7 دقائق قراءة

المسيحيون في سوريا: وقود صراع بذريعة الحماية

إذا كان دعاة حماية المسيحيين، بما في ذلك الإدارة الذاتية، تعتقد أنها باستخدام ملف المسيحيين "ستدغدغ مشاعر الغرب، فإن الغرب لا يهتم بهذه القضية" برأي جميل دياربكرلي، معتبراً أنهم أيضاً يستخدمون "مسيحيي الشرق الأوسط في حروبهم السياسية".


عمان- فيما كانت وسائل إعلام تركية تنشر، في 10 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تقريراً مصوراً عن إعادة فتح كنيسة الأرمن في تل أبيض، بعد سيطرة القوات التركية وفصائل المعارضة السورية المتحالفة معها على المدينة في إطار عملية “نبع السلام” التي انطلقت في 9 تشرين الأول/أكتوبر ضد وحدات حماية الشعب الكردية، كان مناهضون لأنقرة ينشرون صوراً مناقضة تُظهر ما قالوا إنها آثار دمار في الكنيسة ذاتها، بعد أن تعرضها للنهب على يد القوات ذاتها.

هاتان الروايتان المتناقضتان توضحان مشهد استخدام ملف المسيحيين في سوريا ككل، ومؤخراً في شمالها الشرقي تحديداً، سعياً لتحقيق مصالح سياسية تحت مسمى “حماية الأقليات”. وهو ما أوجد شعوراً بين المسيحيين أنفسهم بأن موضوعهم “أصبح يستغل بطريقة بشعة”، حسب وصف جميل دياربكرلي، مدير المرصد الآشوري لحقوق الإنسان. معتبراً في تصريح لـ”سوريا على طول” أن “أكثر من يمارس [هذا الاستغلال] هم جماعة [حزب العمال الكردستاني التركي] ب.ك.ك” الذي يعد المنظمة الأم لحزب الاتحادي الديمقراطي وذراعه العسكرية وحدات حماية الشعب في سوريا.

في أعقاب ذلك، شهدت مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والتي تهمين عليها وحدات حماية الشعب، في شمال شرق سوريا، وقوع حادثتين إرهابيتين. تمثلت الأولى في اغتيال راعي كنيسة الأرمن الكاثوليك في القامشلي، الكاهن إبراهيم حنا بيدو، المعروف باسم “الأب هوسيب”، مع والده، في دير الزور، حيث كان هناك للإشراف على ترميم كنيسة. وقد تزامنت الحادثة مع تفجيرات بسيارتين ودراجة نارية مفخخة بالقرب من كنيسة ومقهى في مدينة  القامشلي، بحسب ما أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي في بيان عبر موقعه الرسمي.

وطالب الحزب في البيان الذي نشر في 12 تشرين الثاني/نوفمبر، المجتمع الدولي، بما في ذلك قوات التحالف لمحاربة “تنظيم الدولة” (داعش) والولايات المتحدة “بتحمل مسؤولياتهم تجاه مكونات شمال وشرق سوريا الذين دحروا الإرهاب نيابة عن العالم، وإيجاد آلية دولية لحماية هذه المكونات”.

ورغم إعلان “داعش” مسؤوليته عن اغتيال الأب هوسيب، اعتبرت الدكتورة سميرة مبيض، نائبة رئيس منظمة سوريون مسيحيون من أجل السلام، أن تنفيذ الجريمة “بشكل مباشر في مناطق سيطرة قوات قسد، المتحالفة والمتعاونة مع نظام الأسد في الآونة الأخيرة، عدا عن اجتياز “داعش” كل الحواجز الأمنية في المنطقة، يعدّ أمراً غير مقنع”.

وأضافت مبيض لـ”سوريا على طول” أن “الحادثة تذكرنا بشكل مباشر بما يقوم به أو قام به نظام الأسد خلال عقود طويلة من عمليات تفجير وعمليات انتحارية داخل المناطق المدنية، من أجل إحداث البلبلة والتخويف لدى الآخرين من الإرهاب”.

وهو ما اتفق معها دياربكرلي، مشيراً إلى قصف طال منزل عائلة مسيحية في مدينة القامشلي، في اليوم الأول لـ”نبع السلام”. إذ حملت مواقع محلية تركيا المسؤولة عن الحادثة، الأمر الذي يشكك فيه دياربكرلي.

المسيحيون في “الثورة السورية”

في السنوات الأولى للثورة السورية، سعت الحكومة إلى تسليح المسيحيين في دمشق وتشجيعهم على تشكيل مليشيات استعداداً للتطورات المقبلة في سوريا. 

لكن الرد بالرفض جاء سريعاً، انطلاقاً من “موقف العائلات المسيحية السورية الوطني، كما ثقافتها المسيحية التي تذهب غالباً باتجاه نبذ العنف والاقتتال”، بحسب مبيض، مفضلين بدلاً من ذلك “في كثير من الأحيان هجرة شبابهم إلى الخارج على التضحية بهم على جبهات القتال”.

