7 دقائق قراءة

“انقرضوا”: هل تُقرع أجراس كنائس الرقة مجدداً؟

عندما سئل عن مسيحيي مدينة الرقة في شمال شرق سوريا، أجاب مراد (اسم مستعار) بأنهم "انقرضوا". لا يوجد في الرقة حالياً سوى 26 شخص، من أصل 4800 شخص كانوا قبل عام 2011.


الرقة- إذا مشيت من دوار النعيم في مدينة الرقة، شمال شرق سوريا، باتجاه الجنوب، مروراً بنقابة المعلمين سابقاً، تصل إلى حديقة الرشيد المحاذية لكنيسة الشهداء، في هذا المكان ستجد رجلاً، أسمر البشرة، يجلس لساعات طويلة يومياً.

عند اقترابك من الرجل، تجده حذراً من المارة، وتخاله منزعجاً، لكن إذا فتحت حديثاً معه ترى صورة مغايرة، فهو رجل سمح، يحب الحديث، ولا يتردد في الإجابة عن أي سؤال. هذا الشخص اسمه مجحم، عينته مؤسسة الشؤون الدينية في الرقة، التابعة لمجلس الرقة المدني، حارساً للكنيسة، بعد أن تم ترميمها وافتتاحها رسمياً في أيار/ مايو 2022.

“المسيحيون مكون من مكونات الرقة، لا بد من احترامهم واحترام معتقداتهم”، قال مجحم لـ”سوريا على طول”، وهو لا يجد حرجاً من عمله كحارس للكنيسة، لكنه يعاني أحياناً من الكلام المسيء والتوبيخ “من بعض الفتية”، معتبراً أن ما يتعرض له من إساءة نتيجة طبيعية لـ”فكر تنظيم داعش، الذي تركه، ولن يُمحى لسنوات” على حد قوله.

على بعد بضعة أمتار جنوب الكنيسة تجد مسجد أبو هريرة، المعروف محلياً بجامع “الشراكسة”، أما إذا تابعت إلى الجنوب الغربي يصادفك ركام مبنى مدمر، يظهر منه حائط عليه رسوماً وألوان. هنا كانت كنيسة سيدة البشارة، التي تدمرت بفعل طيران التحالف الدولي، في آب/ أغسطس 2017 أثناء عملية القضاء على تنظيم “داعش”.

بعد منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2017، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) طرد تنظيم داعش من الرقة، في عملية عسكرية مدعومة من التحالف الدولي. لكن بعد أكثر من خمس سنوات على طرد “داعش” تكاد الرقة تكون خالية من سكانها المسيحيين، باستثناء عودة أعداد محدودة.

“انقرضوا”

عندما سُئل عن مسيحيي مدينة الرقة، في شمال شرق سوريا، أجاب مراد (اسم مستعار)، مسيحي من الرقة، برسالة نصية عبر تطبيق “واتساب” بأنهم “انقرضوا”. لكن تواصله عبر واتساب لم يتسع لحجم القهر الذي يشعر به، فطلب لقاء وجاهياً مع معدّ التقرير، وكان له ذلك في محل أحد أصدقائه بحي الفردوس، أحد أحياء المدينة.

كان مراد رساماً، قبل أن يترك مهنته إبان سيطرة تنظيم داعش على المدينة، في أواخر عام 2014، نظراً لمخالفتها الشريعة الإسلامية، بحسب فكر التنظيم، وخوفاً على نفسه. مع ذلك لم يسلم من التنظيم، الذي حول محله الكائن في أحد أقبية البنايات وسط المدينة إلى محكمة شرعية (حسبة)، كما قال لـ”سوريا على طول”.

منذ دخول تنظيم “داعش” إلى الرقة توقفت أجراس كنائسها، ونتيجة تضييق التنظيم على المسيحيين في المدينة، التي حولها إلى عاصمة له في سوريا، وفرض “الجزية” عليهم، وحرمانهم من ممارسة معتقداتهم، تركوا الرقة إلى مدن سورية خارج سيطرة التنظيم أو هاجروا خارج البلاد.

