7 دقائق قراءة

السدود التركية على الفرات: تداعيات تمس الحياة شمال شرق سوريا

لا يؤثر انخفاض تدفق مياه الفرات بشكل مستمر على الإنتاج الزراعي السوري فحسب، وإنما يهدّد أيضاً باستنزاف لأحواض المياه الجوفية العذبة في البلاد.


24 أغسطس 2020

عمان- خلال الشهر الماضي، ضربت سوريا موجة حر شديدة بحيث بلغت الحرارة قرابة 46 درجة مئوية، بالتزامن مع شح الثلج في مخيم الهول الواقع في الصحراء الشمالية الشرقية للبلاد. 

في العادة، تتولى مصانع مدينة الحسكة توفير الثلج لهذا المخيم الذي يؤوي أفراد عائلات كانت تقطن في المناطق الخاضعة سابقاً لحكم “تنظيم الدولة” (داعش). لكنها لم تستطع في الفترة الأخيرة تلبية الطلب بسبب انقطاع الكهرباء عن المدينة، والذي قد يمتد إلى 12 ساعة يومياً في بعض الأحيان. لكن هذا الانقطاع يمثل واحداً من الآثار المباشرة لمشكلة أعمق، هي نفاد المياه في البلاد.

ففي الفترة السابقة، كان نهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويخترق سوريا قبل أن يصب في الخليج العربي عبر العراق، يُساعد في توليد الطاقة الكهرباء الكافية لشمال شرق سوريا. ووفقاً لمركز معلومات شمال وشرق سوريا، ومقره مدينة القامشلي، فإن “80 % من كهرباء شمال شرق سوريا مصدرها الطاقة الكهرومائية”. لكن في الأسابيع الأخيرة، انخفض تدفق مياه الفرات بنسبة “65%… إلى ما يقل عن 200 متر مكعب في الثانية الواحدة”، كما جاء في تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، في 27 تموز/يوليو الماضي.

وفي الوقت الذي لا تحدد وثيقة الأمم المتحدة الجهة أو الجهات المسؤولة عن هذا الانخفاض، فإن مسؤولين من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها الأكراد، سبق لهم اتهام تركيا ببناء سدود على نهر الفرات وتقليص تدفقه جنوباً بصورة متعمدة. 

وفيما تسيطر تركيا على منبع نهري دجلة والفرات، فإنها تعد أيضاً واحدة من أنشط دول العالم في بناء السدود. وبحسب ما ذكر عدد من العلماء والناشطين البيئيين والمسؤولين في الإدارة الذاتية لـ”سوريا على طول”، تعمل تركيا على تقليص تدفق المياه من الفرات إلى سوريا منذ سنوات. 

حتى وقت قريب، لم تكن البيانات الدقيقة التي تدعم مثل هذه المزاعم متوفرة، بسبب حالة عدم الاستقرار التي تُعاني منها سوريا منذ العام 2011، والتي تحّد بدورها من إمكانية مراقبة النهر عند مروره في البلاد. 

هل تصل مياه أقل بالفعل إلى سوريا؟

القياس المباشر الوحيد لتدفق نهر الفرات منذ العام 2011 تم أخذه في محطة جرابلس للمراقبة شمال حلب، في العام 2015. في حينه، تبين أن حجم التدفق بلغ 330 متراً مكعباً في الثانية الواحدة، أي إنه شهد انخفاضاً بنسبة 40% عن المتوسط العائد إلى العام 2010. ووفقاً لأحكام الاتفاقية المُبرمة بين تركيا وسوريا في العام 1987، لا يجب أن يقل حجم تدفق الفرات عن 500 متر مكعب في الثانية الواحدة. 

وإذا كان قياس العام 2015 مؤشراً دقيقاً على التدفق المعتاد لنهر الفرات على مدار العقد الأخير، فإن الأثر على البيئة والسكان المحليين قد يكون كارثياً، قياساً إلى تقدير الأمم المتحدة حجم التدفق الطبيعي بنحو ألف متر مكعب في الثانية الواحدة. بيد أنه بسبب غياب بيانات المراقبة منذ العام 2011، فإن من المستحيل الجزم فيما إذا كانت تقديرات العام 2015 هي استثناء أم الحالة المُعتادة. 

لكن في تموز/يوليو 2019، قاد رئيس مختبر الاستشعار عن بعد في بئر السبع أرنون كارنيلي دراسة تهدف إلى قياس تدفق نهر الفرات. وقد رصدت الدراسة نسب نمو الغطاء النباتي في المنطقة، بحيث تمت المقارنة بين نمو المحاصيل في شمال شرق سوريا والمنطقة التركية الواقعة على الجانب الآخر من الحدود. 