لكن عدم انخراط المسيحيين السوريين في الصراع العسكري لم يخرجهم من دائرته، بل “كان هناك توجه سلبي تجاههم”، كما قالت مبيض. وبتنسيق أو من دونه، وقعوا ضحية كل الأطراف، مشددة على وجود “اتفاق بين النظام والمجموعات المتطرفة من جهة، والنظام والمليشيات الإيرانية من جهة أخرى، على هدف تهجير المسيحيين وتغيير المحيط الثقافي لهم”. 

في السياق ذاته، شبه دياربكرلي واقع المسيحيين السوريين بأنهم أصبحوا يستخدمون “كمكسر العصا. إذا أراد النظام ضرب المعارضة يستهدف المسيحيين، والمعارضة تفعل الشيء ذاته. وكذلك الأكراد والأتراك والروس”.

وفي تقريرها عن الانتهاكات بحق المسيحيين في سوريا، في أيلول/سبتمبر الماضي، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان “نحو 124 حادثة اعتداء على أماكن عبادة مسيحية من قبل الجهات الرئيسة الفاعلة في سوريا، منذ آذار 2011 وحتى أيلول 2019″؛ 75 منها تمت على يد قوات النظام السوري، و10 على يد “داعش”، و33 على يد فصائل المعارضة المسلحة، وحادثتين على يد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً).

وبحسب الشبكة، تسببت حوادث الاعتداء “في تضرُّر ما لا يقل عن 76 من أماكن العبادة المسيحية، ست منها تعرضت لاعتداءات على يد أزيَدَ من طرف”.

كذلك، تعرض مسيحيون في مناطق سيطرة القوات الحكومية للاعتقال. إلا أن “حصر الأعداد وتحديثها بناء على معتقد المعتقل عمل ليس سهلاً”، بحسب ما ذكر لـ”سوريا على طول”، فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان. لافتاً إلى أن الشبكة وثقت حتى نهاية العام 2014، اعتقال القوات الحكومية السورية لنحو 450 شخصاً من الديانة المسيحية، بينهم 28 امرأة. وقد تم إطلاق سراح 165 منهم.

كما كان المسيحيون هدفاً لتنظيم “داعش”، لاسيما من خلال استغلالهم مادياً عبر فرض “الجزية” عليهم في مناطق سيطرة التنظيم سابقاً في شمال شرق سوريا. وكذلك أدت سيطرة داعش على مدينة القريتين، في محافظة حمص وسط سوريا، مرتين في العام 2017، إلى تغيير جذري في تركيبة المدينة الديمغرافية والتي كانت تمثل صورة مصغرة عن سوريا، بسبب هجرة المسيحيين الذين كانوا يشكلون نسبة 10 بالمائة من السكان. 

أيضاً، ورغم أن تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثق هجومين فقط على يد هيئة تحرير الشام، فإن مناطق سيطرة الهيئة في شمال غرب سوريا شهدت موجات نزوح للمسيحيين من مركز المدينة وقراها في الريف الغربي. تلا ذلك تعرض أملاكهم للمصادرة، بحسب ما ذكر مدنيون في إدلب لـ”سوريا على طول” العام الماضي.

أما الإدارة الذاتية التابعة لـ”قسد”، والتي تطالب المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته تجاه المسيحيين والأقليات في شمال شرق سوريا، فإنها متهمة بارتكاب انتهاكات بحق المسيحيين في مناطق سيطرتها. وعلى الرغم مما تقرره في “دستورها” المعتمد العام 2014 عن حق الأفراد في ممارسة معتقداتهم من دون اضطهاد، فإن الأقليات المسيحية في شرق سوريا، من آشوريين وسريان وكلدان، يتمتعون بحريات دينية شكلية في ظل الإدارة الذاتية، كما كانت الحال في ظل الأسد. وقد شهد العام 2018 إغلاق عشرات المدارس المسيحية، لأنها لم تتبن مناهج الإدارة الذاتية. 

وذهب دياربكرلي إلى أن “المسيحيين في مناطق الأكراد تنتهك حقوقهم يومياً، وتصادر أراضيهم، وفوق ذلك تفرض عليهم سياسات شوفونية، وسياسات تكريد تستغل مدارسهم”.

نزفٌ مستمر

مستحضراً ما ورد في الإنجيل بما معناه “أننا سنكون خرافاً بين الذئاب”، قال سمير، الشاب المسيحي من مدينة الحسكة شمال شرق سوريا، إننا “نرى المشهد بأم أعيننا”.

وخلافاً لغيره من مسيحيين تحدثت إليهم “سوريا على طول” لغاية إعداد هذا التقرير، فهو موال للحكومة السورية، لكنه يتفق معهم في أن المسيحيين مستهدفون “في حرب تحاول أن تقتلعنا من جذورنا”، بحسب وصفه.

واستهداف المسيحيين ليس عشوائياً، كما قالت الدكتورة مبيض، بل هنك “مسار ممنهج لتهجير هذه الفئة، وإخراجها من أرضها وأرض أجدادها”. في المقابل، فإن “كل محاولات وادعاءات حماية المسيحيين في الشرق الأوسط، والتي تقودها دول، لم تفضِ إلى نتيجة. وهذا إن دلّ فإنه يدل على أن الآليات غير سليمة”.

