7 دقائق قراءة

مزاعم الانسحاب الأميركي تقض مضاجع سكان شمال شرق سوريا فماذا لو حدث؟

تشهد مناطق سيطرة "قسد" في شمال شرقي سوريا توازناً نسبياً بسبب الوجود الأميركي، من وجهة نظر السكان المحليين، وبالانسحاب سوف يتزعزع هذا التوازن وتتغير خارطة السيطرة والنفوذ.


بقلم سلام علي

15 فبراير 2024

الحسكة- في متجره المكتظ بالزبائن في مدينة القامشلي، شمال شرق سوريا، كان ماهر الزعيم يتصفح آخر الأخبار المرتبطة بنية الولايات المتحدة الانسحاب من المنطقة الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، عبر هاتفه الجوال، ثم وضعه جانباً وقال: “الانسحاب انتحار بالنسبة لنا، كأنهم يرموننا وسط النيران ويغادرون”.

عاش الزعيم، النازح من مدينة رأس العين (سري كانيه)، تجربة صعبة، عندما انسحبت القوات الأميركية من نقطة المراقبة في تل أرقم، التي تبعد ثمانية كيلومترات إلى الغرب من مدينته، قبل يومين من عملية نبع السلام العسكرية، التي أطلقتها تركيا بمشاركة فصائل الجيش الوطني (المعارض)، في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ضد “قسد” في رأس العين التابعة لمحافظة الحسكة، وتل أبيض التابعة لمحافظة الرقة، ما اضطره إلى مغادرة المدينة، حاله حال الآلاف، تاركاً وراءه سلسلة محلات تجارية.

وعليه، يخشى الزعيم من نزوح آخر لا يعرف وجهته، وأن يخسر مجدداً مصدر رزقه، وهو عبارة عن سوبر ماركت افتتحها بالشراكة مع إخوته بعد نزوحهم ووضعوا فيها كل ما يملكونه من مال، كما قال لـ”سوريا على طول”. 

تجددت مخاوف الانسحاب الأميركي بعد أن نشرت مجلة “فورين بوليسي” الأميركي، في أواخر كانون الثاني/ يناير الماضي، عن نية واشنطن سحب قواتها من سوريا، ورغم نفي البيت الأبيض “التسريبات” عن نيته بالانسحاب، إلا أن ذلك لم يبدد مخاوف الزعيم، معتبراً أنه “لا يمكن الاعتماد على واشنطن التي خدعتنا سابقاً”، وقد “تعيد الكرّة مرة أخرى في أي لحظة”، على حد تعبيره.

“الوجود الأميركي يخلق حالة من الاستقرار والأمان ويقلل من خطر الأعداء وفي مقدمتهم تنظيم داعش”

فكرة الانسحاب تخلق حالة من الخوف والهلع في صفوف المدنيين بمناطق سيطرة “قسد”، حتى إن كان ذلك مجرد حديث لم ينفذ على أرض الواقع، كما قال أكثر من مدني تحدثوا لـ”سوريا على طول” أثناء إعداد هذا التقرير.

“الوجود الأميركي يخلق حالة من الاستقرار والأمان ويقلل من خطر الأعداء وفي مقدمتهم تنظيم داعش”، بحسب أحمد عمر (اسم مستعار)، الذي يعمل في منظمة دولية بالحسكة، معتبراً في حديثه لـ”سوريا على طول” أن “الوضع سيكون كارثياً حال انسحاب [القوات الأميركية]”.

في 11 شباط/ فبراير الحالي، عندما كان الزعيم يسرد مخاوفه لـ”سوريا على طول” سُمع صوت انفجار قوي، تبين فيما بعد أنه ناجم عن استهداف مسيرة تركية لمبنى يضم جرحى “قسد” وسط القامشلي. أثناء حديثه توقع الرجل النازح من رأس العين (سري كانيه) أن ينتج عن الانسحاب الأميركي “هجوم كبير من تركيا أو النظام السوري وإيران”، معتبراً أنهم “ينتظرون فرصة لشن هجوم ضد المنطقة، وبالتالي فإن الانسحاب هلاك لنا، وخاصة الكرد”، على حد قوله.

أطراف تتربص بالمنطقة

في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، اختبر سكان شمال شرق سوريا وقادة “قسد” الولايات المتحدة، بصفتها الحليف الرئيسي، التي قررت سحب كامل قواتها من المنطقة، قبل أيام من عملية “نبع السلام”، لكن تحت ضغوط “البنتاغون”، أبقت القوات الأميركية 900 جندي في شمال شرق سوريا.