وينقسم المسيحيون في الرقة إلى قسمين، الأول: جزء من سكانها الأصليين الذين سكنوا فيها منذ إنشائها، والثاني: الأرمن الذين هربوا من تركيا بعد فرارهم من الإبادة الجماعية، التي ارتكبها قوميون أتراك في عهد الامبراطورية العثمانية، واستقروا في عدد من المحافظات السورية، بما فيها محافظة الرقة، وتوزعوا على مدينة الرقة، الطبقة، وتل أبيض.

يقطن في مدينة الرقة حالياً 13 عائلة مسيحية، متوسط أفراد العائلة الواحدة شخصين، أي بعدد إجمالي 26 شخصاً، بينما بلغ أعداد العائلات المسيحية، قبل عام 2011، نحو 800 عائلة، متوسط أفرادها 6 أشخاص، أي نحو 4800 شخصاً، بحسب أرقام حصلت عليها “سوريا على طول” من المرصد الآشوري لحقوق الإنسان، وهو مركز يعنى بقضايا المسيحيين في الشرق الأوسط، مقره السويد.

وقال مصدر مدني مسيحي من سكان الرقة لـ”سوريا على طول” أنه “لا يوجد من بين المسيحيين العائدين إلى الرقة أطفال أو شباب، وغالبيتهم يتنقلون بين الرقة ومناطق أخرى، أي لا يقيمون إقامة دائمة فيها”.

بداية الحكاية

في الخامس من آذار/ مارس 2013، سيطر الجيش الحر على مدينة الرقة، وهي أول مركز محافظة يسقط بشكل كامل بيد فصائل الجيش الحر، لكن ما لبثت أن تصدرت الفصائل الإسلامية، من قبيل أحرار الشام وجبهة النصرة وغيرها المشهد العسكري في الرقة.

بعد أشهر من خروج الرقة عن سيطرة النظام، بدأ تنظيم “داعش” بالتغلغل في الرقة عبر بوابة “الإسلاميين”، ونفذ عمليات تصفية وخطف، كانت ذروتها في صيف 2013، عندما اختطف الأب الإيطالي باولو دالوليو، في أواخر تموز/ يوليو 2013، وما يزال مصيره مجهولاً إلى اليوم. 

الأب باولو، رجل دين مسيحي إيطالي الجنسية، خدم في دير مار موسى الحبشي، على بعد 100 كيلومتراً شمال دمشق. ونظراً لموقفه الداعم للثورة السورية نُفي إلى خارج سوريا عام 2012، فعاد إليها، لكن إلى مدينة الرقة في 23 تموز/ يوليو 2013، بالتزامن مع معارك التنظيم ضد المعارضة وجبهة النصرة.

في مطلع عام 2014، تمكن تنظيم داعش من السيطرة على مدينة الرقة وطرد الفصائل إلى ريف حلب، ولاحق المنتمين لتلك الفصائل، من الذين لم يعلنوا مبايعته. تالياً، بدأ بمنهج التضييق على سكان الرقة مسلمين ومسيحيين، وفرض النقاب على النساء، وألزم الرجال بإطلاق اللحى.

في أواخر شباط/ فبراير 2014، أعلن تنظيم داعش عن التوصل إلى اتفاق -دون تسمية الطرف الآخر- يتضمن 12 قاعدة تهدف إلى “ضمان حماية المسيحيين”، ومن بنود الاتفاق إلزام المسيحيين بدفع الجزية، وأن يمتنعوا عن رسم الصليب على أي شيء أو مكان في الأسواق أو الأماكن التي يكون فيها مسلمون، وكذلك منع استخدام مكبرات الصوت وإقامة شعائرهم خارج الكنائس.

