6 دقائق قراءة

اختفاء غير كامل وعدالة مستحيلة: “ما زلت أتحدث عنه بصيغة المضارع”

كإنسانة لا أظن أن هناك شيء في العالم سيحقق لي العدالة، العدالة التي لا أرى أي معنى لها سوى في أن أكون برفقة باسل كما حلمنا، أن أكون في بلدي وفي أحضان عائلتي، أن أصحو ذات يوم وأكتشف أن ما كان لم يكن. لكن في الحقيقة ما ذهب لن يعود.


30 أغسطس 2022

انتبهت فجأة إلى أن أكثر مصطلح أستخدمه في حياتي نطقاً وكتابة في محادثاتي واتصالاتي هو “الاختفاء القسري”، والحقيقة أنني لا أتذكر متى دخل هذا المصطلح إلى حياتي اليومية، لكن بدأت في استخدامه في سن مبكرة، ربما بدأت بلفظها قبل أن أفهم معناها!.

حاولت إحصاء عدد المرات التي استخدم “الاختفاء القسري” في يوم عملٍ عادي، باللغتين العربية والإنجليزية، سواء في الاجتماعات أو خلال إدارة جلسة أو تدريب أو حلقة نقاش، أو أثناء إجراء مقابلة مع وسائل الإعلام، أو النقاشات الداخلية مع فريق عملي، وكان ذلك على ثلاثة أيام متتالية.

في اليوم الأول استخدمت المصطلح 63 مرة، وفي اليوم الثاني 71 مرة، أما في اليوم الثالث، بعد أن حاولت تقليل استخدامه قدر الإمكان، كانت النتيجة 47 مرة!، ناهيك عن عدد المرات التي يذكر دماغي في اللاوعي “الاختفاء القسري”. دفعتني هذه الأرقام إلى التساؤل: هل من الطبيعي أن يبذل عقلٌ نصف طاقته اليومية في هذه الدوامة مع كل ما يحمله المصطلح من دلالات وما يلمّح له من آثار؟

يطلق السوريون على شهر آب/ أغسطس “آب اللهاب”، في إشارة إلى ارتفاع درجات الحرارة فيه، أما بالنسبة لي فهو “لهّاب” لأنني كسورية تكتوي بلهيبه منذ أول يوم فيه، وهو اليوم الذي أعلنت فيه نبأ إعدام زوجي الناشط باسل خرطبيل بعد اختفائه القسري لعدة سنوات، مروراً بذكرى وفاة رجل أحببته في صباي، لكنه توفي بين ذراعي بعد معاناة مع سرطان أصاب رئتيه، إلى ذكرى زواج والدي، الزواج الذي استمر رغم الاعتقالات والملاحقات والاختفاءات القسرية المتعددة، إلى ذكرى مجزرة الكيماوي في الغوطة التي ما زالت تخنقي وتخنق الملايين منذ سنوات، وختاماً اليوم العالمي لمساندة ضحايا الاختفاء القسري، الموافق لـ30 آب، الذي يعيد كل الذكريات السابقة إلى الواجهة.

مؤخراً، صرت أفكر في معنى كلمة “اختفاء” من الجانب الفلسفي والنفسي والعاطفي، بعد أن اعتدت على التفكير بها وشرحها وتحليلها من الناحيتين القانونية والحقوقية لسنوات، لدرجة بدأت تشعرني هذه الكلمة بالتناقض والازدواجية، وربما الفصام.

يقصد بالاختفاء القسري قانونياً: “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون”، كما جاء في المادة الثانية للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر 2010.

والاختفاء أو الإخفاء في اللغة العربية، يعود أصلها إلى فعل “أخفى”، من قبيل: أخفى الشيء، ستره وكتمه وواراه، واختفى تعني توارى بحيث لا يراه أحد. أما قسري باللغة العربية تعني “ظلماً، عنوة، بالإكراه”.

