014 إلى عام 2016 وإبراهيم وعائلته يعيدون روتيناً مألوفاً من الإضطراب والتأرجح ما بين تغيير سكنهم وتشردهم من جديد لأكثر من خمس مرات. وقبل عودتهم إلى موطنهم في ريف حماة الشمالي في بداية عام 2016، بحثت العائلة عن الأمان في أقصى الشمال حتى وصلت حلب، وفي أقصى الغرب حتى بلغت الحدود التركية التي أغلقت أبوابها أمام طالبي اللجوء.

وبالنسبة لأولئك الذين ارتأوا كإبراهيم أن الحل هو العودة لموطنهم، اقتنعوا أن الموت في أراضيهم أفضل من أن يمضوا حياتهم مطاردين. وطالما أن العيش فوق الأرض ما عاد خياراً ممكناً. لجأت المئات من عائلات ريف حماة الشمالي إلى توظيف فريق من البنائين المحترفين لبناء ملاجئ لهم تحت الأرض في ظلال منازلهم السابقة، وبات الطلب عليها الآن أكثر من أي وقت مضى.

وقال محمد الأحمد، صاحب أحد الورشات المتخصصة ببناء الملاجئ تحت الأرض، لسوريا على طول، “منذ سنتين حتى الآن ومع ازدياد القصف ازداد الطلب على بناء ملاجئ تحت الأرض (في ريف حماة) تدريجياً للاحتماء من القصف، وشهد الشهران الماضيان (منذ بدء القصف المكثف في بداية حزيران) ازدياداً ملحوظاً وكبيراً في الطلب، ويعود السبب إلى عودة الكثير من الأهالي إلى الريف، ممن نزحوا في أوقات سابقة إلى إدلب وريفها”.

وأضاف الأحمد “قمت ببناء 70 ملجأً تقريباً خلال فترة مدتها سنتين وحتى الآن، لكن خلال هذا الشهر فقط أنهيت بناء 13 ملجأ وكان أكثر الأشهر طلبا على البناء تحت الأرض”.

وتستخدم ورشات البناء المعدات والآليات الثقيلة لحفر الملاجئ في سفوح الوديان التي تميز تضاريس ريف حماة الشمالي.

إلى ذلك، قال فياض الصطوف، ناشط إعلامي من بلدة اللطامنة، إحدى بلدات ريف حماة الشمالي، وأول ما استهدفه الطيران الروسي حين تدخل في أيلول الماضي، لسوريا على طول، “تتميز اللطامنة عن غيرها من القرى والبلدات في المنطقة بوجود كمٍ كبير من المغر والكهوف،وتتميز مغر وكهوف اللطامنة بقوتها ومقاومتها للمخاطر فهي محفورة في الصخر وعلى شكل سراديب وسماكة الصخر فوقها تتجاوز أحيانا عشرات الأمتار”.

وأضاف انه ومع ازدياد استخدام المغر والكهوف بدأ حفر مغر جديدة بحيث تكفي الأهالي.

وفي بداية الأمر، استخدمت العائلات هذه الأقبية كملاجئ مؤقتة خلال جولات القصف. ومن ثم ومع تسارع وتيرة القصف، اتجه أهالي ريف حماة إلى استخدام هذه الملاجئ كمنازل لهم بشكل دائم.

وأشار محمود، عامل بناء آخر من ريف حماة، والذي قام وعمال ورشة البناء التي يعمل معها ببناء نحو 150 ملجأً تحت الأرض، إلى أنه “بسبب استمرار القصف على مدار العام والخوف من قصفٍ مباغت قد يحصل في أي لحظة، وخاصة من الطيران الروسي، تحولت هذه المغر إلى سكن دائم بعد ان كانت ملجأ لعدة ساعات أو ريثما ينتهي القصف”.

وحفرت الكهوف الكبيرة كمقرات للثوار والمخابز “حتى أن المشفى الأكبر في المنطقة حالياً تم حفره في الصخر على سفح أحد الوديان في البلدة”، كما بين محمود.

وذكر محمود أن هذه المغر “باتت مقسمة إلى غرف ومطبخ وصالون مثلها مثل منازلهم السابقة المدمرة وتصلها كهرباء (المولدات)”.