سحب ما تبقى من القوات الأميركية يفسح المجال أمام تركيا، التي تستهدف المنطقة بغارات جوية وطائرات مسيرة منذ عدة أشهر، ما أدى إلى تدمير العديد من المراكز الخدمية ووقوع ضحايا في صفوف المدنيين.

اقرأ المزيد: “ندفع ثمن صراعهم”: المدنيون في شمال سوريا تحت قصف دمشق وأنقرة

وبما أن أنقرة تصرح عن رغبتها علناً بشن عملية برية ضد “قسد” على حدودها الجنوبية، فإن “الانسحاب الأميركي سيفسح المجال لها بتنفيذ تهديداتها، وسيكون بمثابة التخلي عن الأكراد”، وفقاً للباحث والصحفي عبد الحليم سليمان، الذي ينحدر من مدينة رأس العين (سري كانيه).

أيضاً، يصب الانسحاب -حال حدوثه- في مصلحة النظام السوري وحليفه الإيراني، اللذين يتربصان تجاه المنطقة أيضاً ولديهما محاولات عبر “الميليشيات المدعومة منهما”، وبالتالي “الانسحاب الأميركي سيتيح المجال أمام إيران لملئ الفراغ”، كما قال سليمان لـ”سوريا على طول”.

ولا يغيب عن سليمان الخطر الثالث، المتمثل بتنظيم “داعش”، الذي استدعى دعم “التحالف الدولي” بقيادة الولايات المتحدة لقوات “قسد” من أجل القضاء عليه. رغم إعلانهما القضاء عليه في آذار/ مارس 2019، إلا أن التنظيم “يبحث عن أي خلل أو فراغ أو مجال ليستعيد نشاطه ونشاط خلاياه في المنطقة”، بحسب سليمان، خاصة أنه “ما يزال ينفذ عمليات ضد عاملين في مؤسسات الإدارة الذاتية وعناصر قوى الأمن الداخلي وقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا”.

منطقة شمال شرق سوريا تعيش توزاناً بسبب وجود القوات الأميركية وقوات التحالف، وبالانسحاب سوف يتزعزع هذا التوازن وتتغير خارطة السيطرة والنفوذ

شهدت المنطقة خلال العامين الماضيين أحداثاً يرى فيها الصحفي سليمان “مؤشراً حقيقياً” على نشاط خلايا داعش، أبرزها هجوم التنظيم على سجن الصناعة في مدينة الحسكة، ومواصلة تنفيذ عملياته داخل مخيم الهول ونشر فكره المتشدد داخله، ما يعني أنه “قادر على لملمة نفسه مرة أخرى، في ظل وجود خلايا له في البادية السورية والمناطق التي احتلتها تركيا خاصة في سري كانيه وريفها وريف تل أبيض”، على حد قوله.

صحيفة “فورين بوليسي” بدورها حذرت من مخاطر الانسحاب، معتبرة أنه بمثابة “هدية لتنظيم الدولة الإسلامية”، ناهيك عن تأثيره المأساوي “في أزمة سوريا غير المحلولة والمتفاقمة بشدة”.

واعتبر الصحفي سليمان أن منطقة شمال شرق سوريا تعيش توزاناً بسبب وجود القوات الأميركية وقوات التحالف، و”بالانسحاب سوف يتزعزع هذا التوازن وتتغير خارطة السيطرة والنفوذ وتدخل المنطقة في سيناريوهات مختلفة لا نعلم نهايتها”.

وفي تصريح رسمي هذا الشهر، قال القائد العام لـ”قسد”، مظلوم عبدي، أنهم تواصلوا مع الخارجية الأميركية والبيت الأبيض، ونفوا صحة الانسحاب من عمليات محاربة “داعش”، على الأقل حالياً، ومع ذلك “احتمال الانسحاب سيكون وارداً في المستقبل”، مشيراً إلى أن “العمل على منع انسحاب الجيش الأمريكي من أولوياتنا”.

وحذر عبدي من أن أي انسحاب سيؤدي “إلى تداعيات خطيرة جداً”، وأن “الظروف غير مناسبة” حالياً للانسحاب.

أميركا تركتنا لوحدنا، وجعلتنا نعيش بقلق دائم. يجب عليهم أن يعيدونا إلى منازلنا لا أن ينسحبوا.