صور ملتقطة بالأقمار الصناعية تُظهر مقارنة بين الغطاء النباتي على جانبي الحدود السورية-التركية، تموز/يوليو 2019 (كارنيلي وآخرون) 

وقد خلصت الدراسة إلى عدم وجود فرق ملحوظ بين نمو المحاصيل في آذار/مارس 2011 والشهر ذاته من العام 2015 في نهاية الموسم المطري (على اعتبار أن القمح هو المحصول الأساسي في آذار/مارس). بل إن الجانب السوري شهد، في الواقع، نسبة نمو أكبر في الغطاء النباتي. 

لكن فيما يتعلق بالمحاصيل المرويّة التي يحل وقت حصادها في أيلول/سبتمبر، فقد انخفض نمو الغطاء النباتي على الجانب السوري في الفترة ما بين 2011 و2015، بينما شهد الجانب التركي ارتفاعاً في النمو في الفترة الزمنية ذاتها، بحسب الدراسة. 

أيضاً، تناولت الدراسة مستويات المياه في البحيرتين اللتين يغذيهما نهر الفرات بشكل رئيس، وهما بحيرة أتاتورك جنوب تركيا وبحيرة الأسد شمال سوريا، في الفترة الواقعة بين 2011 و2015. وكانت النتيجة وجود فجوة كبيرة بين البحيرتين. ففي الوقت الذي تراجع فيه منسوب المياه في بحيرة الأسد بشكل كبير، شهدت بحيرة أتاتورك ارتفاعاً حاداً. 

رسم بياني يظهر التغيّر في منسوب المياه في بحيرتي أتاتورك والأسد استناداً إلى صور الأقمار الصناعية، تموز/يوليو 2019 (كارنيلي وآخرون) 

وكما أكد الرئيس المشترك لهيئة الاقتصاد والزراعة في الإدارة الذاتية، سلمان بارودو، لـ”سوريا على طول”، فقد شهدت البلاد انخفاضاً ملحوظاً في ناتج محاصيل محددة بسبب “جفاف” الأنهار التي تتفرّع عن نهر الفرات. مضيفاً أن المياه القادمة من تركيا كانت، في كثير من الأحيان، ملوثة بالنفايات الدوائية، ما أثر سلباً على جودة المحاصيل. 

وقد سعت “سوريا على طول” إلى الحصول على تعليق من معهد المياه التركي ووزارة الزراعة التركية، لكن لم يكن هناك استجابة حتى وقت نشر هذا التقرير. 

التداعيات البيئية

لا يؤثر انخفاض تدفق مياه الفرات بشكل مستمر على الإنتاج الزراعي السوري فحسب، وإنما يهدّد أيضاً باستنزاف لأحواض المياه الجوفية العذبة في البلاد. 

وقد عانت سوريا، شأنها شأن بقية بلدان الشرق الأوسط، من الاستنزاف المستمر لأحواض المياه الجوفية بسبب النمو السكاني والاستهلاك الجائر للمياه والتغيّر المناخي. وحتى قبل العام 2011، كانت سوريا تعتمد بشكل متزايد على خزانات المياه الجوفية تزامناً مع التوسع في المحاصيل المرويّة وتباطؤ تدفق نهر الفرات والأنهار المتفرعة عنه. 

في هذا السياق، قال الرئيس المشترك لهيئة المياه في الإدارة الذاتية لـ”سوريا على طول” إنه “في العام 1982، كانت المياه [الجوفية] على عمق عشرة أمتار، فيما تتراوح اليوم بين عمق 100-150 متراً”.

وفي ظل تراجع قدرتهم على ري مزروعاتهم من مياه الفرات، يتجه المزارعون بشكل متزايد إلى المياه الجوفية للتعويض عن هذا النقص، بحيث يحفرون آباراً جديدة ويستنزفون الآبار القديمة، ما يتسبب في تقليص المياه الجوفية بشكل متزايد. وفي العام 2001، كان هناك 1500 بئر خاصة في سوريا ككل، أما اليوم، فهناك 28 ألف بئر على حوض الخابور-دجلة لوحده، بحسب مذكرة صادرة عن هيئة المياه في الإدارة الذاتية، في آذار/مارس 2019، اطلعت عليها “سوريا على طول”. 

بحسب عالم المياه الجوفية (هيدروجيولوجيا) في جامعة فرايبورغ الألمانية للتعدين والتكنولوجيا، د. سامح مقدادي، فإن الاستمرار في حفر الآبار وضخ المياه الجوفية يؤدي إلى أمرين: انخفاض منسوب تلك المياه، وزيادة تركز المواد الملوثة والسامة، مثل الزرنيخ، فيها. 