أمام هذا التضييق “كنت أحسب مليون حساب قبل النزول إلى الشارع”، قال مراد، الذي بقي صامداً في الرقة حتى أيار/ مايو 2017، حيث نزح إلى الطبقة بعد طرد “داعش” على يد “قسد” منها، وما يزال حتى الآن يتنقل بين الطبقة والرقة، بينما غالبية أقرانه تركوا الرقة في الأشهر الأولى من سيطرة التنظيم، كما قال.

بين تنظيم “داعش” والحرب عليه، تعرضت كنائس الرقة لقصف طيران التحالف الدولي، إذ تسبب القصف على حي الثكنة، في آب/ أغسطس 2017، بتدمير كنيسة “سيدة البشارة”. وكان التنظيم قد حول الكنائس في الرقة، منذ سيطرته عليها، إلى مراكز له، فتم تحويل كنيسة الشهداء للأرمن إلى مكتب دعوي، وكنيسة سيدة البشارة إلى مكتب إداري عام، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان. 

هجرة دون عودة

ينقسم مسيحيو الرقة إلى ثلاثة طوائف، أكبرها الروم الكاثوليك، ولهم كنيسة سيدة البشارة في حي الثكنة، والأرمن الكاثوليك، ولهم كنيسة الشهداء قبالة حديقة الرشيد وسط المدينة، ثم الأرمن الأرثوذكس ولهم كنيسة داخل مدرسة الحرية في شارع القوتلي.

تاريخياً، ذاع صيت الأرمن في المجال الحرفي والصناعي، إذ كان لهم بصمة إبداع تميزهم عن غيرهم، وهذا ما يفسر تركز وجود غالبية مسيحيي الرقة (الأرمن) في حي الصناعة بمدينة الرقة.

يستذكر محمد جميل، الذي كان يعمل حارساً في المنطقة الصناعية قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، كيف “كانت المنطقة الصناعية عامرة يوم الجمعة، وجميع محالها مفتوحة الأبواب، بينما كانت فارغة يوم الأحد، في إشارة لكثرة المسيحيين فيها”، على حد قوله.

وأثناء حديثه لـ”سوريا على طول” كان يشير جميل بسبابته ويقول: “هنا كان أرمني، ويجاوره آخر، ويقابله محلٌ لقريبه الأرمني، وبعده ابن عمه… أما هذا كان محلاً لأخوين”، وكان معظم هؤلاء “يعملون في صيانة محركات الديزل، لكن جميعهم غادر الرقة وباعوا ممتلكاتهم”، قالها بحسرة.

ومن أسباب عدم عودة المسيحيين إلى الرقة والمدن الأخرى التابعة للمحافظة، مثل مدينة الطبقة، رغم عودة العديد من السكان “منع فصائل تابعة لقسد المسيحيين من العودة إلى منازلهم”، بحسب مراد، متهماً “لواء الشمال الديمقراطية بالسيطرة على منازل المسيحيين في الطبقة”، على حد قوله. 

بحسب تقرير لمنظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، نشر في كانون الأول/ ديسمبر 2020، استولى لواء الشمال على 80 منزلاً تعسفياً في أحياء من مدينة الرقة، ونقلت عن مصدر خاص من بلدية الشعب أن عدد المنازل المستولى عليها، التي رُفعت شكاوى من قبل أصحابها ضد جهات عسكرية تابعة لـ”قسد”، بلغ حوالي 1200 منزلاً في عموم الرقة، منذ أواخر 2019 وحتى حزيران/ يونيو 2020.

لكن الأهم من ذلك، أن النزعة العشائرية والمذهبية، وسياسة رفض الآخر التي رسخها تنظيم داعش، حالت دون عودة الكثير من المسيحيين، ما دفعهم إلى بيع منازلهم بأثمان بخسة، بحسب مراد، مشيراً إلى تراجع عدد المنازل التي يملكها مسيحيون في الرقة، في السنوات الأخيرة، من 237 منزلاً إلى 96 منزلاً، مرجعاً معرفته بالأرقام إلى كونه أحد الأشخاص الموكلة إليه متابعة أملاك المسيحيين في المنطقة.