“تركتنا لوحدنا”

أمام مكتب عقاري في مدينة الحسكة، كان محمد الجاسم، 60 عاماً، يتبادل أطراف الحديث مع جاره إبراهيم الجاسم، 65 عاماً، قائلاً: “أردوغان لا يتوقف عن قصف منطقتنا [حالياً]، فماذا سيكون حالنا إذا انسحبت أميركا”، ليرد على سؤاله بنفسه: “الوضع سيكون خطيراً”.

عبر الرجلان عن مخاوفهما من أي قرار أميركي مفاجئ بشأن الانسحاب، لذلك يتعين على واشنطن “أن تعيد حساباتها بشأن منطقتنا، وألا تنسحب من شمال شرق سوريا قبل تحقيق حل سياسي”، قال إبراهيم لـ”سوريا على طول”.

في الوقت الذي يعد الوجود الأميركي بشمال شرق سوريا “عامل استقرار”، لا سيما لـ”قسد” وجناحها المدني المتمثل بـ”الإدارة الذاتية”، فإنه أيضاً يلعب دوراً في خلق الفوضى والضغط على المدنيين، خاصة مع تكرار التصريحات بشأن الانسحاب.

في شباط/ فبراير 2023، قدم النائب الجمهوري، مات جايتز، مشروع قرار إلى “الكونغرس” يلزم الرئيس الأميركي، جو بايدن، بسحب قواته من سوريا، ودعم السفير الأميركي السابق لدى سوريا، روبرت فورد، مطالب الانسحاب عبر رسالة وجهها إلى الكونغرس. بعد شهر، رفض أعضاء مجلس النواب الأميركي انسحاب قوات بلادهم من سوريا.

تتأثر الأسواق في شمال شرق سوريا بمجرد الحديث عن الانسحاب الأميركي، وقد تنخفض المبيعات في بعض القطاعات بنسبة 50 بالمئة، بحسب ماهر الزعيم، وفي حال صار “الانسحاب جدياً”، سيتوقف التجار عن شراء البضائع “خشية تكسدها أو خسارتنا لها في حال نزوحنا من المنطقة”، على حد قوله.

صبحية أحمد سلمان، 50 عاماً، المقيمة في الحسكة منذ نزوحها من قرية داودية ملا سلمان بريف رأس العين في أواخر 2019، لم تسمع بالأنباء الأخيرة عن نية واشنطن بالانسحاب، ومع ذلك تشعر أن “أميركا تركتنا لوحدنا، وجعلتنا نعيش بقلق دائم”، قائلة: “يجب عليهم أن يعيدونا إلى منازلنا لا أن ينسحبوا”.

مخاوف المدنيين من فكرة الانسحاب الأميركي “منطقية” من وجهة نظر إسحق بوزي، المدير التنفيذي لمنظمة كوباني للإغاثة والتنمية، لأن “الإدارة الذاتية وقسد لوحدهما غير قادرين على حماية المنطقة، وبالتالي أي انسحاب أميركي من دون اعتراف رسمي وسياسي بهما يعني نهايتهما”، كما قال.

“ورغم ما تمتلكه قسد من قوة وما قدمته من تضحيات في سبيل مكافحة الإرهاب وبناء إدارة ذاتية تمثل أبناء المنطقة إلا أنها غير قادرة على مواجهة تركيا التي تعد ثاني أكبر قوة في حلف الناتو”، بحسب بوزي.

التداعيات على المجتمع المدني

تسعى المنظمات الدولية غير الربحية ومنظمات المجتمع المدني المحلية إلى سد احتياجات شمال شرق سوريا الإنسانية، وتحمل على عاتقها تأمين بعض الخدمات، التي يجب على الإدارة الذاتية تأمينها، من تأهيل البنى التحتية ودعم القطاع الصحي والتعليمي وغيره من القطاعات.

يشكل وجود الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا عامل أمان بالنسبة للمنظمات والعاملين فيها، لا سيما المنظمات الدولية، ما يعني أن “صدى الانسحاب يؤثر بشكل كبير على عمل المنظمات في المنطقة”، بحسب علي العليص، المدير التنفيذي لمنظمة أسفير المحلية في الرقة، وعضو بورد لتحالف منظمات المجتمع المدني في شمال شرق سوريا.

لذلك، قد تواجه المنظمات “صعوبة في تحديد استراتيجياتها وخططها المستقبلية نتيجة عدم وضوح السياسة الخارجية بشأن الدعم والتدخل في المنطقة”، كما أن الانسحاب المحتمل “قد يؤدي إلى تغييرات في الدعم المالي والموارد المتاحة للمنظمات المحلية، وبالتالي ستواجه تحديات جديدة في تمويل برامجها ومشاريعها”، وفقاً للعليص.

