9 دقائق قراءة

الحياة بين الأنقاض: أهالي حلب يبيعون منازلهم بعد وعود إعادة الإعمار والأمن التي لم تتحقق

  حي السكرى من الجو، أواخر عام ٢٠١٦. كان حي […]


  حي السكرى من الجو، أواخر عام ٢٠١٦.

كان حي السكري، شرقي حلب، واحداً من أكثر الأحياء تضرراً، ومن بين آخر الأحياء التي سقطت خلال حصار الحكومة السورية الخانق والقصف المكثف الذي طال المدينة في كانون الأول٢٠١٦.

وأدى التوسع العمراني العشوائي الذي انتشر في جميع أنحاء المدن السورية قبل ثورة عام ٢٠١١ والصراع الذي تبعه، إلى تقلص مساحة بساتين الفستق، حيث لم يتبق سوى القليل منها الآن.

وتظهر صور أخذت بوساطة طائرة من دون طيار لحي السكري في عام ٢٠١٦، أثناء الهجوم المدمر للحكومة، الشوارع المهجورة في الحي الذي دمر بالكامل.

وبحلول الوقت الذي تم فيه إجلاء ٤٠ ألف مدني ومقاتل في صفوف المعارضة مع عائلاتهم قسراً من شرق حلب في كانون الأول، كانت أحياء بأكملها قد سويت بالأرض، ومع ذلك يقول السكان الحاليون والسابقون أنه لم يتغير الكثير منذ ذلك الحين.

وعندما تم نقل محمد، أحد سكان السكري السابقين، إلى ريف حلب الذي تسيطر عليه المعارضة، عرف أنه لن يعود في الوقت القريب.

وكان محمد، الأستاذ الجامعي المتقاعد محظوظاً، فعلى خلاف المنازل الأخرى في الحي، كان منزله لا يزال قائماً، إلا أن الأبواب والنوافذ  تحطمت جراء القصف الذي طال منزل جاره.

ويعيش محمد حالياً في منطقة تسيطر عليها المعارضة خارج مدينة حلب، وقال أنه لم يتمكن من تحمل تكاليف إصلاح المنزل، لذلك قرر بيعه. وبقيت زوجته هناك لاستكمال إجراءات بيع المنزل.

وقال لسوريا على طول “حتى لو تمكنت من الحصول على المال، فإن المنطقة ليست ملائمة للعيش”، موضحاً “لا يوجد أمان، وهي مليئة بالحواجز والميليشيات [الموالية للحكومة] الذين يتقاتلون باستمرار ويثيرون المشاكل”.

وخوفاً على سلامة أقاربه الذين يعيشون في مدينة حلب الآن، طلب محمد أن يتم حجب اسمه الكامل.

ومحمد ليس الوحيد من سكان حلب الشرقية الذين يسعون لبيع منازلهم في مدينة أعادت الحكومة فرض سيطرتها الكاملة عليها في أواخر عام ٢٠١٦.

ورغم وعود الحكومة السورية بمشاريع إعادة الإعمار واسعة النطاق، واستعادة كافة الخدمات والأمن إلى المدينة الأكبر وعاصمة سوريا الاقتصادية سابقاً، إلا أن سكان حلب الحاليين والسابقين يقولون إن المدينة لا تزال في حالة من الفوضى.

وإن الاحتمالات الضعيفة لاستعادة كل من البنية التحتية والخدمات – خاصة في المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة سابقاً شرقي المدينة – بالإضافة إلى تواجد الميليشيات الموالية للحكومة، دفع بعض سكان حلب النازحين لبيع ممتلكاتهم بما أن أمل العودة إليها يتلاشى.

“هناك العديد من الأشياء التي وعدت الحكومة بإصلاحها”

كانت حلب في يوم من الأيام أكبر مدينة في سوريا من حيث الكثافة السكانية والأهمية الصناعية، وتشتهر بصناعة المنسوجات والصابون الحلبي من زيت الزيتون والغار الذي يحمل اسم المدينة.

وعلى الرغم من تأخرها في الانضمام إلى الاحتجاجات التي اجتاحت سوريا في عام ٢٠١١، فقد استولت فصائل المعارضة في وقت لاحق على أجزاء واسعة من الريف والمدينة، وأصبحت المدينة فيما بعد موقعاً لإحدى أكبر المعارك في الصراع السوري وأكثرها دموية.

وتُرك شرق حلب مهجوراً إلى حد كبير في عام ٢٠١٦، بعد أن استهدفت حملة ضخمة شنتها القوات الموالية للحكومة الأجزاء الشرقية من المدينة، معلنة وضع نهاية لأربع سنوات من الحصار الخانق، وكجزء من اتفاق التسوية الذي أنهى الهجوم، تم إجلاء عشرات الآلاف من المدنيين والمقاتلين وعائلاتهم من شرقي حلب إلى الأجزاء التي تسيطر عليها المعارضة في شمال غربي سوريا، عبر الحافلات الخضراء التي أصبحت في وقت لاحق رمزاً إلى سياسة “الخضوع أو التجويع” التي تنتهجها الحكومة.