ويتزايد الخوف من هجرة المسيحيين في أوساط المسيحيين، ويتصاعد الحديث عنه في الإعلام بعد كلّ حدث يستهدف وجودهم في سوريا. إذ في أعقاب تفجيرات القامشلي ومقتل الأب هوسيب “عادت أجواء القلق وعدم الاستقرار في الشارع المسيحي بشمال شرق سوريا”، بحسب ما ذكر شاب مسيحي من سكان القامشلي لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية.

وأضاف: “هناك مسيحيون يفكرون أصلاً في الهجرة وينتظرون الفرصة. فيما هناك مسيحيون لم يفكروا في الهجرة سابقاً، [لكن] مع توالي الأحداث ضدهم أصبحوا يفكرون في ذلك”.

دياربكرلي بدوره أكد أن “الهجرة مستمرة وبشكل كبير”. مضيفاً: “يؤسفني أن أقول ذلك، لكن في ظل انعدام أي بصيص أمل في المستقبل المنظور، وفقدان الأمن، فإن الخيار الوحيد هو الهجرة”. معتبراً أن “مسيحيي سوريا هم مشروع اغتيال أو تهجير أو سطو على الأملاك، في ظل غياب أي جهة تتعامل معهم بطريقة كريمة”.

وتؤكد الأرقام التي حصلت عليها “سوريا على طول” من منظمة “سوريون مسيحيون من أجل حقوق الإنسان”، استمرار هجرة المسيحيين من سوريا، بحيث تناقص عددهم إلى نحو 500 ألف نسمة في العام 2018، مقارنة بقرابة 800 ألف نسمة في العام 2016، مع استمرار تشكيلهم نسبة 3% من السوريين عموماً خلال هذه الفترة، مقارنة بنسبة 10% قبل العام 2011.

استخدام ورقة المسيحيين لأغراض دعائية

خلال مقابلة في شباط/فبراير الماضي، مع إذاعة “سي. بي. إن. نيوز” الأميركية، ذات التوجه الديني، حذر الرئيس المشارك لمجلس سوريا الديمقراطية، الجناح السياسي لـ”قسد”، بسام إسحاق، من أن وجود المسيحيين في شرق سوريا مهدد، معتبراً أن الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا تمثل “فرصة ذهبية” لضمان الحريات الدينية في الشرق الأوسط.

وفي أكثر من مناسبة، دعت الإدارة الذاتية إلى حماية الأقليات في سوريا. إلا أن خطابها السياسي والإعلامي تصاعد بالتزامن مع التهديدات التركية بعمل عسكري شمال شرق سوريا. وبعد بدء عملية “نبع السلام” طالبت المجتمع الدولي بتحمل مسؤوليته تجاه الأقليات.

لكن على النقيض من ذلك، أعلنت بطريركية الأرمن في تركيا دعمها للعملية العسكرية التركية ضد وحدات حماية الشعب، بحسب الإعلام الرسمي التركي.

ورغم موقفه الرافض لعملية “نبع السلام”، قال الشاب المسيحي من القامشلي إن “قسد تلعب على وتر المسيحيين، وأنها تحمي الأقليات، والضامن الوحيد لهم، وخاصة في الفترة الأخيرة”. مؤكداً أن هناك “تضخيماً كبيراً” في هذا الملف.

كذلك، لفت دياربكرلي إلى أن المرصد الآشوري لحقوق الإنسان يصف عملية “نبع السلام” في بياناته بأنها “عدوان تركي”، وأن “أي تدخل أجنبي أو عمل عسكري ضد دولة أخرى هو عدوان”. لكنه مع ذلك استنكر دعاية الإدارة الذاتية، إذ “كأن الحرب والعدوان فقط على المسيحيين، وتركيا لا تريد إلا قتل المسيحيين”.

وإلى جانب استنكارها استغلال ورقة المسيحيين من قبل الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا “كأداة”، اتهمت مبيض تلك الإدارة بمحاولات “تغيير أو تزييف نتائج الإحصاءات في المنطقة لتغليب فئة على فئة. إلى جانب تبنيها أيديولوجيا العلمانية الشمولية التي لا تتوجه بشكل إيجابي تجاه الثقافات الدينية، بما في ذلك المسيحية”.

المسيحيون لم يسلموا أيضاً من حكومة دمشق التي “استخدمت ورقة المسيحيين مدعية حمايتهم، إلا أنها في الحقيقة استخدمهم للاحتماء بهم، والإبقاء على [قبضتها على] الحكم”، بحسب مبيض.

وإذا كان دعاة حماية المسيحيين، بما في ذلك الإدارة الذاتية، تعتقد أنها باستخدام ملف المسيحيين “ستدغدغ مشاعر الغرب، فإن الغرب لا يهتم بهذه القضية” برأي دياربكرلي، فالغرب ذاته “يستخدم مسيحيي الشرق الأوسط في حروبه السياسية”.

معتبراً أن “الورقة المسيحية تغتصب من كل أطراف النزاع في البلاد. مع الأسف أقولها إن ما يحدث مع المسيحيين هو نوع من أنواع الاغتصاب”.

شارك هذا المقال