وفي ظل غياب آلية للتغذية في الوقت الراهن وتراجع تدفق نهر الفرات، فمن المرجح أن يقل توفر المياه الجوفية في شمال شرق سوريا، كما تراجع جودتها بوتيرة متسارعة. 

المياه رهينة القضية الكردية في تركيا 

منذ ثمانينات القرن الماضي، ارتبط مصير الأكراد بقضية المياه في حوض دجلة-الفرات. وقد نظَّمت الاتفاقيات المبرمة بين تركيا وسوريا، وتحديداً الاتفاقية غير الرسمية في العام 1987 واتفاقية أضنة في العام 1998، استخدام الأنهار العابرة للحدود. لكنها اهتمت بالنشاط السياسي للأكراد بشكل رئيس، ومن ثم الحفاظ على مستوى تدفق نهر الفرات نحو الجنوب.  

تاريخياً، تمتعت تركيا بنفوذٍ واسع على الدولتين المجاورتين؛ سوريا والعراق. وبهدف تعزيز قوتها التفاوضية والضغط على تركيا، سمحت دمشق لحزب العمال الكردستاني المُصنَّف جماعة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا، بالعمل في سوريا وشن هجمات ضد تركيا انطلاقاً من المناطق الواقعة على الحدود الشمالية حتى العام 1998. 

لكن منذ توقيع اتفاقية أضنة وحتى اندلاع الثورة السورية في العام 2011، سار التعاون التركي-السوري فيما يخص قضايا المياه على نحو إيجابي، بدليل بدء بناء “سد الصداقة السورية-التركية” في بلدة حدودية بين البلدين. بيد أن العلاقات بين البلدين شهدت توتراً منذ ذلك الحين، وتحديداً بسبب نشاط الإدارة الذاتية. 

إذ ترى تركيا أن حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود الإدارة الذاتية هو امتداد لحزب العمال الكردستاني. وترى أنقرة أن دمشق تسمح مرة أخرى لجماعة كردية مسلحة بالعمل على أراضيها، وأنها فشلت بالتالي في الحفاظ على التزاماتها الواردة في الصفقة، ما يُعفي أنقرة، هي الأخرى، من الالتزام بالحد الأدنى من التدفق الوارد في الاتفاقيات والمعاهدات السابقة. 

وبحسب د. المقدادي، فإن غياب الالتزام الدولي يُعفي تركيا من التزاماتها، ويمنحها الحرية لتكثيف استخدامها للسدود واستغلال حوض الفرات-دجلة إلى أقصى حد، وبما يُتيح لأنقرة التصدي لاثنين من أكثر تحديات أمنها الوطني إلحاحاً: نقص الطاقة والنزاع التركي-الكردي. 

فوفقاً لأرقام العام 2018، استوردت تركيا ما نسبته 75% من احتياجاتها من الطاقة. لكن استثماراتها الضخمة في مشاريع إنتاج الطاقة المحلية، مثل بناء 22 سداً ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول، ساهمت في تعويض النقص في الطاقة. وفي العام 2019، تضاعف حجم الطاقة التي تنتجها أكبر ثلاثة سدود في تركيا، وجميعها تقع على نهر الفرات. 

علاوة على ذلك، يتركز مشروع جنوب شرق الأناضول في جنوب البلاد، وهي المنطقة الأكثر فقراً والأقل تطوراً في تركيا، والتي تؤوي أكبر تجمع لأكراد البلاد. وبفضل ضخامة المشروع، خُلقت عشرات آلاف الوظائف لأبناء المنطقة، الأمر الذي يفترض أن يساهم “في اندماج الأكراد في الأمة التركية وتقليص دعمهم للمطالب الانفصالية التي ينادي بها حزب العمال الكردستاني”، وفقاً للأستاذ الدكتور جيريمي ألوش من معهد الدراسات التنموية في جامعة ساسكس البريطانية. 

من خلال بناء السدود والاعتماد على نهر الفرات لملئها، تهدف تركيا إلى تعزيز دعمها من قبل الأكراد داخل حدودها، وفي الوقت ذاته حرمان ما تعتبره امتداداً لحزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية من المياه والكهرباء والسيولة النقدية المتأتية من الزراعة. 

لكن في الوقت الذي تستفيد فيه أنقرة من سياساتها الحالية لإدارة المياه العابرة للحدود، فإن الآثار على المدى الطويل قد تكون ضارة بالنسبة لتركيا وسوريا على حدٍ سواء؛ إذ يهدّد نقص المياه استقرار المنطقة التي تقع مباشرةً على حدود تركيا الجنوبية. 

تم نشر أصل التقرير باللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية لينا شنك

شارك هذا المقال