وحاصرت القوات الموالية للحكومة، قبل معركة حلب وبعدها، المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في جميع أنحاء البلاد، وعملت على قصفها قبل إجلاء المقاتلين والمدنيين إلى المعقل الأخير المتبقي الآن للمعارضة في الشمال الغربي.

وجاء الحديث سريعاً عن إعادة إعمار حلب. فبعد أقل من شهر من سيطرة الحكومة السورية على المدينة، أعلنت عن خطط لإعادة إعمار المدينة، واستعادة الخدمات الأساسية “للسماح لأهالي حلب بالعيش حياة طبيعية”.

وأعدّت السلطات المحلية في حلب خطط لمشاريع إعادة التأهيل والإعمار في المدينة وما حولها، ويتوقع بعض المراقبين أن تصبح مباني شرق حلب العشوائية، في يوم من الأيام، حالة لدراسة هذا النوع من خطط إعادة الإعمار المثيرة للجدل والواردة في عدد كبير من التشريعات السورية الصادرة بعد عام ٢٠١١ التي صممت من أجل المنطقة، وتنص على تدمير وإعادة بناء مناطق كاملة من المدن السورية- ومنها القانون رقم ١٠، الذي حذرت جماعات حقوق الإنسان من أنه يمكن أن يحرم أعداداً غير معروفة من السوريين اللاجئين خارج البلاد من العودة إلى منازلهم.

ومع ذلك، وفقًا لسكان حلب الحاليين والسابقين، لم يتغير شيء منذ الأيام الأخيرة للمعارضة شرقي حلب.

وقال أبو هيثم، الذي يمتلك مكتباً عقاريا في المدينة القديمة التاريخية “لا يوجد إعادة إعمار، باستثناء ما يقوم به السكان بأنفسهم وبشكل فردي”.

ووفقاً لأستاذ الجامعة السابق محمد  فإن “الوضع لم يتغير كثيراً”، مضيفاً “هناك العديد من الأشياء التي وعدت الحكومة بإصلاحها، ومع ذلك لم تفعل”.

ورغم أنه غادر حلب كجزء من عمليات الإجلاء القسرية التي أعقبت اتفاق وقف إطلاق النار في أواخر عام ٢٠١٦، إلا أن زوجة محمد بقيت لمدة عام آخر لتتم إجراءات بيع المنزل، ولا يزال هو على اتصال بالأقارب الذين بقوا وراءهم، وباستثناء نقص الخدمات الأساسية، قال محمد، إن الأسوأ من كل ذلك أن “الأمان غير موجود فعلياً”.

وتابع قائلاً “كل يوم تسمع عن جريمة.. حلب الشرقية أصبحت أشبه بأرض العصابات”.

وفي مواجهة الانشقاقات ونقص القوى منذ بداية الثورة في عام ٢٠١١، تحول الجيش السوري إلى خليط معقد من الميليشيات والقوات الداعمة. وغالباً ما يسميها السكان المحليون بالشبيحة، حيث أصبحت هذه المجموعات مهيمنة في حلب.

“لا أمل بالعودة”

منذ سيطرة الحكومة على المدينة في عام ٢٠١٦، بقيت أحياء بأكملها تحت سيطرة الميليشيات، بعضها مدعوم من إيران، والتي تتهم بنهب المساكن ومصادرة الممتلكات بالإضافة إلى الاشتباكات مع الجماعات المسلحة الأخرى الموالية للحكومة في المدينة.

وبذلت الحكومة المركزية في وقت سابق بعض الجهود لكبح جماح الميليشيات، لكن السكان والمحللين قالوا إن الميليشيات مازالت تشكل جزءاً رئيسياً من الحياة في المدينة، مما يجعل المدنيين عرضة للمضايقة والسرقة وما هو أسوأ من ذلك.

جسر الحج الذي يربط منطقة السكري والفردوس في حلب، هذا الأسبوع. صورة مقدمة من مصدر خاص.

واستمرت الاشتباكات الأخيرة بين الميليشيات لعدة أيام الشهر الماضي، حيث اشتبك مقاتلون مدعومون من إيران مع آل بري الموالين للحكومة. وبحسب الأنباء كان سبب النزاع الرغبة في السيطرة على الأحياء المليئة بالمساكن المهجورة خلال سنوات الحرب.