ولفت فياض صطوف إلى أنه ومع وجود كل هذه التجهيزات، تحت الأرض، “فلن تضطر العائلات لمغادرة الملجأ بحثاً عن الراحة”.

 

“لتحظى بحفرة كهذه”

حين عاد إبراهيم الجودي في النهاية إلى بلدته في الريف الحموي، وجد أن منزله “لم يبق منه سوى الرماد، حتى الشجر الذي كان محيطا به كان محروقا”.

وقرر الجودي البناء، فوظف ورشةً في البناء ولكنالبناء إلى الأسفل بدلاً من البناء إلى الأعلى.

“بعت دراجة نارية كنت أمتلكها ووصياغة زوجتي واستدنت مبلغ 800 ألف ليرة”، ولماذا؟ قال إبراهيم لسوريا على طول، “لأبني ملجأً تحت الأرض”.

وأضاف “لم يكن تأمين المبلغ سهلا بالنسبة لي ولكنه لا يساوي شيء مقابل سلامة أطفالي”.

وفي الحقيقة بناء ملجأ تحت الأرض ليس برخيص، ويقدر محمد الأحمد، صاحب أحد الورشات المتخصصة ببناء الملاجئ تحت الأرض تكلفة معينة تتراوح بين 900 ألف إلى مليون ليرة.

ولا ينكر محمد الأحمد أن “بناء الملجأ تحت الأرض مكلف أكثر من بناء منزل فوقها”. ولكنه أضاف رغم ذلك “حتى من بقيت بيوتهم على حالها عادوا ليبنوا ملاجئ تحت الأرض كونها أكثر أمانا”.

وتختلف الأسعار بشكل أساسي حسب مواد البناء التي تدعم جدران الملجأ، ففي التكلفة العالية تبني ورش البناء جدران الملجأ من الإسمنت الممزوج بالحديد وهو مكلف لكنه أكثر أمنا وصلابة ومكافحة للرطوبة.

وفي التكلفة  المنخفضة تلجأ ورش الأبنية إلى بناء جدران الملجأ منإسمنت وحجر دون حديد وهذا النوع أقل كلفة طبعاً وغالبية الأهالي يطلبونه لعدم توفر سيولة تسمح بشراء النوع الأول، وفق ما بين الأحمد.

وبعض العائلات لا تستطيع احتمال تكلفة أيٍ من الخيارين، وخيارهم الوحيد هو أن يعثروا على كهف يأويهم أثناء الغارة الجوية.

وقال ابراهيم “هناك عائلات فقيرة لاتملك قوت يومها ولا تستطيع بناء ملاجئ من الاسمنت المسلح أو الحديد فلجأت إلى حفر الأرض حتى تصل إلى الصخر ومن ثم يتوقفون عن الحفر ويقطنون.

وتابع  “شهدنا حالات لانهيار ملاجئ بعد حفرها بهذه الطريقة وكانت العائلة داخلها حيث نزلت قذيفة بجانب الملجأ أدت إلى انهياره ووفاة أم وأطفالها الثلاثة بداخله بعد انهياره عليهم”.

وحتى لذوي الدخل المعتدل، فإن هذه الملاجئ التي لا تدخلها الشمس يمكن أن  تكون مليئة بالحشرات وتطرح مشاكل صحية حقيقية.

وصحيح أن الملاجئ التي تم بناءها مؤخراً غالباً ما ترفق بأربعة فتحات للتهوية، فإن الملاجئ الأولى التي بنيت في ريف حماة الشمالي كانت لا تحتوي سوى على فتحة واحدة.

وقال الجودي “نعاني من الرطوبة بشكل كبير التي سببت لنا ضيقا في التنفس، فخلال الأسبوع الأول من استقرارنا في الملجأ أصيبت عائلتي بأكملها بالتهاب في القصبات وإلى الآن مازلنا نعاني منها وطفلتي الصغيرة أصيبت بالتهاب صدري حاد”.

وختم الجودي “فما ذنب هؤلاء الأطفال فيما يحدث، هم ليسوا إرهابيين وليس لهم علاقة فيما يحاك حولهم”.

 

ترجمة: فاطمة عاشور

 

شارك هذا المقال