بالنسبة لأولئك الذين باعوا منازلهم في الرقة “لا يمكنهم الشراء مجدداً سبب ارتفاع أسعار العقارات بشكل كبير، ونظراً لشعورهم أن المجتمع لا يتقبلهم، بعد أن زرع تنظيم داعش مبدأ نبذ الآخر”، وفقاً لمراد.

لا يوجد من يقرع الأجراس

في هجرة عكسية، نزح الشاب جورج (اسم مستعار) من مدينة تل أبيض بريف الرقة الشمالي إلى مدينة الرقة، في أواخر عام 2019، على خلفية هجوم الجيش الوطني السوري (المعارض) بدعم تركي على مدينتي تل أبيض ورأس العين ضمن ما يعرف بعملية “نبع السلام”، وافتتح الشاب الأرمني محلاً في حي الصناعة بالرقة، كما قال لـ”سوريا على طول”.

تحاكي قصة المسيحيين في الرقة أقرانهم في مدينة تل أبيض، التي كان يسكنها نحو 150 عائلة مسيحية، لكن نزح غالبيتهم بعد سيطرة تنظيم “داعش” على المحافظة، وتجدد نزوح من عاد منهم إلى المدينة بعد سيطرة المعارضة السورية، كما حصل مع جورج.

منذ قدومه إلى الرقة، لم يصادف جورج أكثر من عشرة مسيحيين في المدينة، معتبراً أن “افتقاد المسيحيين لمكان يجتمعون فيه دورياً يؤدي إلى فقدان الترابط بينهم، ويعزز مخاوفهم من الخروج من بيوتهم، لا سيما نسائهم”.

في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أعلن مجلس الرقة المدني افتتاح كنيسة الشهداء بعد الانتهاء من ترميمها، الذي بدأ عام 2019، وهي من الكنائس التي تضررت بفعل المعارك بين “قسد” و”داعش” عام 2017، لكنها افتتحت رسمياً في أيار/ مايو 2022.

رغم افتتاح الكنيسة، “لم تقرع أجراسها ولم تقام فيها الصلوات، نظراً لعدم وجود خوري يقيم الصلوات”، كما قال مسيس (اسم مستعار) لـ”سوريا على طول”، ويعود ذلك إلى “مخاوف رجال الدين، وعدم فرز المطرانية رجل دين للكنيسة”. وفيما يقيم الرجل صلواته بمنزله في الرقة يكتفي بزيارة الكنيسة من وقت لآخر.

تعليقاً على ذلك، قال مراد أن الأمر لا يتعلق برجال الدين فقط، وإنما يشترط بعضهم “عودة النظام إلى الرقة ورفع علمه فيها”، كشرط للعودة إلى المدينة وإقامة الصلوات في الكنيسة، مستنداً في معلومته إلى نقاش جرى بين رجال دين مسيحيين أثناء ذهابه لواجب عزاء في الحسكة.

تؤدي الكنائس والنوادي “دوراً مهماً في تعارف أبناء الطائفة الواحدة وتقوية العلاقات فيما بينهم، لكن مع عدم إقامة الصلوات في الكنيسة وعدم تفعيل النوادي، بات مسيحيو الرقة عبارة عن أشخاص متناثرين لا يعرفون بعضهم”، بحسب مراد، مختتماً حديثه “هذا يدعونا لدق ناقوس الخطر تحذيراً من أن الرقة ستفقد أحد مكوناتها بعد سنوات قليلة

تم إنتاج هذا التقرير كجزء من برنامج مراس، الذي تنفذه “سوريا على طول” لتمكين الصحفيين والصحفيات في شمال شرق سوريا.

شارك هذا المقال