ما سبق من تعريفات تبدو منطقية، وتصف بدقة ما يرتكب بحق المختفين قسراً في سوريا، لكن ما أعيشه أنا لا يشبه ما شرحته في الفقرة أعلاه، رغم اتفاقي مع ما جاء في كلّ كلمة، لأنني ربما أعيشه خفية وأحاول عدم البوح، لأنني لا أشعر أن زوجي مختفٍ بالمعنى النفسي والعاطفي وحتى على صعيد التفاصيل اليومية، فما زلت أتحدث عنه بصيغة “الفعل المضارع”، وأوضح ذلك أثناء حديثي بلغات غير العربية، وهي لغتي الأم، بأن استخدامي صيغة “الحاضر” في اللغات الأخرى متعمداً وليس خطأ قواعدياً، لأن هذا ما أشعر به.

كيف يمكن أن يكون باسل مختفياً وهو يعيش معي في أحلامي وكوابيسي اليومية؟، كيف يمكن أن يختفي وما زلت أشعر بأنني أتواصل معه، نتناقش، نتعاتب، نتشاجر، نختلف، نتفق، وأسمع رأيه ونصائحه في كل أموري؟، كيف يختفي وأنا ما زلت أسمع صوته، وأشم رائحته؟، كيف يختفي زوجي وأنا أشعر في وجداني ولا وعيي أني بانتظار عودته؟

اللايقين القاتل، هو ليس خصمي وحدي، وإنما هو خصم آلاف النساء والعائلات في سوريا، وحتى في العالم، لا معلومات عن المكان أو المصير، ومما يتم إيصاله من معلومات ومن شهادات وفاة لا تقنعنا بأنها أدلة مطلقة على الوفاة (القتل) طالما لا نملك جثثاً.

تناضل الشعوب من عشرات السنين لكشف الحقيقة واستلام الجثامين وتحقيق العدالة. أنا أيضاً سأقف في باريس هذه المرة، لأتحدّث عن حقي وحق كل العائلات السورية في الحقيقة والعدالة، وأطالب مجدداً بجثمان باسل، ثم أعود إلى بيتي الصغير الجديد الغريب في العاصمة الفرنسية، لأخبر باسل بتفاصيل مشاركتي في مظاهرة ساحة الجمهورية (République).

سبع سنوات وأنا أعيش بهذه الطريقة، وغير تعيش أربع سنوات، وثالثةٌ من عشرة سنوات، ولا نعرف إلى متى ننتظر. رغم قيامنا بكل ما يجب فعله من مراسم الموت، كإقامة العزاء، والتوشّح بالسواد، وذكر كلمة أرملة لوصف الحالة العائلية في كل مستند نملأه، كل ذلك كفيلٌ بأن نصدق موت أحبتنا، ولكن حتى نعمة التصديق لا نتمتع بها كما يجب.

لا أنسى كم عانيت مع السوريين لإقناعهم باستخدام مصطلح الاختفاء أو الإخفاء القسري بدلاً من كلمة اعتقال التي اعتدنا استخدامها لوصف حالة الاختفاء، ربما أمضيت سنوات لأعرّفهم بأن جريمة الإخفاء القسري هي أسوأ من الاعتقال التعسفي، إلى أن صار هذا المصطلح جزءاً من الحياة السورية اليومية. 

يصنّف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المعتمد في عام 1998 جريمة الإخفاء القسري على أنها من “الجرائم ضد الإنسانية”، كما جاء في المادة السابعة، الفقرة (ط).

ومن البديهي في إطار الحديث عن جريمة الإخفاء القسري، أن نربط هذه الجريمة بانتهاكات أخرى لحقوق المخفيين قسرياً، وعلى رأس هذه الانتهاكات التعذيب والحرمان من المحاكمة العادلة، وهذا أسوأ ما يعاني منه المختفون، وأكثر ما يقلق ذويهم والمدافعين عن حقوق الإنسان.

وهذا يقودنا إلى جرائم أخرى، فبحسب المادة الثامنة من نظام روما، يُصنّف التعذيب أو المعاملة اللا إنسانية، وتعمّد حرمان أي أسير حرب أو أي شخص آخر مشمول بالحماية من حقه في أن يحاكم محاكمة عادلة ونظامية، والإبعاد أو النقل غير المشروعين أو الحبس غير المشروع على أنها “جرائم حرب”.