وفي هذا السياق، قال بوزي: “معظم المنظمات الدولية والمانحين يلجؤون إلى المناطق الآمنة والأكثر استقراراً للعمل أو لتقديم الدعم للمنظمات المحلية، وكون معظم المنظمات العاملة في المنطقة تخطت مرحلة العمل في حالات الطوارئ وبدأت بمرحلة الاستقرار والاستدامة فإن أي تصريح عن الانسحاب سينعكس على المنظمات”، مشيراً إلى أن منظمته “تأثرت كثيراً بالتصريحات، لأن طبيعة مشاريعنا تحتاج إلى الاستقرار والاستدامة كونها مشاريع تنموية”.

وأوضح العليص أن انسحاب الولايات المتحدة لا يؤثر على المشاريع الإنسانية والخدمية الممولة من خزينتها فحسب، وإنما له تأثير “على الشراكات الدولية والمحلية، وقد يصعب الوصول إلى الموارد اللازمة وبالتالي توقف البرامج الإنسانية في منطقتنا”، لأن “فقدان الثقة بالوجود الأميركي يؤدي إلى تراجع الدعم المالي للمشاريع الجديدة من الجهات المانحة”.

حتى إن كان الحديث عن الانسحاب الأميركي “مجرد شائعات” إلا أن تكرار تداول الأنباء حول ذلك “يؤدي إلى عدم اليقين بشأن المستقبل، ما يجعل من الصعب التخطيط لمشاريع جديدة ومستدامة”، بحسب العليص.

في عام 2019، انسحبت معظم المنظمات الدولية من مدينة عين العرب (كوباني) على خلفية انسحاب القوات الأميركية منها، ونتج عن ذلك توقف غالبية المنظمات المحلية، وبالتالي خسارة سكان المنطقة للعديد من الخدمات وفقدان عشرات العاملين في المنظمات المحلية لوظائفهم.

إلى جانب خوفه من تداعيات الانسحاب الأميركي على المنطقة وأمنها، يشعر أحمد عمر، 49 عاماً، بقلق إزاء عمله مع إحدى المنظمات الدولية في الحسكة، لأنه “من الوارد جداً أن تنسحب المنظمات الدولية من المنطقة، وهذا سيخلق أزمة معيشية لنا وتسوء أوضاعنا”،  كما قال لـ”سوريا على طول”.

ولن يتسبب توقف عمل المنظمات بتراجع الوضع المعيشي للعاملين فيها فحسب، بحسب عمر الذي يعيل عائلة من أربعة أفراد، وإنما “سيفاقم وضع النازحين في المخيمات، الذين يتلقون المساعدات الإغاثية من المنظمات”.

ومن الناحية الأمنية، يؤدي الانسحاب الأميركي إلى “تدهور الوضع الأمني في المنطقة، ما يعني أن المنظمات ستقدم خدماتها في بيئة أقل استقراراً”، وقد تصل مخاطر الانسحاب إلى حدّ “الاستهداف الشخصي لنا كأفراد، كون معظم العاملين في المنظمات هم نشطاء ومعارضين للنظام السوري”، كما أوضح العليص لـ”سوريا على طول”، مشدداً أيضاً على أن “التقارب الروسي-التركي أيضاً هو من التحديات التي يواجهها المجتمع المدني، وفي هذا التقارب تهديد لحياتنا أيضاً”.

وكذلك، “هناك مخاطر من عودة التنظيمات المتطرفة، خصوصاً أننا نلاحظ في هذه الفترة نشاطاً ملحوظاً له”، وقد تكون المنظمات على قائمة المستهدفين “كون أغلبها تعمل على مواجهة الفكر المتطرف والتوعية من مخاطره”، بحسب العليص.

يرى عمر أن “وجود أميركا ولو بجندي واحد يشكل عامل استقرار في المنطقة، ويؤثر إيجاباً على حياتنا وعلى الوضع السياسي في المنطقة”.

وسط حالة الفوضى والإرباك التي تسببت بها تصريحات واشنطن الأخيرة، يتمنى ماهر الزعيم “أن لا تتخذ أمريكا قراراً من شأنه أن يجر المنطقة إلى أهوال وخيمة، وأن لا تتخلى عنا مجدداً كما فعلت سابقاً”.

شارك هذا المقال