وقال الحكم شعار، وهو زميل بحث هولبروك في مشروع حلب، ومقره بودابست، حيث يوثق ويصور المشهد الحضري في حلب في مرحلة ما بعد الحرب، إن الميليشيات تمثل “تبعيات للدولة بدلا من كونها الدولة نفسها”.

وأضاف ” هم لا يتمتعون بهذا المستوى العالي من الاستقلالية  والحكم الذاتي، فهم في الأساس مجرد بلطجية في الدولة”.

وفي الوقت نفسه ، ذكر أنهم لا يستهدفون أي مجموعات معينة، ولكنهم يشكلون تهديدًا للمدنيين بشكل عام.

وتابع “بغض النظر عمّا إذا كنت في غرب حلب أو شرقها، أو مع النظام أو ضده، يمكن استهدافك أو إرهابك من قبلهم”.

وعلى المدى الطويل، قال الشعار، تساهم الميليشيات في انعدام الأمن في حلب وتمنع سكان حلب المهجرين من العودة في النهاية.

ورغم فرار الكثيرين، حتى قبل عمليات الإجلاء في عام 2016، إلا أن بعض السكان لازالوا في أماكنهم – على الأقل لفترة من الوقت.

وأم فؤاد مقيمة أخرى من سكان حلب باعت منزلها في وقت سابق من هذا العام، وغادرت إلى تركيا بعد فترة وجيزة. وقالت إن الأوضاع الأمنية والاقتصادية السيئة في حلب كانت من بين الأسباب الرئيسية وراء مغادرتها “كما أننا يأسنا من العودة”.

وأضافت “لا يوجد عمل ولا أمان”.

وتنتمي أم فؤاد بالأصل إلى حي الحمدانية، الواقع في النصف الغربي الأفضل حالاً من المناطق الأخرى في المدينة، حيث بقي خاضعاً لسيطرة الحكومة طوال فترة الصراع، ونجا من الدمار الذي لحق بالمناطق التي كانت تقع تحت سيطرة المعارضة سابقاً في الشرق.

وبدلاً من ذلك، واجهت أم فؤاد نوعاً مختلفاً من المشاكل، حيث كان أحد الضباط في الجيش السوري يقيم في الشقة التي كانت تقع فوق شقة أم فؤاد، وذلك بعد أن فر ابنها-المطلوب سابقاً- إلى تركيا.

وتقع شقة أم فؤاد على الخطوط الأمامية بين المناطق التي تسيطر عليها الحكومة والمناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة سابقاً في حلب، وقالت إنه من المألوف أن يستقر العسكريون في حيّها بعد دخول الجيش السوري الحر إلى شرق حلب.

وأضافت “معظم المنازل التي تركها أصحابها محتلة بشكل فعلي، بغض النظر عن هوية مالك المنزل إذا كان مؤيداً أو معارضاً طالما أن المنزل فارغ”.

وحينما قررت أم فؤاد الانتقال إلى تركيا للاستقرار مع أبنائها، أرادت التأكد من أنها لن تخسر منزلها الذي كان يحتله الضابط في ذلك الوقت.

وقالت “كنا خائفين من أن يستولي على المنزل”.

وبيع المنزل لم يكن سهلاً حتى بعد المرور بعملية بيروقراطية تطبق للحصول على تصريح أمني من السلطات المحلية – يقصد من خلالها إعطاء السلطات والهيئات الأمنية رقابة رسمية على سوق العقارات، وفي الوقت نفسه دفع الرشاوى “هنا وهناك”، وقالت أم فؤاد أنه توجب عليها التعامل مع الضابط الذي كان مسيطراً على المنزل.

وعندما أخبرته في البداية أنها كانت تخطط لبيع المنزل، لم يعترض، بل طلب منها ببساطة أن تطلعه على الأوراق التي توثق صفقة البيع.

وأكملت “كان يعتقد أنني لن أتمكن من الحصول على تصريح أمني”.

وبعد أن عرضت عليه الدليل، استغرق الأمر أسبوعين آخرين لإخلاء المبنى.

قالت “الحمد لله تركه في النهاية، لكن حتى ذلك الحين، نهب المنزل بالكامل”.

منازل “على الهيكل”

بدأ درويش خليفة، الكاتب الصحفي من شرق حلب، والذي يعيش في تركيا منذ عام 2014، عملية بيع منزله – في منطقة مساكن هنانو الشرقية – على الرغم من أنه متضرر بشكل كبير ولم يبق فيه الكثير بسبب ماتعرض له من قصف وعمليات نهب.

وقال “البيت عبارة عن هيكل، حتى كابلات الكهرباء تم سحبها من الجدران وتم سرقة الحنفيات”.

وعلى غرار أم فؤاد، فإن دافع خليفة الأساسي لبيع منزله حتى لايتم الاستيلاء عليه من قبل الميليشيات الموالية للحكومة في الحي الذي يقيم فيه، رغم أنه لا يزال غير متأكد مما إذا كان سيتمكن من بيعه بعد كل ماتعرض له.