وصنّف البند الرابع من المادة نفسها “إصدار أحكام وتنفيذ إعدامات دون وجود حكم سابق صادر عن محكمة مشكلة تشكيلاً نظامياً تكفل جميع الضمانات القضائية المعترف عموماً بأنه لا غنى عنها”، بأنه جريمة حرب.

لا يمكن فصل “الاختفاء القسري” عن هذه الجرائم، خاصة أنها أهم وأبرز الجرائم المرتبطة فيه، كما لا يمكن حصر الجرائم التي يمكن أن ترتبط بـ”الاختفاء القسري” في هذا المقال.

بما أن حديثنا عن القانون الجنائي الدولي، الذي يؤسس له نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فلا يسعنا إلى أن نذكر ولو بإيجاز موضوع المحاسبة والإفلات من العقاب، خاصة مع ازدياد عدد الدعاوى والادعاءات والأحكام في عدد من الدول الأوروبية مؤخراً بجهود عشرات الناشطين والناجين والضحايا السوريين وغير السوريين في هذه الدول.

لا شك أنني كمحامية أثمن بشدة كل الجهود في سبيل تحقيق ولو جزء بسيط من العدالة، التي يستحقها السوريون، ولكن أيضاً بصفتي المهنية، وكوني ناشطة لاعنفية، أجد أنه من المحبط والمؤذي أحياناً، وقد يكون غريباً أيضاً تداول مصطلح “العقاب” في زماننا هذا، خاصة أن معظم دول العالم تنظر إلى أن للقانون الجنائي هدف إصلاحي وليس عقابي، حتى لو كان هذا شكلياً فقط (أقصد كنص قانون وليس كتطبيق للنص القانوني على الواقع).

خلال دراستي القانون في سوريا، وتحديداً مادتي قانون العقوبات وعلم الإجرام والعقاب، ومن ثم خلال دراستي للماجستير في لبنان عن النضال اللاعنفي، وتحديداً ما يتعلق بتفسيرات السلوك العنيف ودوافعه، وجدت أن هناك مدرستين أو نظريتين أساسيتين لتفسير الإجرام أو العنف، الأولى تقول أن السلوك الإجرامي فطري (المورثات والجينات هي المسؤولة)، والثانية تقول أن السلوك الإجرامي مكتسب بسبب عوامل نفسية واجتماعية وبيولوجية، وبين النظريتين هناك الكثير أيضاً.

هذا موضوع جدلي عميق ومعقد، ولن أتحدث هنا عن رأيي في أسباب ودوافع السلوك الإجرامي، بل أريد فقط أن أقول بأنه مهما كانت أسباب ودوافع وأهداف السلوك الإجرامي، ما زالت كلمة عقاب تبدو غير لائقة بالنسبة لي، فاستخدام مصطلح “الإفلات من العقاب” باللغة العربية لوصف حالة التهرب من المحاسبة والمسؤولية الجنائية يحتاج إلى إعادة نظر في حال كنا فعلاً نريد تحقيق العدالة للضحايا وليس الانتقام من المجرمين.

العدالة في الحالة السورية تتحقق في الانتقال السياسي، ووجود ضمانات لعدم تكرار هذه الجرائم، مع اعتراف المجرمين بما اقترفت أيديهم. هذه الضمانات لن تكون من دون محاسبة المجرمين، ليس بحسب قانون العقوبات السوري، وإنما وفق القانون الدولي، وتحديداً قانون الجنايات الدولي، والقانون الدولي الإنساني. 

ما عبّرت عنه بالفقرة السابقة كان من وجهة نظري كمحامية، ولكن الأمر مختلف جداً بالنسبة لي عندما اتجرد من صفتي المهنية وأتحدث عن نفسي كإنسانة فقط.

كإنسانة لا أظن أن هناك شيء في العالم سيحقق لي العدالة، العدالة التي لا أرى أي معنى لها سوى في أن أكون برفقة باسل كما حلمنا، أن أكون في بلدي وفي أحضان عائلتي، أن أصحو ذات يوم وأكتشف أن ما كان لم يكن. لكن في الحقيقة ما ذهب لن يعود.

شارك هذا المقال