وقال الوكيل العقاري أبو هيثم، أن النشاط في سوق العقارات “ضعيف” لكن العرض مرتفع، والطلب غير موجود تقريباً.

وهناك عائق روتيني يواجهه سكان حلب عند محاولة بيع منازلهم، وهو العثور على شخص ما لشراء العقار في المقام الأول.

وذكر “في هذه الأيام، إذا استطعت أن تجد شخصاً يشتري منزلك فأنت محظوظ”.

وأضاف أبو هيثم، أن الطلب منخفض جداً، لدرجة أن الناس غالباً تبيع بنسبة أقل 30 في المائة من السعر الأصلي، في بعض الحالات الأشخاص الذين يشترون البيوت، هم رجال أعمال وتجار يتطلعون لشراء مساكن تضررت بشدة بأسعار رخيصة قبل أن يقوموا بإعادة ترميمها وبيعها بأسعار مرتفعة.

وقال “[أصحاب المنازل] الذين ليسوا مضطرين للبيع يمكنهم الانتظار للحصول على فرصة وسعر أفضل، ولكن الانتظار ليس في مصلحتهم، لأن الأسعار تستمر في التراجع أكثر فأكثر، ولا يبدو أن هذا سيتغير في المستقبل القريب”.

“دمرت حلب عدة مرات”

يشير البعض إلى أن الأمور تختلف في  أكبر مدينة في سوريا عن ما كانت عليه في السابق.

وتركت علامات التعافي المبكرة جداً في مدينة حلب القديمة بعض السكان متفائلين في أن تعود الحياة كما كانت عليه يوما ما. وقد جذبت المدينة القديمة، التي تم تصنيفها كموقع تراث عالمي من قبل اليونسكو، مزيدًا من الاهتمام لإعادة إعمارها من الضواحي الشرقية.

وقام صندوق الأمم المتحدة للتنمية بتنفيذ مشاريع “إعادة تأهيل” متفرقة حول المدينة القديمة، وكذلك في مناطق شرق حلب بدرجة أقل. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أصدرت وزارة السياحة السورية شريط فيديو يعرض لقطات عالية الوضوح من طائرات بدون طيار لشاحنات تقوم بإزالة الأنقاض من الشوارع، ورجال يرتدون سترات وخوذ يقومون بإعادة بناء بعض المواقع التاريخية في المدينة.

وصرّح أحد السكان السابقين في المدينة القديمة، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية، بما أنه تم تدمير شرق حلب فإن “ما وراء إعادة إعمار” المدينة القديمة يمكن أن يكون لها قصة مختلفة.

وأضاف “دمرت حلب مرات عديدة، وأعيد بناؤها [في كل مرة]، ولم يستسلم الناس أبداً، وخلقوا الحياة من الموت”.

وذكر الشعار هناك بعض العلامات التي تدل على أن إعادة الإعمار تجري في المدينة.

وقال “كانت هناك بعض التحركات لإعادة الإعمار التي لا يمكننا تجاهلها، [لكن] التحركات خارج المدينة القديمة كانت محدودة جداً”. وبالإضافة إلى الجهود المبذولة لإعادة بناء المعالم الرئيسية، إلا أن معظم المنازل لا تزال “مدمرة بشكل كبير” على حد قوله.

ورغم أن الغالبية العظمى من الدمار الناجم عن هجوم عام 2016 قد أثر على القطاع العقاري، إلا أن القطاع الصناعي في حلب تعرض لضربة كبيرة من الصراع أيضاً، حيث قامت الفصائل من الجانبين بنهب المصانع، كما تم قطع الطرق التجارية الرئيسية التي تربط حلب بكل من الموردين والمستهلكين حول العالم.

وبعد ذلك، غادر العديد من التجار حلب المدينة، إما بالانتقال إلى مناطق أخرى من البلاد أو الفرار من سوريا تمامًا.

وكانت عائلة أم فؤاد تمتلك مصنعًا للنسيج، ولكن وضعه مثل وضع منزلها، لم تكن قادرة على بيعه إلا بنصف سعره الأصلي. ومع ذلك، فهي راضية عن الطريقة التي سارت بها الأمور.

وقالت “بسبب بيع المنزل استطعنا بدء عمل جديد هنا”.

وفي حين أنها لاتزال تملك عقارين في حلب، فهي تأمل في بيعهما أيضاً “عاجلاً وليس آجلاً” كما أنها مصممة الآن على بدء حياة جديدة في تركيا.

وختمت أم فؤاد، التي تركت حلب خلفها “بصراحة هذا سيكون أفضل”.

شارك هذا المقال